ثلاثة نصوص/ يامن حسين
صباح يوم عادي
السادسة وأربعون دقيقة، سيكون أمامَكِ ثلاث دقائق لتحضير كوب من القهوة.
لديكِ اثنتا عشرة دقيقةً أيضاً لإيقاظ طفلكِ مِن خَدر نومه، وغسل تفاحةٍ له ليقضمها على عجل، لا مجال أن تتغلبَ عاطفتكِ عليكِ وتسمحي له بغفوةٍ لخمسِ دقائق أخرى.
السابعة تماماً سوف تنقطع الكهرباء.. لا تكترثي لصوت الطائرات الحربيّة، ألبسيه ثيابه سريعاً، (ببببووووم)؛ هاون على بُعد ثلاثة كيلومترات، لا.. ليست ضمن المدى المجدي لجمجمته الهشّة.
العاشرة صباحاً يعود التيار الكهربائي.. أنتِ بالكاد تملكين خمس دقائقَ لوضعِ الغسيل وبعض المسحوق في الغسالة وتشغيلها، ستُّ غاراتٍ عبرت فوق جسدكِ أثناء فترة التقنين لتصل إلى دوما، لا.. هي أيضاً ليست ضمن المدى المجدي لتشويش الأفكار..
تتركين للغسالة مهمَّتها، فتساعدكِ كصديقةٍ قديمةٍ تداري اكتئابك الحاد، وتهرولين إلى بائع الخضار…
مئتا غرام من اللحم: يقتطعها اللحام فتحكين لحمَ كتفك، ثلاثمئة غرام من البندورة: هي غالباً ليست طازجة بما فيه الكفاية لتقولي «ياعييين!«، خمسمئة غرام من الفاصولياء: تتموج بالكيس الأسود كفراخ ثعابين أقنعك البائع أنها «فاصوليا عيشة«.
تحاولين جاهدةً الإسراع في العودة إلى البيت..
تصعدين الدرج، في الطابق الثاني، تحوّلين أصابعك إلى أذرع أخطبوط، بالخنصر تعلقين كيسَ اللحم، وبالباقي تبحثين عن المفاتيح في الجزدان بين أكوامِ الفواتير وقطع النّقود المعدنيّة تلك التي أصبحت اليوم بلا قيمة، فتخرج أصابعك منه ملوثة بسواد قلم كحلة مفتوح منسي في الحقيبة بووووم .. بوووم.. بووم.. الجندي الذي يطلق قذائف المدفعية كانت له محاولات بائسة قبل التحاقه بالخدمة الإلزاميّة ليصبح (درامَر) على مايبدو..
تصلين الطابق الرابع في الحادية عشرة وسبع عشرة دقيقة، تفلتين الأكياس على أول كرسي باستسلام تام، أوووه نسيت باكيت الدخان..!
الطريق نزولاً، أصعب من عبور حاجز المخابرات قرب مشفى ابن النفيس، تمجّين سيجارتك الأخيرة وتعطين لنفسِك خمس دقائقَ راحة. تخرجين من باب البيت، تشعرين بسعادةٍ غامرة لتذكرك المفاتيح في اللحظة الأخيرة قبل إغلاق الباب، تتخيلين حجم الكارثة التي كانت ستحلّ لو أغلقته من دون أخذ المفاتيح. تحاولين تهدئة خطواتك، الجنديّ الذي يطلق قذائف المدفعية يتحسن أداؤه، لكنه مازال فاشلاً في صناعة لحن. الثانية عشرة إلا ثلثاً تنزلين الدرج وصولاً إلى البقال، تغضّين بصرك عن نشرة الأخبار وتتجاهلين تذمِّره من ارتفاع الأسعار والحال والأحوال، وابنِه المهملِ لدراسته وساعات التقنين الطويلة. تمرّ طائرة حربية على ارتفاع منخفض، تتشاءمين من إحساس البقال بالفرح، أنه استطاع رؤيتها حين خرج إلى باب المحل .. تأخذين علبة السجائر، تصعدين الدرج، وتتباعد أقدامك أثناء الصعود.. تظنين أنك بتلك الحركة تقللين جهد صعود الدرج. ينتابك قلق من أن يصعد أحد الجيران أو ينزل أثناء صعودك الدرج، تجفلين من أي طرطقة لباب شقة على طول الطوابق الأربعة.. فآخرُ ما تحتاجين له، هو تحية عابرة، أو سؤال عن الحال، أو دعوة لشرب فنجان قهوة.
تمر جنازة أثناء وصولكِ الطابق الثالث، أصوات الرصاص تنخر عظم صدغيكِ… تغلقين الباب بقوة خلفكِ عند وصولك.. لا تقوين حتى على التفكير بأخذ حمام سريع.
الثانية عشرة إلا دقيقتين.. تسرع الغسالة في دورتها بوضع التنشيف، أسرع أسرع.. تضحكين من الفكرة؛ الغسالة تحاول جاهدةً أن تسبق التقنين.. تشبه جندياً يبذل جهده أن يصل النشوة مع زوجته بعد إعطائه إجازةً كمكافأة له على قذائفه الكثيرة التي أصابت إحداها مصادفة – سيارة رُكِّب عليها مضاد للطيران..
..
الجندي سيئ الإيقاع في الدرامز
لحظةُ انقطاع الكهرباء في دورة التقنين عند الظهيرة
علبة السجائر
الجنازة
القذائف
الطائرات
طفلك الذي قضم نصف تفاحة صباحاً
البقال
الثانية عشرة تماما تنقطع الكهرباء
«يا عاهر اتركها دقيقة لتخلص تنشيف«
زوج جوارب
الأصدقاء والمعارف والغرباء الذين يمرون من هنا، من ميونخ، قادمين من هنغاريا والنمسا بعد نجاتهم من الموت غرقاً في بحر إيجة، وفي طريقهم إلى برلين، غالباً ما يتركون في حمأة الاستعجال لمواعيد القطارات والباصات، بعد نيل قسط من الراحة، أشياءً خاصةً بهم.
أتساءل مثلاً: ما الذي دفع بصديقي أن يشتري فرشاة أسنان زهرية اللون في اليونان؟ كان يملك الوقت والذهن الصافي ليختار أي لون يريده من السوبر ماركت، ما هذا الزهري يا بشير؟!
الآخر ترك لوح صابون غار..
هناك الكثير من ربطات الشعر، بعض الخيطان، ثيابٌ داخلية وكلاسين ممهورة «صنعت في حلب«، فراشي الحمّام سورية الصنع ، مبيض أسنان، قطعٌ نقدية من هنغاريا واليونان وصربيا، خرائط تفصيلية للمتروات والباصات في كل الدول، تذاكر مستعملة، أكياس زهورات وشاي ورقية، مسها بلل ثم جفت فتبقعت..
أزواج جوارب بألوان مختلفة..!!
في البيت، أعني في حذائك الضيق، رفيق سفرك في البحر، دلفينك الأليف، لن يهم إن كانت الجوارب متماثلة أم لا، الأهم.. هو التمييز أن هناك لوناً موحداً عند زواية الإبهام: دم متخثر إثر مشيٍ طويل.
نوستالجيا
لا عناوينَ لنا.
كنت ستعرفنا من البقال، من زوايا الشارعِ، من سؤال الناسِ في الأزقة، من أسماء آبائنا، من سُمرة أمهاتنا تَكنَّين بها ودلّت على بيوتنا.
تعرفُنا من صوتِ الأغاني الخارجةِ من النوافذ المشرّعة، هذا بيتٌ لأغاني فيروز، وهذا له طعمُ نخلاتٍ في رئتي فؤاد سالم.
ستدلك على طريقِ دارنا شجرة دفلة تقف مغبرّةً أمام الباب، واذا ما أخطأتَ، فإتبع رائحة يانسون يفوح كلما سكبنا الأقداح وقلنا «هلا«.
و«يدادي« مشيَك إلى الباب نسوةٌ ترضعن صغارهن قدّام الأبوابَ على بعد حارة، وثلاث نعوات ممّزقةٍ على الحيطان منذُ سنوات، ونخلات، وكعبةٍ مرسومةٍ على الجدار رحبت بزوار النّبي قبل عام.
وتعرفنا مما كتبنا على الجدران وترّخنا لصبايا الحيّ من الإنشاءِ الركيك، تعرفنا من أقدامِ أطفالنا وضعناها في الطينِ الطّري ليباركوا الدار.
لم نحمل أرقاماً للبيوت، ولا نعرفُ أن نكتب لك عنواناَ كاملاً لتزورنا.
تعال.. ستدلّك رائحةُ الطبخ، وثلاثة مراهقين يرابطون بجانب عواميدِ الكهرباء للصبايا الذاهبات إلى المدارسِ، للصبايا العائدات من الحمام.
تعال.. لم نغلق باباً لبيت ولا نافذةً للهواء…
..
هل تعرفُ أنه كانت لنا بيوت واسعةً..؟
كانت لنا ..
ترف التذمرِ إذا طُلِب منا كأس ماء،
الوقت اللازمُ لإحضارِ العشاء من المطبخ،
القدرة على التخفّي طويلاً في لعبة أطفال..
الاستمتاعُ بالسيجارة المسروقةِ في الحمام، ونجاح الخطّة بالنجاة مدخنين لسنةٍ كاملة من دون إحداث جلبة ..
كانت لنا بيوتٌ واسعة تنشغلُ الأمهات حينها بتنظيفها لساعات، ذلك وقت مهدور من عمر الملل.
سحابة تبغ الوالد تطير براحةٍ بين الغرف والصالون ..
صوت القبل المأخوذةِ خلسةً في الغرف الداخلية، صماء .
الوقت الطويل الشيّق للمشي ترنحاً، وجلب مكعبات الثلج من البراد إن داهمك نقصها في حضرة السُّكْر.
كانت لنا بيوت واسعة، خيولاً جامحةً كنا نربى في البيوت.
المستقبل