ثلاثة مقالات لكتاب سوريين تناولت معركة حلب المرتقبة
الملحمة الكبرى وتحرير المدينة/ عمار ديوب
شكّل الاتفاق على إخراج عناصر “فتح الشام” موضوعَ إجماعٍ تركي سعودي أميركي روسي، مقابل ذلك يتم إيقاف الدمار عن حلب، والاعتراف بوجود المعارضة، والبدء بإيصال المساعدات، وهو ما عادت روسيا عنه، وكان سبباً في إيقاف أميركا التنسيق معها؛ لكن النظام وإيران يريدان استعادة سورية بأكملها، وهذا ما ساهم بتعطيل الاتفاق المذكور. روسيا التي تعلم ضعف النظام وإيران وعدم قدرتهما، بل وهي ذاتها، على استعادة حلب وكل سورية، ما زالت وعلى الرغم من اقتراب منطقها من منطق النظام في أن كل الخارجين عنه إرهابيون، ما زالت تُعطي للحل السياسي دوراً أساسياً؛ فهي تعلم حجم التدخل الدولي والإقليمي في الحرب ضد الثورة السورية، وتخشى من تصاعد الخلافات الدولية مع أوروبا والتورّط المستنقعي في سورية. وبالتالي، لا بد أن تُؤخذ مصالح الدول المتدخلة في سورية بالاعتبار، عدا أن روسيا نفسها ليس من مصلحتها أن تعود سورية إلى ما قبل 2011، حيث كان دورها محدوداً قياساً بإيران، وكانت توجهات النظام نفسه نحو تعزيز العلاقات مع أميركا. في هذا نرفض رأياً شائعاً وكأنه مسلمة: إن علاقات روسيا بسورية كانت قويةً، وتضاعفت بعد 2011. وهذا خطأ! فسورية كانت منفتحة نحو تركيا، وتطلب من الأخيرة بناء علاقات لها مع إسرائيل وأميركا، ولا سيما بعد إخراج جيشها من لبنان 2005.
لم يكن أمام الفصائل في أحياء حلب الشرقية، وقد شعرت بأن إيران والنظام يُجهِّزان لمعركةٍ كبرى، إلا البدء بمعركة كبرى أيضاً سُميت “ملحمة حلب الكبرى”، وهم يحرزون انتصارات قوية على قوات النظام وإيران. روسيا تتمهل في الرد الجوي، ويبدو أنها تريد تلقين النظام وإيران الدرس نفسه مجدّداً، ألا وهو أنها هي بالذات من تضع خطط الحرب والسلم في سورية، وحالما تخسر قواتهما أكثر فأكثر سيذعنان مجدّداً ويطلبان النجدة، وسيكون هناك دمار كبير وخطير، ليس في أحياء حلب الشرقية، بل وكذلك الغربية. نقول الغربية هنا، لأن الفصائل
“معارك لتدوير الزوايا والضغط السياسي بين الدول نفسها، لإيصال الوضع السوري نحو حلٍّ، تتحكم فيه روسيا بالتوافق مع أميركا وإسرائيل” المقاتلة هناك أصبحت بوضعية خطيرة، إما أن تفك الحصار عبر التقدّم نحو الغربية، وشلّ حركة الطيران الروسي خصوصاً، وإحداث أكبر ضرر فيها. وبالتالي، إجبار النظام وإيران وروسيا على البحث عن هدنةٍ حقيقية، وربما اعتراف جدي بوجود المعارضة، والإقلاع عن رؤية النظام بتحرير المدينة، كما قال وزير خارجيته، وليد المعلم، في الاجتماع الوزاري في روسيا قبل أيام، أي أن الفصائل تعي جيداً أن سحقاً قادماً سينالها لو بقيت صامتة.
لا شك أن معركة حلب الكبرى ليست من عمل الفصائل نفسها؛ هي مدعومة من تركيا والسعودية وربما أميركا، والقصد إنهاء أحلام النظام وإيران بالتحديد بتحرير المدينة، كما قال المعلم. إذاً هناك إجماع دولي وإقليمي أن حلب ستظل كما هي مع تغيّر طفيفٍ في الأماكن التي يسيطر عليها كل طرف. ولكن، لن يُسمح بانتصار أي طرف على الآخر. وبالتالي، سيكون هناك تصعيد كبير من الجانبين، وسيُفك الحصار جزيئاً، ولكن ستتوقف المعارك لاحقاً، وسيكون هناك اعتراف بالفصائل في الشرقية وبمجلسها المحلي، وربما هذا ما سيهيئ لهدنةٍ دائمة، وبداية مفاوضات جدية للحل السياسي. وما قاله الوزراء المجتمعون في روسيا، أي وزراء الخارجية، الروسي والإيراني والسوري، بخصوص الذهاب نحو المفاوضات، يأتي بهذا السياق.
ليس في التوازنات الدولية السابقة في سورية تغييرٌ كبير؛ فسيستمر التنسيق التركي الروسي بمحيط حلب خصوصاً، وسيكون للأتراك دورٌ أساسيٌ في معركة الرقة لاحقاً، وسيشعر زعيم الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، صالح مسلم، بالخذلان أكثر فأكثر، فقواته ستخرج من منبج، وسيحاول التمسك ببعض مما أحرزته قواته شرقي الفرات، وربما حتى هذه لن تظلّ تحت سيطرته، وغالباً لن يُسمح له بالمشاركة في معركة الرقة. وأما أميركا فسيظل تركيزها على داعش، وستتوضح سياساتها أكثر، بعد نتائج الانتخابات، وقد تدفع إلى حل سياسي جديّ حينها في سورية والعراق. وستشكل المعارك ضد داعش في الرقة مرحلة جديدة في التنسيق بين الأميركان والأتراك والروس، وهذا سيتطلب قوات عربية سورية، وتشير الاحتمالات إلى أن تكون قوات من الفصائل المقاتلة، وليست من قوات النظام. الجديد هذا، والذي يُعلن عنه تباعاً، أي معركة تحرير الرقة مع تحرير الموصل وبعده، وتطور الأوضاع في حلب، وشعور الروس بأنه يستحيل استعادة هذه المدينة، ونضيف هناك إرسال الأسطول البحري الروسي إلى سورية، كلها عناصر تدفع بالبحث عن حل سياسي. وستكون معادلة هذا الأمر ثلاث مسائل: إنهاء داعش، وتهميش حركة فتح الشام، وتحديد مصير الشخصيات الأساسية في النظام السوري.
وإذا كانت مسألة داعش لا نقاش فيها، ولا يلغي تأخر الحسم ضدها أنها قضية موضوعة على
“لا يوجد خيار روسي متفرد في سورية، وهناك خيار أميركي داعم للروس فيها” طاولة البحث في الأشهر المقبلة، فإن مسألة جبهة فتح الشام، جبهة النصرة سابقاً، هي الأعقد من دون شك، وعلى الرغم من توفر معطيات أولية تقول إن شقاقاً سيتصاعد بينها وبين “أحرار الشام”، حيث تشارك الأخيرة في درع الفرات التي رفضتها جبهة الفتح، فإن تصاعد الضرب ضدها في إدلب في مرحلة لاحقة، سيضعها في “خانة اليك”، أي عليها أن تحل نفسها أو تسلم السيطرة إلى “أحرار الشام” وتنزوي، وهناك أيضاً السحق. يضاف إلى هذه القضية موضوع الشخصيات الأساسية، وأيضاً تشكل معركة حلب ضد النظام نقلةً نوعيةً في حسم قضية إقصائهم عن السلطة في إطار الحل السياسي.
تضخيم دور روسيا، وأنها تبتزُّ أميركا وتريد فرض هيمنتها دولياً عبر الصراع على سورية، كلام صحيح، لكنه يصبح خاطئاً، حينما يتم تصوير روسيا كأنها تفرض خياراتها على أميركا، أو أنها فعلاً قادرة على إملاء الفراغ الأميركي في منطقتنا. وبالتالي، لا يوجد خيار روسي متفرد في سورية، وهناك خيار أميركي داعم للروس فيها، وهو ما سيعيد الصلات بين روسيا وأميركا في مرحلة لاحقةٍ بخصوص سورية، وكذلك بخصوص كل المسائل الدولية، فالدولتان تحتاجان بعضهما في مواجهة الصين.
إذاً ليست معارك التحرير الكثيرة، وكذلك الملاحم، سورية، ويُمنع أن تكون مستقلة. هي معارك لتدوير الزوايا والضغط السياسي بين الدول نفسها، لإيصال الوضع السوري نحو حلٍّ، تتحكم فيه روسيا بالتوافق مع أميركا وإسرائيل. ولكن، تتهمش فيه كل الدول المُوغلة في سورية، بدايةً من إيران، وليس نهايةً بالمملكة العربية السعودية.
العربي الجديد
حلب في الفك الروسي تتخطّى سوريّتها/ لؤي حسين
لا تجهد موسكو نفسها كثيراً بنفي رغبتها في السيطرة على كامل مدينة حلب. إذ من غير المعقول أن تتعفف عن ذلك طالما أن الظروف كلها تدفع بحلب لتكون لقمة سائغة بين فكّيها. وما العيب في ذلك في أرض باتت بوضوح الرؤية ميدان صراع دولي بعد أن انتفت عنها جميع صيغ الصراع المحلي؟ فجميع الأطراف المسلّحة، تقريباً، تعمل بأوامر خارجية ولمصالح دولية، لا يستثنى من ذلك في شكل مؤكد سوى «داعش». هذا فضلاً عن وجود علني لقوات عسكرية أجنبية رسمية، كالولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران، يشارك بعضها في ميادين القتال في شكل مباشر وبعضها في شكل غير مباشر.
فكيف لروسيا والحال هذه، أن لا تحيك جميع التدابير لتستولي على كامل حلب، وهي التي جاءت بقواتها إلى الأراضي السورية لتحقق مكاسب مهمة في عراكها مع الغرب. فهي لا تتعامل مع حلب على أنها موقع محلي، كتدمر مثلاً، تريد منها السيطرة أكثر وأكثر على القرار السيادي الرسمي السوري، أي السيطرة على مفاتيح الأركان السورية والقصر الرئاسي الأسدي. فحلب تتعدى ذلك في سياق الطموح الروسي في سورية، فهي تريد السيطرة عليها لتُخرج الدول الأوروبية من المعادلة السورية، ولتكون الشريك الرئيسي للولايات المتحدة في العنوان السوري، وبالتالي تتقدم خطوة واسعة باتجاه أن تكون دولة عظمى يمكنها أن تشكل قطباً في موازاة القطب الأميركي.
لاحظنا في الأسابيع الماضية، التشنّج الذي سيطر على الأداء الأوروبي وكذلك الأميركي في مواجهة ما تحققه روسيا من تقدم عليهم في الحقل الحلبي ينبئ بهزيمتهم في الملف السوري عموماً. إذ بدا عجزهم واضحاً في إيقاف التقدم الروسي أو حتى إحراج موسكو باتهامها بارتكاب مجازر ترتقي لتكون جرائم حرب. لكن موسكو لم تأبه كثيراً لهذه الاتهامات غير المدعومة بأدلة صريحة، بما في ذلك عدد المدنيين الذين يسقطون ضحايا القصف، إذ إنهم كانوا أقل من الأرقام المعتادة في المعارك السورية. هذا فضلاً عن أن موسكو تعتبر أعمالها العسكرية في حلب تحظى بتغطية شرعية استناداً إلى القرارات الدولية المتعلقة بسورية، والتي توصي بتعامل مع جبهة النصرة (جبهة فتح الشام حالياً) متساو تماماً مع التعامل مع «داعش». وكان لها أن النصرة موجودة ضمن مجموعات المعارضة المسلحة في أحياء حلب الشرقية. ولا يغيّر في الأمر شيئاً إن كان حجمها محدوداً نسبة الى الفصائل الأخرى.
تبدو موسكو مرتاحة جداً في أدائها الحلبي. فحيناً، تعلن هدنة من طرف واحد، وحيناً آخر تمددها، ومن ثم توقف تحليق طيرانها وطيران النظام في سماء الأحياء الشرقية الحلبية، كما تعلن عن فتح ممرات إنسانية، وغير ذلك من المقترحات التي تمكّنها من إحراج الدول الغربية من ناحية عدم مقدرة هذه الأخيرة على فصل مقاتلي النصرة عن مقاتلي المجموعات المعتدلة، أو إبعادهم من المدنيين من أجل «تطهير» المدينة من الإرهاب كما يحصل في الموصل، على حد التعابير الروسية.
بقاء جبهة النصرة داخل الأحياء الشرقية سيكون ذريعة كافية للطيران الروسي. وتم تدعيم هذه الذريعة أخيراً، بالقصف العشوائي الذي قامت به المجموعات المسلّحة على الأحياء الغربية الواقعة تحت سيطرة النظام، متسبّبة بمقتل العشرات وجرح المئات من المدنيين. ومع توافر هذه الذريعة، توجد مؤشرات عدة تدل على اقتراب موعد عملية «التطهير» هذه. فالمسؤولون الروس بدأوا يدلون بتصريحات تشير إلى ذلك، والانتخابات الأميركية بعد بضعة أيام. وأغلب الظن أن موسكو ستتمكن بسهولة من كسب المعركة وتمكين قوات النظام البرية من السيطرة على جميع الأحياء الشرقية في وقت قصير، بخاصة مع صمت تركي هو الأهم بالمطلق دولياً وإقليمياً. وهذا سيجعل موسكو تحقق فوزاً صريحاً على الدول الغربية وتخرجها جميعها من المسرح السوري، لتصبح هي وحدها الشريك الأهم للولايات المتحدة في الكعكة السورية.
لا يهتم هذا المقال بملاحظة التبعات الدولية لمآلات السيطرة على حلب، وإن عرض ذلك، بل يهمنا فقط تأكيد أن سيطرة روسيا على حلب تعني بالتعابير المحلية سيطرة النظام على المدينة، وهذا سيعني سورياً بداية انهيار تسوية كانت تعتمد قاعدة لا غالب ولا مغلوب. إذ سيكون لدينا بالميزان السياسي المحلي غالب، هو النظام، ومغلوب، هو المعارضة بجميع تلاوينها وأشكالها. وهذا يعني أن المستقبل السوري المنظور سيكون محكوماً وفق قاعدة الغَلَبة وليس وفق مسار العملية الانتقالية.
بناء على هذا العرض، وإذا افترضنا صحته، كان من البداهة البراغماتية أن تكون قوى المعارضة قد عملت على الضغط على الفصائل المقاتلة في أحياء حلب الشرقية لاستبدال مقاتلي جبهة النصرة بمقاتلين معتدلين، وتمكين مجلس محلي مدني كسلطة لهذه الأحياء لإبقائها تحت سيطرة المعارضة (كنا تقدمنا بهذا المقترح بصيغة رسمية لجميع الأطراف المحلية والدولية المعنية)، لكن هذا لم يحدث. وهذا ما يجعلنا نعتقد بوجود ورقة خفية داخل حكاية حلب تحول دون إنهاء أزمتها بما فيه خير عام. ونرجّح أن تكون «حركة أحرار الشام الإسلامية» هي المعضلة المتخفّية خلف أكمة النصرة.
حركة أحرار الشام من كبريات التنظيمات الجهادية المسلّحة السورية، وهي الشريك الرئيسي لجبهة النصرة في تحالف «جيش الفتح» الذي دحر قوات النظام في محافظة إدلب وسيطر عليها قبل سنة ونصف السنة. وهو الذي يقود الآن معارك حلب. فالحركة لا تختلف عقائدياً عن جبهة النصرة، بل هناك أخبار تقول بإمكان اندماجهما. فالحركة تنظيم جهادي مسلح تشكلت لبنته الأولى وقامت بعملياتها بعد نحو الشهرين من انطلاق التظاهرات (وليس ستة أشهر كما يتبجح قادة المعارضة). كما أنها، وخلافاً لما يروّج عنها، لا تقبل الدخول في عملية سياسية مع النظام، بل لا تقبل بوقف إطلاق نار معه. فهي حركة تقوم على الجهاد فكيف تتصالح مع جهة نصيرية مارقة على الدين، وفق توصيفها للنظام. فمشاركة مندوبها في مؤتمر الرياض للمعارضة نهاية العام الماضي لم تكن خطوة جدية، إذ على رغم اختياره ليكون ضمن الهيئة العليا للمفاوضات، لم يحضر أي اجتماع إطلاقا ولم يتم الإعلان عن ذلك، وما زالت تُدرَج الحركة ضمن التنظيمات المعتدلة.
إن خرجت جبهة النصرة من الأحياء الشرقية، وهذا مستبعد، فإن حركة أحرار الشام لن تقبل مجاراة موسكو والقبول بمسار جنيف القاضي بوقف إطلاق النار والانخراط في عملية تفاوضية مؤداها هيئة حكم انتقالية بالتشارك مع النظام، وبوجود نسبة معتبرة من النساء والمسيحيين والعلويين وغيرهم ممن تعتبرهم الحركة أهدافاً للقتل الجهادي. إذاً، لا مصلحة لداعمي أحرار الشام، ولا لقوى المعارضة الرسمية أن تنكشف ضلالة اعتدال الحركة، وسيتأكد كلام موسكو بأنه لا توجد في الأحياء الشرقية قوى معتدلة، بل جميعها قوى إرهابية، كما قال الوزير الروسي لافروف، وستتعامل معها موسكو على أنها أهداف مشروعة لتعاونها مع النصرة، على حد تعبير الوزير.
إذا ما بقيت الأمور على هذا المسار، فإن وضع حلب بات محسوماً، وستسقط معادلة اللاغالب واللامغلوب التي قامت عليها كل رؤية جنيف منذ مؤتمرها الأول في ٢٠١٢. وخسارة حلب، أو بالأحرى انتقال ثقلها السياسي إلى النظام، هي نتيجة القاعدة الغبية (الجدباء) التي تعتمدها المعارضة دوماً: عدو النظام صديقي حتى لو كان إسرائيل أو داعش. إذ كان على قيادة المعارضة التخلّي عن جبهة النصرة وجميع الجهاديين منذ أكثر من سنة (وكان لي حديث رسمي مع عدد من أقطاب المعارضة الرسمية في مدينة اسطنبول في هذا الشأن قبل سنة ونصف السنة). فالنصرة والجهاديون، وإن تسببوا بالضرر للنظام، فذلك لا يصب إطلاقاً في مصلحة السوريين من حيث حقوقهم وحرياتهم. فهذه التنظيمات مجرد قوى طغيانية تريد أن تطغى على السوريين بدل طغيان النظام ليس إلا.
جميع التنظيمات الجهادية تتشابه وتتماثل مع النصرة، بخاصة بعد أن فكت هذه الأخيرة ارتباطها بتنظيم القاعدة، وجميعها، وبعيداً من مصطلح الإرهاب غير المجدي وغير الواضح أو الدقيق، تنظيمات طغيانية لا تقبل بوجود حقل عام أو مجال عام في المجتمع السوري. وترى أن تَدَبُّر شؤون البشر مناط بخاصةٍ مختارة من شيوخ الدين الإسلامي السني، الذين تتم توليتهم وتسييد عقيدتهم بقوة العنف والبطش والتكفير، لأنهم، وفق الذهنية السياسية الإسلامية السنية، الأقدر على تنظيم معيش الناس وتمكينهم من العقيدة السليمة وفق شرع الله. فالسلطة، وفق ما قاله مؤسس أحرار الشام، حسان عبود، «هي للشرع، ومن يحمل الشرع هو الذي يحكم».
على مناصري التنظيمات الإسلامية في صراعها مع النظام، أن يدركوا أن الذهنية الدينية لا تتفارق عن الذهنية القومية في الحكم، بل هي المؤسِّسة لها. والفارق بينهما فقط، أن المتدينين يريدون أن يكون المتسيدون من المشايخ بينما القوميون يرفضون أن يتسيد المشايخ. لكن كلاهما متوافق على عدم القبول بأن تكون مرجعية الحكم للبشر، وكلاهما لا يقبل أن يكون البشر أصحاب الحق الوحيدين في اختيار سبل معيشهم وفق مصالحهم وحرياتهم التي لا يجوز المساس بها تحت أي ذريعة، بما فيها ذريعة الشرائع الدينية، وأن يعيشوا وفق حقوقهم المتساوية في ما بينهم، بحيث لا يجوز أن يَفضُل أحدهم الآخر بسبب دينه أو قومه أو طائفته أو جنسه. وأنهم أصحاب الحق المطلق في اختيار حكّامهم.
* كاتب سوري ورئيس «تيّار بناء الدولة»
الحياة
محاذير معركة حلب/ عمر قدور
خطة طموحة يعلنها قادة غرف العمليات في “جيش الفتح” و”فتح حلب”، تنص على كسر الحصار عن حلب الشرقية والسيطرة على قسمها الآخر الغربي. ويتضح، بعد مرور خمسة أيام من المعارك، أنها لن تكون سهلة قياساً إلى معركة فك الحصار السابقة التي أنجزت مهمتها في غضون أسبوع. بالطبع، الظروف هذه المرة مغايرة كلياً لسابقتها، فالنظام وحلفاؤه أعدوا للمعركة أكثر بكثير مما فعلوا في المرة الفائتة، والطيران الروسي ينشط في الميدان في حين كان نشاطه أقل في تلك المرة. وثمة أيضاً عامل الضغط ، إذ من المعلوم أن موسكو وطهران تسعيان إلى حسم معركة حلب والسيطرة عليها كاملة قبل رحيل إدارة أوباما، وستبذلان أكبر جهد لمنع انقلاب المعطيات على الأرض.
في معركة كسر الحصار الأولى كانت مسير المعارك يتحاشى المرور بأحياء سكنية خاضعة لسيطرة النظام، وانحصرت الغاية بفتح ممر إلى حلب الشرقية. الآن، تدور المعارك الأشرس في كتل سكنية، محصنة عسكرياً، لا تُعد الأقرب إلى القسم الشرقي، وهذا التكتيك لا يعِد مدنيي حلب الشرقية بفك الحصار سريعاً، مثلما ينذر مدنيي حلب الغربية بحرب غير متوقعة قد تدوم طويلاً. ولئن كان التكتيك صحيحاً من الناحية العسكرية، لجهة الضغط على مراكز إسناد النظام، وحرمانه من الراحة في معاقل آمنة، فلا يخفى أن الثمن سيدفعه سكان تلك المناطق الذين يدعي حمايتهم، ولن يتورع عن التضحية بهم، ولن يتورع الطيران الروسي عن قصفهم بوحشية متى صاروا خرجوا عن سيطرته.
إذاً، أول محاذر معركة حلب الحالية يتعين في الموازنة الدقيقة والمؤلمة بين فك الحصار والتجويع عن مدنيي حلب الشرقية ووقوع أقل ما يمكن من الخسائر في صفوف مدنيي الشطر الغربي، ومن المؤكد أن إقامة هذا التوازن يحتاج حكمة ودقة في التخطيط، وإذا صدق ما أعلنه جيش الفتح عن تأمين مدنيين في مناطق الاشتباك فهذا سلوك ينبغي تكريسه. حلب واحدة، وفق هذا المعيار، لا شرقية ولا غربية، وعلى رغم وجود كتلة مؤيدة في الشطر الغربي لا ينبغي استعداء الباقين، ولا تعزيز القسمة التي يريدها النظام بين الشطرين. ومع أن الدمار أقل قيمة من الأرواح إلا أنه بكل أسف سيحصل مع استمرار المعارك، وهذه المرة ستكون ضحيته الممتلكات في القسم الأكثر ثراء من المدينة، ومن المؤسف توقع الدمار الإضافي الذي سيحدثه القصف الروسي مع كل تقدم للفصائل المهاجمة.
أمام هذه الفاتورة الضخمة المتوقعة، من الضروري احتساب كافة الاحتمالات السيئة من قبل غرفتي “عمليات حلب” و”جيش الفتح”، ومن المعلوم أن فتح المعركة واستلام زمامها أولاً أسهل بكثير من إدارتها والتحكم فيها فيما بعد. هذا على الأقل ما ثبت في تجربة فك الحصار الأولى، إذ سرعان ما امتص النظام وحلفاؤه الصدمة واستعادوا زمام المبادرة، وكما نعلم استعادوا أغلب المواقع التي خسروها. هنا لا يجوز لعاقل عدم الانتباه إلى التكتيك الروسي في الضغط على طهران والنظام، فموسكو تعمد بين الحين والآخر إلى التقليل من مساندة الميليشيات الحليفة على الأرض، بغية الضغط عليها وإظهار ضعفها بمعزل عن الطيران الروسي، لكنها في النهاية ستبذل أقصى جهدها لكسب معركة حلب، ففي هذا الميدان تحديداً القوة الروسية على المحك، وانكسارها يعني خيبة طموحات بوتين في المنطقة ككل.
من دون مواكبة دولية وإقليمية موثوقة، تصعب إدارة المعركة والتحكم فيها، ويصعب حصد ثمارها؛ هذا أيضاً واحد من الدروس المتكررة مع الأسف. فمهما بلغت شجاعة المقاتلين لن تكفي وحدها، ما لم تقترن بإمدادات تناسب طبيعة المعركة، أقله من ناحية القدرة على التشبث بالمواقع وخوض حرب استنزاف طويلة فيها. وإذا أعلنت غرفتا العمليات عن توفر ذخيرة كافية لمعركة تدوم خمسين يوماً فهذا ليس مما يخيف حلفاء النظام بترساناتهم الضخمة، والعبرة هي في استمرار تدفق الإمدادات إلى المعارضة، وعدم انقطاعها فجأة كما حصل في أكثر من تجربة سابقة. من الحيوي جداً التساؤل في هذه المعركة عن عزم تركيا على الاستمرار بفتح خط الإمدادات، وعدم مقايضتها معركة حلب بمكاسب أخرى، بخاصة ضمن هاجسها الكردي، مثلما من الضروري التساؤل عن مقدار ما تسمح به الإدارة الأمريكية من إمدادات، وإلى أي حد تنوي فرملة بوتين؟
على هذا الصعيد، لا يُستبعد تقاطع الرؤيتين الأمريكية والروسية، فتكرار تقدم فصائل إسلامية ومعارضة ثم انكفاؤها يعني استنزافها واستنزاف النظام والميليشيات الشيعية الحليفة. استنزاف الطرفين فيه مصلحة أمريكية وروسية، المصلحة الأمريكية كانت صريحة خلال السنوات الأربع الماضية، وعبر عنها أوباما بنفسه في لقاء تلفزيوني من منطلق استنزاف “المتطرفين” على الجهتين. وهي واضحة من جهة موسكو، طالما لم تتمتع الفصائل المعارضة بغطاء دولي يتيح انتصاراً حقيقياً مع المحافظة عليه، فالانتصار يشكل ضغطاً على طهران والنظام، وقلب المعادلة بواسطة الطيران الروسي يُعد انتصاراً لموسكو وحدها على فصائل المعارضة، وأيضاً على حليفيها.
من سوء حظ حلب أن معركتها اتخذت أبعاداً تفوق إمكانيات مقاتليها وقدرة مدنييها على التحمل، ولا يخفى أن المقاتلين والمدنيين والمدينة صاروا أسرى الرسائل الإقليمية والدولية، دون وجود استراتيجية تأخذ حيواتهم في الاعتبار. مع المحاذير التي تحف بمعركتها لا يجوز الإفراط في التفاؤل كلما أحرزت المعارضة انتصاراً، بل ينبغي انتظار ما يخبئه حلفاؤها وراءه، قبل انتظار ما يخبئه الخصوم. ترك مدنيي الشطر الشرقي تحت طائلة التجويع ليس خياراً أخلاقياً بالتأكيد، وفتح المعركة يصبح خياراً أخلاقياً لا فقط من هدف كسر الحصار وكيفية تعامل المقاتلين مع المدنيين أثناء المعركة، وإنما أيضاً وأيضاً بمقدار ما سيبديه حلفاء المعارضة من أخلاق مع مقاتليها، وعدم خذلانهم ساعة الحقيقة.
المدن