صفحات الثقافة

ثلاثة أفلام قصيرة من الثورة السورية/ إيناس حقي

إن كنت تبحث عن الأفلام القصيرة التي أنجزتها الثورة السورية فالعدد الذي ستصادفه سيصيبك بالدهشة، هذا أمر مؤكد. ولكن، قليلة هي الأفلام التي تركت أثراً في مشاهدها. معظم تلك الأفلام مرّ مرور الكرام، وبعضها ترافق وانتشر مع مناسبات محدّدة واندثر بعد ذلك، كالأفلام التي تدعو إلى حملات جمع التبرّعات أو أيام التضامن مع الشعب السوري. لا يمكن لأحد أن يدّعي أنه شاهد كل ما أنتج من أفلام قصيرة، ولكن هناك نماذج تبقى رائدة في مجالها رغم مرور زمن عليها. استطاعت أن توصل رسالتها بشكل ناجح ومتماسك. أودّ هنا التوقف عند ثلاثة أفلام شكّل كلّ منها نوعاً خاصاً من السينما القصيرة التي انبثقت من عمق الثورة.

الفيلم الأول، هو فيلم “طجّ”. روائي قصير لخالد عبد الواحد. الفيلم كان من أوائل الأفلام الروائية التي أنجزت بعد بدء الثورة وعنها، ويمتاز الفيلم بالكثافة المدهشة التي ترافق عادة الفيلم القصير كما أنه يروي قصته بكل وضوح، ليصل إلى كل الشرائح بسهولة وبساطة بعيداً عن التعالي، ليؤثر فيهم.

يبدأ الفيلم بكادر ثابت لباب منزل، فوقه تتدلّى لمبة، وقربه حائط طويل تضرب عليه كرة بشكل متواتر. يشعرك الفيلم من اللحظة الأولى أن “الطفل” -وهو اللاعب المفترض هنا- الذي يضرب الكرة قد حُرم من الخروج إلى الطريق وها هو يلعب الآن في المنزل. وعندما يقصف البيت ويهتزّ الكادر وتنقطع الكهرباء، تنحبس أنفاس المشاهد للحظة خوفاً على مصير “الطفل” الذي يلعب بالكرة. لكن الفيلم، الذي لم يرغب أن يكون متشائماً، يعيد الكرة إلى الكادر، بعد عودة النور إلى اللمبة، فيتخفّف المشاهد من قلقه.

يمتاز الفيلم حقاً بتلك البساطة والسهولة التي تجعله قريباً من أي مشاهد. لا يحتمل الكثير من التأويل والتفسير، وإنما يشاهَد كما هو. ولذا جاء اسمه ليكمل بساطته: “طجّ”.

أما الفيلم الثاني فهو فيلم “هاون” وهو من إعداد وتصوير عبد الله حكواتي وإنتاج “مؤسسة الشارع للإعلام والتنمية”، وهو نموذج عما يمكن أن نسميه فيلم اللحظة، فيلم أنتجه ظرفه ولم يكن نتاج ما فكّر معدّوه بتقديمه.

يبدأ الفيلم بلقطات عامة توضح استعداد المتظاهرين في بستان القصر في حلب لمظاهرة، إذ تفرش الأعلام، ويجهز نظام الصوت، وينتحي المخرج بفتاة تغني عادة في المظاهرات، فتغنّي له الفتاة أغنية من الثورة، وفي تلك اللحظة بالذات، تسقط قذيفة هاون يطلقها جيش النظام قرب موقع التصوير، ويحظى المصوّر بتلك المصادفة على شريطه السينمائي. فتشكّل بعد ذلك، جسم وجوهر الفيلم.

ما يطبع هذا الفيلم بصفته الأساسية، هو التقاط لحظة لا يمكن أن تكون بحسبان المصوّر أو أن يخطّط لها مسبقاً ومن ثم بناء الفيلم حولها. وبالتالي فإن الفيلم بنتيجته النهائية ليس هو الفيلم الذي خرج من أجله صاحب المشروع إلى الشارع وصوّر. هو فيلم آخر فرضته اللحظة والظرف الآني على صاحب الفيلم وهي قد تكون ميزة في بعض الحالات وقد تكون نقيصة بحسب توظيف اللحظة الملتقطة في الفيلم.

ثالث هذه النماذج، فيلم بعنوان “قصة سورية قصيرة” لمحمد عمران وداني أبو لوح. وهو فيلم من تلك الأفلام التي استخدمت تقنية بعيدة كل البعد عن المباشرة وبحثت عن طريقة أخرى للتعبير عن الوجع السوري.

يبدأ الفيلم بلوحة من الكرتون مرسومة عليها شخصيات تبدأ بالبروز والوقوف تعبيراً ثورتها. تبدأ برفع الصوت والمطالبة بحقوقها. يقوم “بسطار عسكري” بسحقها والتنكيل بها، لكنها تعود للوقوف رغم ما أصابها من ضرر.

فيلم في غاية البساطة والذكاء والعمق، ولكن غالباً ما يقع صانعو هذه الأفلام في مطبّ الخوف من ألا يفهم مقصدهم بالضبط. فيقومون بإضافة جزء تفسيري لفيلمهم، وهو في حالة الفيلم المذكور لقطات من مظاهرات درعا الأولى ولقطة لقوات الأمن وهي تطلق النار على الناس. ومشكلة هذا الجزء أن صانعي الفيلم بعد أن أوجدا أكثر الطرق حيوية وابتكاراً وتأثيراً لنقل الحكاية السورية، عادا إلى التقليدي وصفعا المشاهد به مما يخيّب أمل المشاهد لأنه سيشعر حكماً أن هذه اللقطات أضيفت لكي تساعده على الفهم.

الأفلام الثلاثة تلك وبنظرة سريعة، يقدّم كلّ منها نموذجاً عن سينما الفيلم القصير، التي ما زالت تتشعّب وتتكاثر أفلامها وأنواعها. وقدّم في هذا الإطار عدد هائل من الأفلام، ولكن الوقفة عند هذه النماذج الثلاث كانت لخصوصيتها، ولخروجها عمّا ألفنا من السينما القصيرة خلال السنوات الثلاث الماضية. الأفلام القصيرة دارت في دوامة من التكرار وتم الخلط في كثير من الأحيان بين التقرير والخبر الصحافي وبين الفيلم القصير، ورغم ذلك لم تخلُ سينمانا الجديدة من نماذج استطاعت أن تنقل بحرفية حكاية السوريين ومسيرتهم المؤلمة نحو الحرية.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى