ثلاثة نظم عربية تتراقب وتحاول البقاء
عبدالوهاب بدرخان *
ثلاث «ثورات» تتفاعل حالياً بقدرات وأساليب واجتهادات مختلفة ومتفاوتة. قد تكون الأنظمة في اليمن وليبيا وسورية فوجئت بما يجري لديها، وما كان لها أن تفاجأ، بل لعلها غير معذورة في عدم توقعها ما حصل ولا عذر لها أيضاً في اختيار رد الفعل العنفي. والظاهر حالياً أن كلاً منها يستوحي تجربة الآخر، وكأن الهدف هو كسر الشعب وإخضاعه للحفاظ على النظام. فكيف يمكن النظام بعدئذ أن يستمر؟ الجواب ببساطة: كما استمر طوال تلك العقود. إذ يكفي اقناع الذات بأن الشعب غير موجود. وكان الاسرائيليون ذهبوا الى فرضية كهذه في ما يتعلق بالشعب الفلسطيني. قد يقول محاججون إن المقارنة هنا غير صحيحة، فليكن، لكن اسألوا المتظاهرين العرب هنا وهناك لتتأكدوا من أن الاستقرار لا يتحقق تحت احتلال ولا تحت قمع «وطني».
لا شك في أن هذه الأنظمة مرّت بأيام أفضل، لكن المؤكد أنها لن تعود. قد يكون لديها من الأسباب الكثير الذي أقنعها سابقاً، وحتى أمس قريب، بأنها مختلفة ايجابياً عن النظامين المصري والتونسي اللذين سقطا، وأن صورتها في الداخل والخارج أجمل من صورتيهما. قد تكون امتلأت يقيناً بأنها اقفلت الماضي والحاضر والمستقبل لقواعد سيطرتها، لكن ها هي المحصلة تبين لها الآن أن بناء الأوطان وتطويرها لا يمكن أن يتما على النحو الذي اتبعته، فهي تجاهلت مكوّنات المجتمع وأقامت لنفسها بنى موازية هدفها ادامة الخوف. كان في إمكان جميع هذه الأنظمة، الساقطة والمرشحة للسقوط، أن تتعلم من صرخة الاستياء الاسرائيلية من أن «حاجز الخوف سقط» غداة الانتفاضة الفلسطينية الأولى – فهذا الحاجز مرشح للسقوط في أي مكان، أو أن تتعظ من سقوط «جمهورية الخوف» التي حافظ عليها نظام صدّام حسين الى يوم سقوطه – فهذا السقوط غدا محتملاً لأي كان، سواء بغزو أجنبي أو من دونه، أو حتى أن تفهم شيئاً من شبه الحرب الأهلية التي شهدتها الجزائر غداة فوز الاسلاميين في الانتخابات – فبهذا الخيار أراد الناخبون تجريب نوع آخر من المتطرفين خلاصاً من متطرفين سبق أن جرّبوهم.
ثمة نماذج عدة كان يمكن استقراؤها للتأكد من أن الترهيب والتخويف ليسا السبيل الأمثل للمكوث المؤبد في السلطة. وأساساً كان الخطأ في الاعتقاد بكل ما يرجّح البقاء في المنصب، لأنه المفسدة – الأم التي ستشرّع كل المفاسد اللاحقة. إذ يستحيل الاستئثار بالحكم، أي بما لا حقّ لأحد في استئثاره، إلا بتهميش معظم قوى المجتمع والاعتماد على حلقات ضيّقة فأضيق، على الحزب فالقبيلة فالطائفة فالعائلة فأفراد من العائلة، وهكذا… ثم ان الوقوع في مصيدة احتكار السلطة يحيل السياسة الى أكثر مستوياتها انحطاطاً، فلا تعود عناوين الاستقرار والأمن أو أساليب الرشى وقنوات التحالفات الشكلية المفتعلة لتفي بأبسط متطلباتها لإقناع الشعب بأن ثمة دولة للجميع قائمة هنا. والأدهى أنه عند اكتشاف الكم الهائل من الأخطاء يكون الوقت قد فات، فما ارتكب على مدى عقود لا يمكن محوه أو صفحه في أيام، ويعجز النظام عن تغيير وجهه وهندامه ليغدو مقبولاً أو حتى ليصدّق نفسه قبل أن يصدّقه معارضوه ورافضوه.
في الآونة الأخيرة، بدا أن خريطة طريق رسمت لحل الأزمة اليمنية. وبدا ان الجميع توافقوا، أي الرئيس والمعارضة ودول الخليج، وكذلك الولايات المتحدة كشريك أمني أساسي والاتحاد الاوروبي كجهة مانحة. غير أن موقف الرئيس لم يكن محسوماً. فهو مثل نظيريه الليبي والسوري يراقب تقلبات المرحلة الانتقالية في مصر وتونس ليقول إنه لا يريد فوضى في اليمن، باعتبار أن ما ثار عليه مواطنوه لم يكن ليشي بأي فوضى. كما أنه ونظيره السوري يراقبان المواجهة الدائرة في ليبيا، فيذكّر اليمني بأنه حذّر ولا يزال يحذّر من حرب أهلية في بلاده ذات الظروف المهيأة للتشظي، فيما يتبرع رئيس الوزراء التركي بتحذير من «صدامات مذهبية في سورية قد تؤدي الى انقسامها».
ثم ان الرئيس اليمني يراقب التطورات في سورية ويقرأ فيها أن النظام يحصل على معاملة استنسابية، فلا أحد من ألدّ أعدائه يريد إسقاطه أو رحيله أو حتى نقل السلطة فيه من يد الى يد، بل إنه نال فرصة سعى اليها لإخماد الاحتجاجات بالقوة لقاء وعدٍ بأنه سيقيم حواراً مع المعارضة وسيطرح اصلاحات ملموسة ومتدرجة، ولا أحد يعرف واقعياً اذا كان سيفي بذلك أم لا، فما الذي يمنع أن يأخذ اليمني فرصته أيضاً؟ هذا ما أعاد طرحه على الوسطاء جميعاً وأخافهم بأن «صوملة» اليمن قد تكون واقعاً لا مجرد احتمال. لعل هذا ما جعله يعاود تصعيد أنشطة العنف، بل انه استوحى اسلوب القناصة على سطوح الأبنية. لكن «سلمية» الاحتجاجات في بلد مدجج بالسلاح مثل اليمن كانت المفاجأة التي لا تزال رئيسة، إذ اكتشف متأخراً أنه على رغم الحروب التي خاضها مع شعبه، فاته ان ينتج أو يستورد «خبرة» اختراع الأعداء المسلحين غير الموجودين وتسليط الأضواء على «مشروعية» القضاء عليهم.
وفيما ينقاد الرئيس الليبي الآن الى مزاج نهاية شمشونية يريد أن يقود البلاد اليه، يبدو نظيراه في سورية واليمن كأنهما أحسنا المناورة، لكن الى حين. فالأخير حصل على «ضمانات» مسبقة ترتب رحيله متى انتهت المناورات، أما الأول فيعتقد أن الخطر عليه ينحسر بل يتلاشى الى زوال، لكن ماذا بعد؟ لا بد من اثبات أن هناك هدفاً أكبر من مجرد بقاء النظام، وأنه استحق فعلاً كل هذا الدم وكل هذا التنكيل بالمواطنين وكل هذا الجهد المبالغ لتقديم وجه آخر للحقائق.
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة