مراجعات كتب

ثلاثة اسماء تنافست/ خيري منصور

 

على الشهرة في أوساط القراء رغم ان النص واحد، هو ‘زوربا اليوناني’ فمن ناحية اصبح ‘زوربا’ أشهر من مؤلفه، ثم تفوق ‘أنطوني كوين’ على الإثنين بعد ان تحولت الرواية الى فلم سينمائي، و’ كازنتزاكي’ إقترن إسمه شأن عدد قليل من الروائين بإسم بطل روايته، وهو كائن واقعي من لحم ودم، اضاف اليه المؤلف بعدا دراميا، التقاه ‘كازنتزاكي’ في منطقة البلبونيز بجنوب اليونان عام 1917، فكان بالنسبة اليه أشبه بأصدقاء ميلر من سائقي الشاحنات في امريكا وصديق ‘البير كامو’ صانع البراميل في حي بلكور بالجزائر.

فهؤلاء الأشخاص الواقعيون والمقبلون على الحياة بشغف وشبق يمثلون قوة الغريزة غير الداجنة، فيما يجسد الرواة التجريد، لهذا تعتبر رواية ‘زوربا’ مثالا لثائية الحياة والكتابة، فالانسان يحتاج كما قال ‘برنارد شو’ أن يعيش قرنين على الأقل كي يعيش ويكتب.

اصدر ‘كازنتزاكي’ اكثر من ثلاثين كتابا بين الرواية والسيرة والتأملات، ولم يعرف منها على نطاق واسع غير بضع روايات هي ‘زوربا’ و’المسيح يصلب من جديد’ و’الإخوة الأعداء’ اضافة الى سيرته الآسرة ‘الطريق الى جريكو’.

وكان قد زار فلسطين في اواخر الاربعينات من القرن الماضي بصحبة زوجته وكتب عن رحلته ما يستحق المراجعة الآن، فهو بحصافته كان يشم رائحة التراجيديا التي نعيشها حتى اليوم، وقد يكون كتابه ‘تصوف’ الذي ترجمه سيد بلال، وصدر مؤخرا في طبعة جديدة من أهم ما كتب لأنه يقوم برحلة الى الداخل، بعد ان طاف العالم، والرحلة الى الداخل لها سلالمها، والتي حددها ‘كازنتزاكي’ في اربعة: السلم الأول هو الذات هبطه بضمير ألأنا، واتاح لنفسه البوح دونما عوائق، والسلم الثاني هو السلالة وهو استقصاء لجذور الذات التي تتشكل من اسلاف لا يحصى عددهم، فالصرخة لا تصدر من الذات بقدر ما هي تعبير عن زفير اسلاف ينطقون عبر فم الحفيد، فالموتى ليسوا غابرين، انهم حاضرون ولهم قيامات مشهودة في عناصر الكون وكائناته.

والسلم الثالث هو الانسانية التي تتجاوز السلالات والأسلاف وبذلك تتسع الرؤيا لكي تتقطر كثافة الكون كلها في الذات، والسلم الرابع هو الأرض، فالذات وحدها لا تصيح وكذلك السلالة، بل اجناس البشر من بيض وصفر وسود، والأرض كلها بمياهها واشجارها وحيواناتها وبشرها وآلهتها تصيح في صدرك..

هذه السلالم تصلح للصعود والهبوط، تماما كما هي الأبواب التي تصلح للدخول والخروج، لكن سلالم زوربا ليست مائلة وابوابه ليست مواربة، لهذا قرر ان يوظف سلالمه للهبوط فقط وابوابه للدخول، لان هذه الرحلة بالذات تستبطن الوجود وترنو نحو المطلق المحرر من الإرتهانات كلها.

تقول زوجة ‘كازنتزاكي’ ان زوجها كان قاسيا كمكتبة!.. فهل الكتب بالفعل قاسية الى الحد الذي يقاس عليه؟.. بالطبع هذا فهم آخر ومغاير للقسوة، فثمة ثمار تمتلىء قشرتها بالأشواك كالقنافذ، لكنها في المحتوى عذبة وهشة كالشهد.. أليست ثمرة الصبير كذلك؟.. وهل كانت قسوة المحارة إلا دفاعا عن لؤلؤ يهجع في داخلها!.

ما تقوله زوجة ‘كازنتزاكي’ وهو انه انتهى قديسا تكرسه عدة قرائن في مقدمتها الاشباع الحسي في سنوات الصبا، ففي الطريق الى غريكو يصفي حساباته مع ثمرة الكرز التي احبها وحرم منها.. بحيث يملأ حفرة منها ويلتهمها حتى التخمة والتقيؤ، انها بالفعل تصفية حسابات مع المحسوس من اجل المجرد، ومع الغريزي من اجل الآدمي الفائق.

ان سلالم زوربا ليست من خشب او حتى من حبال كتلك التي استخدمها بطل الرواية في محاولة يائسة، انها سلالم من كلمات ومن ايقاعات تستدرج الجسد الى ما هو أبعد وأعمق منه، كي يصبح اكثر شفافية، ويبدو ‘كازنتزاكي’ في تأملاته الصوفية كما لو انه خلع جسده وأبقى على الروح عارية إلا مما يغمرها من النور.

******

قاس كمكتبة ولين كرسالة عشق اضاعها ساعي البريد، فعثرت عليها عجوز إسمها ‘بومبولينا’ الأرملة التي تحولت بعد الموت الى غنائم واسلاب لفقراء القرية، بحيث كان مشهد من سرق حذاءها وعلقه حول عنقه، كما لو انه يحملها على كتفيه وتتدلى قدماها على صدره.

وثمة اكثر من وجه شبه بين ‘كازنتزاكي’ والراوي في زوربا، فإحتراف الثقافة له عرض جانبي لا نحسه احيانا، هو السذاجة الإجتماعية وقلة الحيلة، وهذا ما تعرض له بالفعل ‘كازنتزاكي’ في رحلاته خصوصا الى روسيا وسيبريا ، حيث كان سهلا ان يخدع.

تروي زوجته انه انتظر زمنا ليس بالقصير كي يعاد اليه الإعتبار، وكان قد حرم من جائزة نوبل التي فقدها بفارق صوت واحد، وحين هنأ ‘البير كامو’ بعد فوزه بالجائزة قال له ‘كامو’ انه كان يستحقها اكثر منه مئة مرة، وتلك مسألة عادية لان مستحقي الجوائز على اختلاف قيمتها هم أضعاف من يظفرون بها.

******

لو اردنا إعادة قراءة رواية زوربا من خلال سلالم ‘كازنتزاكي’ الأربعة، لوجدنا ان الراوي المثقف وقارض الكتب وشحيح التجربة هو من يستخدمها للهبوط نحو عالمه السفلي، بعكس البطل الحسي الذي يمتثل لنداء الغريزة ويستخدمها للصعود الى سطح العالم، فزوربا قطع حتى اصبعه الذي اعاقه عن فك مسمار، لأن جسديته هي مرجعية كل ما يصدر عنه فهو القوة الامية المندلعة من عقالها شأن الطبيعة، والحسد الذي يشعر به الراوي الحكيم والداجن ازاء بطله هو ما اعنيه بتلك الثنائية، وكان الانسان مخير بين ان يعيش او يكتب، وهذا ما قاله ‘البير كامو’ ايضا متأثرا بصديقه صانع البراميل، وهو ان هناك اوقاتا للعيش واوقاتا اخرى للشهادة عليه، فالإنسان من طراز زوربا او صانع البراميل او سائق الشاحنة صديق ‘ميلر’ يأكل عندما يجوع، وينام عندما يشعر بالنعاس، ويمارس الغرائز عندما تندلع لديه الرغبة، بعكس الانسان الذي دجنته الحضارة، وتلك اطروحة عولجت فلسفيا وليس روائيا فقط لدى ‘هربرت ماركيوز′ في كتابه ‘الحب والحضارة’، حيث رأى ان تاريخ الحضارات هو ذاته تاريخ القمع والتدجين للكائن البشري.

 

خيري منصور

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى