صفحات الناس

ثلاثة أفلام عن اللجوء: هروب إلى الحرية؟/ هوفيك حبشيان

 

 

قضايا الهجرة “غير الشرعية” واللجوء والنزوح، تلقي بظلالها على السينما المعاصرة من خلال مجموعة من الأفلام الوثائقية، الملمّة بحياة البشر ومعاناتهم. لم تكن الشاشة يوماً على منأى من التطورات السياسية والاجتماعية التي تجري في أنحاء العالم بأسره، لعلها الأسرع من بين الفنون في التقاط المتغييرات الطارئة والتشنجات الحاصلة. الوثائقي، خلافاً للروائي، كان دوماً محلاً لمناقشة الشؤون الآنية، نظراً لكونه لا يحتاج إلى نصّ متخيل ولا إلى ممثلين أو مسافة زمنية تجعل المقاربة أكثر نضجاً. كلّ ما يحتاج إليه مخرجه هو نظرة ذكية يرميها على الواقع. هذا ما تؤكده لنا الدورة الأخيرة من مهرجان تسالونيك (١١ – ٢٠ آذار) التي شرعت نافذة على مأساة اللجوء بعنوان “لاجئون: هروب الى الحرية؟”. يركز معظم الأفلام المعروضة في المهرجان على استحالة العيش والتكيّف مع واقع جديد عند أناس لم يختاروا الزجّ بأنفسهم في هذا الظرف. هذا الاتجاه الجديد في السينما، وجد حضناً دافئاً له أخيراً في عدد من التظاهرات السينمائية، خصوصاً تلك المنعقدة في أوروبا التي تتحمّل أوزار الحروب في الشرق الأوسط. ينبغي ألا ننسى أنّ جائزة “الدبّ الذهب” في مهرجان برلين الأخير أسندت الى “فوكاماريه” (“نار في البحر”) للإيطالي جيانفرنكو روزي. وهو وثائقي يصوّر قدوم اللاجئين إلى جزيرة لامبيدوزا على متن قوارب الموت، وفي أيّ حال يصلون، وماذا يحلّ بهم منذ تلك اللحظة؟

في موضوع الهجرة، تشكّل اليونان حالة خاصة، فهي باب للجنّة الأوروبية الموعودة، يصل إليها كثيرون هرباً من الحروب والإضطهاد واحتمالات الموت. كثرون ينامون على الأرصفة، في انتظار فرصة الإنتقال إلى بلدان أوروبية حيث الرفاهية متاحة أكثر. اليونان غالباً ممر وليس محطة نهائية. في ما يتعلق بعلامة الاستفهام التي تختم عنوان التظاهرة، فهي تنم عن ميل متعاظم لدى اليونانيين إلى انتقاد اليونان، خصوصاً منذ بلوغ الأزمة الاقتصادية ذروتها في السنتين الأخيرتين وفقدان الآلاف وظائفهم في بلد ضرب فيه الفساد أطنابه. تكاد لا تلتقي يونانياً لا يقول لك إنّ أوروبا الآن في أسوأ ظروفها، وأصبحت لا تستطيع إطعام أولادها، فكيف بالغريب. في المقابل، أشعلت موجة اللاجئين في اليونان (وهي أقوى موجة شهدتها القارة القديمة منذ الحرب العالمية الثانية)، المتنقلين إلى مجتمع لا يزال متمسكاً بأصول الأرثوذكسية، نيران الحركات الوطنية واليمينية المناهضة لكلّ غريب على أرض أفلاطون. من كلّ هذا الواقع المعقد والمتداخل، تستمد الوثائقيات موضوعاتها. ٩ أفلام عن الهجرة واللجوء عُرضت في تسالونيك ضمن هذا الإطار، نستعرض في الآتي ثلاثة منها.

 

“أنا دبلن”

“أنا دبلن”، فيلم سويدي شارك في إخراجه أربعة سينمائيين هم أحمد عبدالله، ديفيد أرونوفيتش، شرمرك بن يوسف وآنا برسون. العمل الذي سبق أن عُرض في مهرجان أمستردام، وثائقيٌّ لكن مع مقاطع نرى عبرها تصوير فيلم روائي، لدرجة أنّ الواقع ينصهر في تجسيده ليصبح على شكل حوار بينهما. لنوضح أكثر: أحمد، لاجئ صومالي شاب يجري اختياره ليمثل دور اللاجئ في فيلم قصير إنطلاقاً من تجربته، علماً أنّ ما يجسده ليس تماماً هو، كونه يضطلع بشخصية اسمها داود. هذا الفيلم داخل الفيلم هو من إخراج ديفيد أرونوفيتش الذي عثر على أحمد بعد ثلاث سنوات على دخوله أوروبا. أحياناً، نتعرف إلى قصته المؤلمة من خلال شهاداته الحيّة المباشرة، وأحياناً من خلال ذلك الفيلم القصير. أحمد في عمر المراهقة، لا يعرف كثيراً عن الحياة التي تنتظره في أوروبا، ولا عن قوانينها الصارمة (وتسامحها في كثير من الأحيان)، لكنه مستعد للتكيّف. هذه الحياة يريدها بشدة ولا يوفر فرصة الانقضاض عليها.

أحمد هذا، اجتاز السودان وليبيا براً، قبل الوصول إلى جزيرة لمبيدوزا بحراً. تنقل في بلدان أوروبية عدة، تشرّد وعاش الأمرَّين، بيد أنّ البلد الذي حطت فيه رحاله والذي تبدأ فيه أحداث الفيلم (السويد)، مصصمٌ على ترحليه إلى النقطة التي دخل منها إلى أوروبا (إيطاليا). فأحمد يشكّل حالة تُطلق عليها تسمية “حالة دبلن”، وهي معاهدة أوروبية تقضي بترحيل اللاجئ إلى أول حدود دخل منها إلى أوروبا. هناك فقط يحقّ له طلب اللجوء. سيفعل أحمد كلّ ما في وسعه، بما في ذلك إزالة بصمات يديه التي بصم فيها في إيطاليا، ليتسنى له التقدم بطلب لجوء في السويد. فأحمد لا يريد العودة إلى إيطاليا، حيث يقول إنّه عانى العنصرية وعرف البطالة. نتيجة وضعه، وفي إنتظار إيجاد حلّ لقضيته، يبقى أحمد في السويد، لا يدغدغه سوى حلمٌ واحد: الحصول على إقامة لينطلق في الحياة.

نرافق أحمد في تماسه مع البيروقراطية السويدية، نكتشف يومياته والإنتظار الذي يتخلله، وهو عنصر مهيمن على أفلام طالبي اللجوء. عدم ايجاده الإنكليزية يولد لحظات تردّد وحيرة ترفع أحياناً من توتر الفيلم الذي يمضي نحو الهدف: إظهار الفرد المكلوم داخل اللاجئ بعيداً من الفكرة المسبقة عنه. فهو من ضحايا التعميم الإعلامي. هنا، كلّ شيء يحمل اسماً، وجهاً، كلمات، أحاسيس، ردود أفعال. يدرك الفيلم جيداً، كمعظم أفلام اللاجئين المعروضة في

“تسالونيك”، أنه لن يغيّر السياسة الدولية التي أغرقت العالم في المآسي، بيد أنّه لا يستهين بسطوة الصورة. والأهم أنه يتفادى استدرار أيّ عاطفة من المُشاهد. معاناة أحمد تستغرق ستّ سنوات، منذ أن وطئ الأرض الأوروبية للمرة الأولى، فنكتشف في نهاية الفيلم شخصاً محطماً استنفد جزءاً من طاقته، رغم أنّه في ربيع العمر.”هذا منفى: يوميات لاجئين أطفال”

الفيلم الثاني، “هذا منفى: يوميات لاجئين أطفال” لماني بنشلاح، أكثر اشكالية من “أنا دبلن”، نظراً إلى الموضوع الذي ينغمس فيه، وهو بات مستنقعاً لكلّ مخرج غطس فيه: ثورة (حرب) سوريا التي تشتّت شعبها في عدد من الدول العربية والأوروبية. على مدار سنة كاملة، صوّر بنشلاح مخيمات عرسال والأطفال اللاجئين الذين تؤويهم البلدة اللبنانية. الفيلم أقرب إلى اللغة التلفزيونية والنمط الريبورتاجي. يبحث المخرج عن موضوعية وتوازن، محاولاً الإتيان بمقاربة محايدة، ما يضعّف الفيلم قليلاً. نغوص في عالم الطفولة المشتتة، “الطفولة” أو تلك الكلمة التي من المفترض أن نذيلها بصفة “بريئة”، بيد أنّ الأطفال تمّ اقحامهم في عالم الكبار من خلال ما يجري في بلادهم، فخسروا شيئاً من براءتهم في كلّ مرة جاءت تفاصيل الوضع السوري على لسانهم. كلهم، أو تقريباً، لديهم رأي سياسي أو موقف مما يجري، وغالباً يعكس آراء أهلهم. منهم مَن يُثني على “بطولات” القائد الخالد بشار الأسد في الدفاع عن الوطن، ولا يقبل أن يُقال في حقه أيّ سوء، ومنهم مَن يصرّح بأنه سبب تشرده. صغار يلعبون في الأزقة، وبين حين وآخر، يُفتضح ميلهم إلى العنف والقسوة. فما بيوت التنك إلا بيئة حاضنة للقسوة. نلتمس بوضوح لا يحتمل الشكّ تأثير الخراب السوري في عقول الأطفال ونفسيتهم، بدءاً من آية التي تروي كيف ضغط عليها عسكري لتزوّده بمعلومات عن والدها، في حين يعتقد نور الدين أنّ جنود النظام يطاردونه أينما حلّ. معظمهم يتوقون للعودة إلى ديارهم، إنما بعضهم سيحاول مغادرة لبنان إلى أوروبا حيث قد تنتظره حياة أفضل. يبقى الفيلم على سطح الأشياء، مستعملاً الشهادات وسيلة أساسية للتعبير عن المأزق الكبير الذي يعيشه السوريون حالياً. هناك جيل كامل تندثر أحلامه وسط تجاهل دولي وعجز أهلي.

 

“قصة حبّ سورية”

دائماً عن سوريا؛ فيلم عنونه مخرجه شون ماك أليستر بـ”قصة حبّ سورية”، هو على الأرجح أحد أجمل الوثائقيات عن الأزمة السورية وتأثيرها في العائلة والعلاقات بين أفرادها، وصولاً إلى التفكك الذي ستُحدثه. نحو خمس سنوات أمضاها البريطاني ماك أليستر يصوّر هذه القصة المثيرة، لينتهي بعمل فيه الكثير من الصدق والتفاني. وفيه إخلاص للأسئلة التي أشهرها يوم مسك الكاميرا للمرة الأولى. قام ماك أليستر برحلة إلى سوريا عشية اندلاع الثورة، حتى أنّه بسبب فضوله وتوغله في الواقع السوري، تمّ الاستيلاء على كاميراه وزجّه في السجن، لكنه خرج ليكمل بحثه ورصده. المشكلة أنّ الكاميرا كانت تحوي شهادات صبي وأبيه وهما يقولان “كلاماً كبيراً” ضدّ بشار الأسد. شيئاً فشيئاً، نتعرّف إلى الأسرة المكونة من ستة أفراد وتاريخها. الزوجان عامر ورغدة اعتُقلا وعُذبا في سجون النظام. هذان الناشطان أحبّا كلٌّ منهما الآخر. لقاؤهما الأول كان في السجن. لدى خروجهما منه، تزوّجا وأسسا أسرة. ثم، بعد كتاب أصدرته رغدة تنتقد فيه النظام المستبد، اعتُقلت مجدداً.

بعد مدة من التصوير في منزل العائلة، تتوطد العلاقة بين المخرج وشخصياته، فتزداد الشهادات جرأة والعبارات صراحة. ثمة نوع من ورطة يمضي إليها الواقفون أمام الكاميرا، والمخرج يساهم في ذلك. إلا أنّ القبض على ماك أليستر والعثور على شرائطه (يصادف ذلك مع خروج الزوجة من السجن)، يضعان مصير الأسرة في الخطر. بعدها، يلجأ جميع أعضائها الى لبنان، فيصطدمون بالعيش الخانق والأفق المسدود. مع ذلك، يستطيعون التنصّل من المصير المحتم، فيتم قبولهم كلاجئين إلى إحدى البلدات الفرنسية. هناك، تنقلب الأمور؛ تقع خلافات بين عامر ورغدة ثم تتعمق لتصل إلى العراك بالأيدي أحياناً. وكلما اجتاحت النيران سوريا، تهاوت العلاقة التي كانت تبدو نموذجية في بداية الفيلم. يوماً بعد يوم، يظهر أنّ الأهداف لم تعد نفسها بالنسبة إليهما: هو يبحث عن النسيان ويحاول بناء حياته مجدداً، أما هي فلا تزال مسكونة بسوريا، شيءٌ لا يعوّض حاجتها إلى التمرّد، فهي ثورية من الداخل، فيما عامر يريدها مجرّد ربة منزل. طوال هذه السنوات التي تتسم بالصعود والهبوط، يتابع ماك أليستر التقاط المَشاهد عن كثب، إلى درجة أنّه يتحوّل كاتم أسرار الأسرة والشخص الذي يصبح لامرئياً خلف كاميراته التي لا تتوانى عن اقتناص لحظات حميمية في بيتها الجديد بفرنسا. في نهاية الفيلم، نجد عامر يعمل بستانياً، يقطع الأغصان ويغرس البذور. مشهد يحمل دلالات الاقتلاع الذي يشهده المجتمع السوري.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى