ثلاثية أغوتا كريستوف
شقاء أوروبا الوسطى/ محمد أبي سمرا
قبل سنوات ترجم الشاعر الراحل بسام حجار روايتين للمجرية الطفولة والصبا، والمهاجرة إلى سويسرا في العشرين من عمرها، والفرنسية اللغة الكتابية، أغوتا كريستوف (1935-2011).
الروايتان هما “أمس” و”الكذبة الثالثة”. وهذه الأخيرة هي الجزء الثاني من ثلاثية كريستوف الروائية التي ترجم أحمد آيت حنا جزئيها: “الدفتر الكبير” (2015) و”البرهان” (2016)، بعد ترجمته سيرتها الصغيرة المقتضبة “الأمية”، وهي صدرت كلها عن “منشورات الجمل”.
عالم أغوتا كريستوف الروائي شديد الاقتضاب والتقشف والدقة. وهو غريب عن اللغة الفرنسية التي كتبت بها بعدما تعلمتها حرفاً حرفاً وكلمة كلمة، كما يتعلم الأطفال الكلام، لكن وهي في العشرين من عمرها، ووحيدة في الأمسييات، بعد عودتها من عملها المضني والمرهق في مصنع للساعات في مهجرها السويسري. جهلها التام باللغة الأدبية والثقافية الفرنسية وغربتها عنها هما ما منح كتابتها الروائية قوتها وحدّتها الاستثنائيتين في تلك اللغة التي أدرجت أعمالها في خانة الأدب الروائي الطليعي للمنشقين عن أنظمة السلطان التوتاليتاري الشيوعي السوفياتي في أوروبا الوسطى والشرقية، من أمثال الروماني إميل سيوران والتشيكيان إيفان كليما وميلان كونديرا وسواهم.
لكن أعمال كريستوف تتميز عن أعمال أمثالها من المنشقين المهاجرين بأنها كتبت في اسلوب متفرد في غربتة التامة عن المصادر الثقافية والنخبوية للأدب الأوروبي الحديث. ذلك أنها ولدت ككاتبة في لغة (الفرنسية) تعلمتها قراءة وكتابة كعاملة عاميّة مكتئبة، صامتة وخرساء وأمية، مما جعل كتابتها تجسيديّة وماديّة ومتقشفة في نقلها حياة البشر إلى اللغة على نحو يشبه نقل أشياء “الطبيعة الميتة” في الفن التشكيلي أو فن الأيقونة والتصوير الفوتوغرافي الفني بالابيض والأسود. وهذا ما جعل عالمها الروائي معتماً ورمادياً، قديماً وبلا ألوان. كأنما البشر في هذا العالم أقدم من اللغة، أو أن اللغة تلتحم بالعالم المادي وأشيائه التحاماً كاملاً لتقوله قولاً مادِّياً خالصاً، من دون مخيلة ولا تخييل، ولا ثقافة ولا محاكاة لمثال ولا إيحاءات ولا صرر، ولا إحالات إلى معان وقيم وأفكار خارجية.
لوكاس، الشخصية الرئيسة في “البرهان”، في الخامسة عشرة من عمره. يقيم وحيداً في منزل جدته الميتة منذ سنوات في بلدة حدودية صغيرة. في “الدفتر الكبير” كان في السابعة أثناء الحرب العالمية الثانية، فأتت به أمه مع أخته التوأم وأودعتهما في منزل جدتهما، أمها، وعهدت اليها إطعامهما من جوع، وغادرت. بعد مدة عادت الأم حاملة طفلة رضيعة أنجبتها. أمام منزل الجدة سقطت قذيفة، فمزقت جسديّ الأم ورضيعتها. بعدما كبر لوكاس أخرج الهيكلان العظميين لأمه والرضيعة من القبر، وعلّقهما فوق سريره في غرفته. في نهاية الحرب أتى والده إلى البلدة الحدودية، ومع أخيه التوأم حاول اجتياز الحدود، فقُتل الأب ونجا الأخ. حرّاس حملوا جثة الأب الممزقة ووضعوها أمام منزل الجدة. لوكاس أنكر معرفته بوالده، صاحب الجثة الممزقة. بعد أيام رأى صبية في الثامنة عشرة تحاول إغراق طفل رضيع في النهر خلف منزل الجدة، فأتى بهما الى المنزل. الصبية، ياسمين، تروي للوكاس: ليس لي والدان. توفيت أمي ساعة وضعي. حين عاد والدي من الحرب تزوج خالتي التي ربتني. لم يكن يحبها. لم يكن يحبُّ سواي. كنت أكبر. وظل أبي يداعب نهدي. ذات يوم أثناء رقادي أخذتُ يده ووضعتها بين فخذيّ. ذات مساء اضطجع فوقي. وضع عضوه بين فخذيّ. لسنوات مارسنا الحب بهذه الطريقة. كانت رغبتي به عظيمة جدا. وذات ليلة لم أستطع كبح جماح شهوتي ففتحت فخذي. كنت مشرعة تماماً ودخلني والدي، ومنه حملتْ وانجبتْ. تصمتُ ياسمين. تنظر إلى لوكاس. تُخرج نهدها من قميصها وتسأله: أتريد؟ أمسكها لوكاس من شعرها، وجرّها الى الغرفة، ثم القى بها على سرير الجدة، وواقعها وهو يعضُّ رقبتها.
هذا مثال نموذجي مكثّف وملخّص للأسلوب الذي كتبت به أغوتا كريستوف ثلاثيتها الروائية. وهو أسلوب يكتم الألم الذي تفصح عنه الروائية البيلاروسية سفيتلانا الكسيفيتش، حائزة نوبل للآداب للعام 2016. ففي روايتها “نهاية الإنسان الأحمر أو زمن الخيبة” تنقل الكسيفيتش شهادات لمئات الأشخاص يروون مقتطفات من سير حياتهم. أحدهم تقول: “الألم على الدوام موضوع أحاديثنا. إنه طريقنا الى المعرفة…نحن (من) خبرنا معسكرات الاعتقال، وغطّينا الأرض بجثثنا في أيام الحرب، جمعنا بأيدينا العارية الشظايا النووية من تشيرنوبيل. وها نحن الآن متحلقون على أنقاض الاشتراكية، نرطن بلغتنا الخاصة، لغة الألم”.
اغوتا كريستوف في ثلاثيتها الروائية تروي بلغتها المتقشفة، الكتومة والطبيعية، تعاسة وشقاء بشر الحرب العالمية الثانية وبعدها بسنوات قليلة. وذلك في بلدة مجرية ريفية ومدينة صغيرة مجاورة لها، حيث لم تُبقِ الحرب سوى بقايا بشر تعساء أشقياء، يأرقون ممزقين منقطعين ومشردين. حتى ليتساءل المرء كيف استطاعت بلدان أوروبا الوسطى والشرقية التي طحنتها الحروب النازية والستالينية من استعادة حياتها كمجتمعات من الصفر والرميم اللذين ترويهما كريستوف، حيث التعاسة والشقاء البدنيين والروحيين يعاشان كقدر توراتي غير قابل للتغير والزوال. تعاسة وشقاء طبيعيان بلا وعد ديني ولا دنيوي بخلاص لا يبدو أنه من طبيعة الحياة البشرية.
المدن
ثلاثية أغوتا كريستوف
الأدب في زمن الحرب: هناك عدة صور وأشكال من صور الأدب في زمن الحرب؛ منها ما هو منغمس في سير الحرب واتجاهها وتأثيراتها، وشخوص أبطالها والقادة، وقد يخرج من النطاق الحربي إلى الحياة المدنية ويظهر تأثير ذلك. هذه الصور تحتاج لصفحات طوال يستغرقها العمل الأدبي، ومن أشهر هذه الصور العمل الملحمي الكبير الحرب والسلام لتولستوي، وقد أشير إلى فصل واترلو في البؤساء لفيكتور هيجو كصورة أدبية في زمن ومكان الحرب. ومن صور الأدب في زمن الحرب هو تأثير ظروف الحرب والحصار والضيق الشديد من خلال نقص المؤن والغذاء وفقدان حالة الأمن على السكان. الحرب هو الأساس والمحرك الرئيسي لكل ما يتبعه، غير أن الظروف الاجتماعية والحياتية والسياسية والاقتصادية والنفسية تتغير تبعاً لذلك. هناك أدباء كثر كتبوا عن هذه الصور. هناك من سيفضل ألبرتو مورافيا من خلال رواية امرأتان، هنالك قراء سيفضلون روائيين لم ترد في نصوصهم مفردة حرب، لكنهم أـبدعوا في وصف الحالة النفسية للإنسان في زمن الحرب. إن كنت سأذكر روائياً واحداً هو الأول في الكتابة من خلال هذه الصور، أي الكتابة عن الإنسان الغير سياسي والغير مهتم أو المؤثر في زمن الحرب، والذي لا شأن له في هذه الحرب من قريب أو بعيد، ولكن الحرب ألقت به في حالة ضياع وبؤس وسقوط، ستكون الروائية الهنغارية أغوتا كريستوف. الرواية في زمن الحرب-التي تتناول الإنسان كفرد وحالة وجوده وآماله وأحلامه وطبيعته النفسية يجب أن تُكتبت كما تكتبها أغوتا كريستوف. وبصورة أكثر وضوحاً: -من ضمن روائيي القرن العشرين-إما أن تُكتب الرواية مثل أغوتا كريستوف، أو لا تكتب. يا لبراعة وقوة الأدب! بكلمات مباشرة واضحة لا تحتمل التأويل، ولكن بفكر مختلف وعقلية فذة وصنعة متكاملة، لن يكون هناك سوى الدهشة. كان هذا رد فعلي المباشر بعد أن انتهيت من إغلاق الصفحة الأخيرة من ثلاثية الروائية الهنغارية أغوتا كريستوف: المفكرة، البرهان، الكذبة الثالثة. وبعد مرور عدة أيام لم أجد تغير في رأيي. بل إني أجد مكانة هذه المؤلفة الهنغارية يجب أن ترتفع لتصل إلى كبار كتاب القرن العشرين. ما الذي ينقصها لتكون كذلك؟ لا ينقصها أي شيء. ولا تحتاج لموت تراجيدي حتى يخلد اسمها. حياتها كانت صعبة للغاية ومرهقة. لا يوجد ما هو مرعب أكثر من أن تجد نفسك غريب اللسان والفكر والهوى في بلد آخر، فاقداً وطنك وأهلك ولغتك وأدبك. تعود طفلاً وأنت في الكبر لتتعلم كيف تتحدث وتخاطب الآخرين. ومع ذلك-تحت هذا السيل الهادر من النفي-لا مجال لرؤية ضيقة في الكتابة، من منطلقات نسوية أو حزبية أو وجهة نظر سياسية، بل تركت كل هذه المنطلقات خلفها وكتبت عن الإنسان البشري في دول تعيش حالة حرب. قد يعرف أسلوب المرأة الكاتبة من خلال أفكارها. هل هذا الفكر موجه إلى آخر محدد ومعبراً عن طرف دون آخر، أم الخطاب أو النص الأدبي موجه للكل، محاولاً أن يعبر عن مجموعة تعيش في حالة سقوط. أغوتا عبرت عن نفسها كإنسان، محاولة التعبير عن إنسان منتصف القرن العشرين في أحد المدن البلغارية، في فترة الحرب العالمية الثانية والكتلة الشرقية وسيطرة الاتحاد السوفييتي على حياة البلغار ولغتهم. كيف تسير حياة هذا الكائن البشري؟ هذا هو موضوع الروائية الهنغارية أغوتا كريستوف في ثلاثيتها الأدبية: المفكرة، البرهان، الكذبة الثالثة.
في الجزء الأول من الثلاثية: المفكرة، تنتقل امرأة للعيش في منزل والدتها مع طفليها التؤام. تاركة خلفها مدينة لا يمكن العيش فيهها بحال من الأحوال بسبب الحرب. الجدة تستقبل ابنتها وولديها استقبال قل نظيره في الترحاب، ممتلئ بالكراهية والشتائم. لكن الرواية لا تدور على لسان الجدة ولا يوجد راوي عليم مسيطر بالكامل على شخوص الرواية. السرد يسير على لسان الطفلين التؤام. هذا السرد لا يفصل بين عقلية الطفل الأول وصوته وبين عقلية الطفل الثاني وصوته. إذا حدث تصرف أو فكرة مرت في الذهن فهي تدر على لسان الطفلين مجتمعين. ليس هناك أنا وهو. هناك فقط: نحن. طوال قراءتي للرواية كنت أتساءل – وكأن هناك شيئاً غريباً-لماذا لا يكون هناك شكل من أشكال التناوب في السرد بين التؤام؟ من المستحيل أن يكون كل واحد منهم يفعل الشيء ذاته، ويفكر في نفس الشيء. كل شخصية مهما كانت تحمل اتفاق مع شخصيات أخرى، لا بد أن يكون لها كيان خاص بها ووجود مستقل يميزه عن الآخرين. ألا يوجد لهم أسماء تميزهم عن غيرهم! هذه الاستقلالية ألغتها المؤلفة وجعلت من التؤام شخص واحد، لا أسماء لهم، يفكرون بشيء واحد ويفعلون ذات الشيء، وكأنهم بعقل واحد. لا يوجد تمييز في الشخصية، لا يوجد أنا أو أنت، وإنما نحن. وسرد الجزء الأول يقوم على هذه: نحن.
ظروف الحياة التي وجدها التؤام في بيت الجدة مليئة بالصعاب. ليست سهلة. أصبحت مفردة الحياة ليست سهلة واقعاً يعاش. إن كان لهم بأن يعيشوا في مسكن هذه الجدة الساحرة أو المشعوذة أو المجنونة، عليهم بأن يعملوا ويتعبوا كل مشاهد الرواية وتفاصيلها هي نتاج للحرب وظروفها. وهذه المشاهد بالغة الصدمة والحدة، إذ ماذا يمكن أن تخلف الحرب؟ لن تترك شيئاً يسير بمساره الطبيعي ولن تقدم الجميل. ستقدم الدمار. ومن هذا الدمار سينتشر العنف والضياع والفقد والجوع والاستغلال. نجد الطفلين يقومان بممارسات لا يمكن فهمها: يعودان أنفسهم على الضرب والصمت والتعذيب. من أجل ماذا؟ لأي سبب في الحياة يعود الطفل نفسه على الضرب والتعذيب والصمت والوقوف لساعات طوال؟ طرح هذا السؤال على المؤلفة بعد سنوات، وكان جوابها: من أجل أن يدافعا عن أنفسهم. بعض المشاهد في هذا العمل مخيفة في حد ذاتها، كالجنون الذي حل على بعض الشخصيات، ألقت الحرب نيرانها في الدولة، وأضحى بعض السكان من شدة الجوع والفقر خارج نطاق العقل، وتحت هيمنة الاستغلال، لا يفكرون إلا بنهاية قاضية. وحين تدور الحياة بهذا الشكل من العنف والمهزلة، كل شيء سيكون مباحاً، كل شيء سيكون أمراً طبيعياً، لا غريباً. الجميع يتجه لأن يحرق نفسه حتى يحل السقوط الكبير.
هناك أمر أساسي في هذا العمل الأدبي وفي الثلاثية بشكل عام. اللغة سهلة للغاية. تبدو بالفعل لغة طفلين. مباشرة، لا يوجد فيها ما يحتمل التأويل. والأهم من كل هذا: اللغة الأدبية التي تتمتع بها أغوتا كريستوف لغة اقتصادية قائمة على تكثيف الصور في كلمات وجمل قصيرة للغاية. لا يوجد زوائد، لا يوجد إسهاب في الوصف أو الحوار. وكأن النص في حالته الأولى كان متضخماً ودخل عبر آلة قصت مختلف الزوائد. أن تتحدث بلسان طفل في نص كامل أمر صعب، وأن يكون بهذه الكثافة اللغوية وعدم وجود أي زوائد، هنا يظهر السؤال: كيف استطاعت المؤلفة أن تكتب بمثل هذه الطريقة؟ قد يكون هذا بالفعل أسلوب المؤلفة في الكتابة الأدبية، لكن سيكون هناك نوع من الاستطراد والتوسع والإسهاب في أحد المشاهد. لا بد أن تأتي مشاهد تأخذ بعقل المؤلفة فيجعلها تضيع في غابات السرد. اللغة كانت عامل مساعد إما في الحد من السرد، وإما في جعل السرد ينطلق هكذا دون زيادات في الوصف والحوار. لا أخفي بأنه لم يعجبني السرد في بدايته. كان غريباً لفرادته وشكله. لأول مرة أقرأ بمثل هذا الشكل وهذا الأسلوب. وصلت إلى مرحلة وصفت فيها شخصياتها بالآلية، لا يوجد فيها ما هو بشري. إن نتيجة الألم هي التألم. في سرديات أغوتا كريستوف نشاهد الألم وهو يضرب ويكشف عن حضوره ولا نعرف شيئاً عن التألم والاستكانة والبحث عن الأمان. للإجابة عن هذا السؤال-0 كيف استطاعت المؤلفة أن تكتب بمثل هذه الطريقة-هناك جانبين رئيسيين: جانب إيجابي قائم على جانب مأساوي. لولا المأساة التي تكشفها سيرة المؤلفة، لما كانت لغة أغوتا كريستوف في هذه الثلاثية بمثل هذا الاقتصاد في اللغة والاعتدال وعدم وجود زوائد أو إسهاب.
وهذه مفارقة كذلك؛ المؤلفة كتبت الثلاثية بلغة ليست لغتها الأصلية، وليست لغة مفضلة للكتابة كذلك. ليست هي الأولى التي تكتب بلغة غير لغة الأم. هناك روائيين كتبوا بلغات أخرى غير لغتهم الأصلية ونجحوا فيها، لكن أغوتا تكتب بلغة ليست لغة مفضلة أو صالحة للكتابة. في العشرينات من عمرها غادرت أغوتا كريستوف مع زوجها وطفلها وبعض الأشخاص بلغاريا باتجاه الحدود النمساوية، هرباً من سيطرة السوفييت على وطنهم الأم. بعد رحلة طويلة تاهوا خلالها في الغابات وصلوا إلى الدولة النمساوية، العدو السابق الأول لوطنها الأم. تهرب من عدو إلى عدو آخر سابق. أمضت أغوتا وعائلتها فترة قصيرة نسبياً في النمسا وجرى توزيعهم لاحقاً في عدة دول. كان قدر أغوتا أن تكون لاجئة في إحدى المدن السويسرية. إنه لجوء كامل وانتقال حياة كاملة، وتغير يجب أن يحدث. وصفت أغوتا كريستوف هذا الانتقال بالصحراء. هذه المدينة الجميلة التي أحسنت استقبالهم بمثابة صحراء واسعة، إذ أنك مجبر على الاستماع بلغة لا تفهمها، والحديث بلغة لا تفهم منها شيئاً. المؤلفة تبجل القراءة، وتعتبر نفسها قارئة من الرابعة من عمرها، وكتبت بعض النصوص والقصائد بلغتها الأم. عندما أصبحت لاجئة في العشرينات من عمرها كان عليها العمل في أحد المصانع السويسرية لإعالة نفسها وطفلها، تتحدث وتعمل بالفرنسية التي لا تفهمها، وفي أوقات الفراغ يطيب لها أن تتذكر بضع كلمات تتكلم بها مع بني جدلتها. وجدت نفسها مضطرة أن تدخل في أحد الجامعات لتتعلم المرحلة الأولى من التحدث ومعرفة اللغة الفرنسية. أمية في العشرين من عمرها. هذه الميزة السلبية للغاية، أن تكتب بلغة ليست لغتك ولا تفهم الكثير منها كان لها أثر جبار في أدب أغوتا كريستوف وتحديداً في كامل ثلاثيتها الأدبية. ذكرت أغوتا عن سنوات اللجوء في هذه المدينة السويسرية مفردة مثيرة للاهتمام: صحراء. أن تكون غريباً وفي محيط لا تفهم منه شيئاً، قد يكون أكبر باب للانتحار. ذكرت المؤلفة بعض الذين انتحروا، لم يستطيعوا تحمل هذا الأمر. أتذكر شخصية روائية من دولة مجاورة لدولة المؤلفة، الروائي والكاتب النمساوي ستيفان تسفايج. هو مثلها يحب القراءة والكتابة والآداب والفنون، وعندما تفجرت أوروبا بالحروب العالمية، انتقل من نفي إلى نفي آخر، حتى وجد نفسه في مكان لا ينتمي إليه، يتحدثون بلغة لا يفهمها، لم يكن له من طريق للهرب غير أن ينتحر.
الجزء الأول يجب أن يقرأ وكأنه مقدمة لبداية هذه الملحمة الهنغارية. رغم أن المؤلفة أتمت العمل الأول كعمل مستقل لا يوجد فيه أجزاء أخرى، إلا أن الترحاب الشديد والنجاح الذي حققته المؤلفة جعلها تشرع في كتابة الجزء الثاني: البرهان. الجزء الأول كان مؤثراً بلا شك ومفزع في بعض مشاهده. لكنه لم يكن مقنعاً بالنسبة لي بشكل كامل. لم أشعر بقوة ضربات المؤلفة وهي تبدع في سردها. نعم، كان لها شكل يميزها عن المؤلفين الآخرين، لكني لم أجد الشيء الذي يجبرني على إغلاق الكتاب للتفكر فيه أو استيعابه. نهاية الجزء الأول كانت قوية للغاية، ومما لا شك فيه أن المؤلفة أخذتها من تفاصيل هجرتها من الوطن الأم. يعود والدي التؤام لزيارة التؤام وهو عازم على قطع الحدود القريبة للهرب من جحيم الحرب. وحين يقرر الانطلاق، ينطلق معه أحد التؤام، ويبقى الطفل الآخر في المدينة.
ينطلق الجزء الثاني من الثلاثية: البرهان، على لسان شخصية كلاوس. وهو الطفل الذي بقي في المدينة ولم يقطع الحدود. هذا الجزء يتمتع بقصصه الفذة وسرده البليغ، ورشاقة الانتقال في الزمن بتصاعد لم يؤثر في مستوى السرد أو شخوص وأحداث الرواية. هل توجد أحداث؟ هناك صعود قوي في العمل الفني. هذا الصعود لا يتمثل بخط سير يجب أن يصل لنهايته، بل هي تفاصيل حياة الناس ومعيشتهم في هذه المدينة تحت الاحتلال. التفاصيل تكشف ما تخبأه الحرب. حتى لو توقف إطلاق النار من سنوات، هناك تبعات يجب أن يُدفع ثمنه، وتغيرات يجب أن تحدث. أغوتا كريستوف مبدعة في وصف انعكاسات هذه الحرب على أحلام الناس ومخيلتهم وحياتهم. لم يكن كلاوس وحده هو البطل هنا، هناك شخصيات تتفوق عليه مثل شخصية كلارا، والطفل الأعرج متى، ووالدته ياسمين. الحالة الاجتماعية من فراق وفقد وعلاقات غير شرعية تهوي إلى الأسفل. لغة المؤلفة التي كنت أراها تميل لأن تجعل الشخصيات آلية، أصبحت هنا ترسم صورة بليغة للغاية، بشرية، تشعر بحرارة الدم يتدفق منها عبر الألم. في الجزء الأول لا تتجه المؤلفة إلى كشف ما يحدثه الألم من خوف ورعب. هنا كان لزاماً عليها، أو أن اللغة ساعدتها في ذلك، في التفاصيل الحياتية يجب أن يكون الكشف أكبر من صورة الألم. يجب أن يلقي الضوء على ما بعده، على ما حدث وما جرى ونتائجه دون توسع. وهذا الكشف يجعل النص يكشف شخصياته أبطاله من الداخل، يحللها نفسياً. كيف يعيش هؤلاء في هذا الرعب، ولازالوا محتفظين برباطة جأشهم؟ المشاهد التي كانت تأتي سريعة في المفكرة، في البرهان تأخذ وقتها حتى تنهمر وتكشف عن جمالياتها. مثل حقيقة كلارا وزوجها القتيل، والذي تم إعدامه بأمر من سلطات الاحتلال. تتلقى كلارا رسالة من سلطات الاحتلال يعلنون فيها بأن زوجها بريء، وأنه تم إعدامه بالخطأ، ويعتذرون ويطلقون الوعود بأن هذه الأخطاء لن تحدث في المستقبل. ولكن، هل يجدي الاعتذار أو الأسف؟ ماذا بعد الإعدام والإلغاء والنفي؟ لا طريق للعودة: لكنه ميت! هل بإمكانهم أن يعيدوه من الموت؟ هل بإمكانهم أن يبكوا طوال الليل، مثلما بكيت طوال الليل حتى أبيض شعري، وكنت متجهة للجنون؟ لغة أغوتا كريستوف في البرهان ترسم صورة سينمائية بديعة للغاية، وكأن القلم أصبحت مثل الكاميرا: ينقل ما حدث دون وصف. أحاديث الطفل متى وسيرة طفولتها الهادئة ثم القدم العرجاء، وارتباطه الشديد مع لوكات إلى حد الغيرة، وتصرفات الطفل وسلوكياته في المدرسة، هذه لغة سينمائية رائعة نادرة الوجود.
ميزة أدب أغوتا كريستوف ورواياتها أن القارئ لن يبحث عن تحليل أو يسهب في الحديث عن أحد الشخصيات. أساس قوتها وأدبها هي هذه التفاصيل المكتوبة بدقة ومهارة، وبلغة مقتصدة كذلك. لم تكسر المؤلفة خط سيرها المتمثل بسرد اقتصادي خالي من الشوائب لا يتفرع كثيراً ولا فيه أي نوع من الزيادات. بلغة مباشرة وواضحة. ماذا يعني لي الجزء الثاني؟ هو بلا شك صعود قوي في القصصية الروائية لدى أغوتا كريستوف، تفاصيل سرد الحياة والزمن تسير بشكل هادئ. تفاصيل تحمل مشاهد جميلة. البعض منها حزين كل الحزن، والبعض منها مخيف ومرعب. كان بإمكان المؤلفة أن تغلق هذه الملحمة الروائية عند البرهان. تبدو لي كاملة ولا مجال للإضافات، لكن المؤلفة تقرر إضافة جزء ثالث تحت عنوان الكذبة الثالثة.
أغلقت الصفحة الأخيرة من الثلاثية، وتحديداً الجزء الثالث: الكذبة الثالثة، وأنا لا أعرف أين أنا بالضبط، ولا أعرف ما الذي جرى، وما الذي حدث. فكرت لدقائق: هل فهمي للجزء الثالث سليم أو مشوه؟ هل فهمت المجرى الذي سارت به الثلاثية من البداية إلى النهاية أم لا؟ يبدو أن هناك خيط مفقود لكن لا أعرف ما هو وأين هو بالضبط. لا أدري كم مرة قمت فيها بلعن المؤلفة. وصلت إلى تلك الدرجة العالية من الافتتان بالثلاثية، بسبب الجزء الثالث فقط، وهو بالنسبة لي تاج الثلاثية والرائعة الكبرى في هذه الملحمة. هناك مؤلفين يملكون وسائل لتقديم المبهر والعظيم للقارئ. البعض يفضل تقديمه من منطلق تواصل مباشر مع القارئ، يكتب المؤلف لنفسه أولاً وللقارئ. والبعض وسيلته هي فرد العضلات وإظهار القوة. أغوتا كريستوف تنتمي للصنف الأول. قبل أن تكتب للقارئ أولاً هي تكتب لنفسها: هناك تفاصيل كثيرة ومشاهد هي جزء من سيرة المؤلفة. حين قطع أحد التؤام الحدود كانت هي المؤلفة مع عائلتها حين قطعت الحدود الهنغارية باتجاه النمسا ومن ثم سويسرا. وحين تكتب تحت ضمير نحن، فهي تقصد نفسها وأخيها الذي بقي في بلغاريا. وفي الجزء الثالث، السرد هذا المرة ينطلق من خلال التؤام المهاجر إلى الدولة المجاورة، كلاوس. أو ربما المؤلفة حين عادت لزيارة وطنها!
الكذبة الثالثة نص متفجر من بدياته إلى نهايته. كل بداية فصل ممتلئ بالدهشة. أن يسير القارئ في رحلة الجزء الثالث يعني ذلك أنه يسير في حقل ألغام، لا تعرف أين سينفجر اللغم القادم. ما أساس هذه الدهشة والقوة في الجزء الثالث؟ لنأخذ جانب اللغة أولاً. اللغة في الجزء الثالث هي مثل الجزء الأول والثاني، لا فرق بينهما. المؤلفة مستمرة في الكتابة بلغة مقتصدة لا يوجد فيها أي نوع من الإسهاب أو التفاصيل. لكن هذه المرة أجد لغتها فيها نوع من الشعرية، شعرية قائمة على لغة مقتصدة وزمن ينتقل من الماضي إلى الحاضر إلى الماضي بكل رشاقة، وشخصيات كلما تعرف عليها القارئ كلما أزداد جهلاً بها. المؤلفة لم تغير شيئاً في تقنياتها الكتابية. ما الذي يجعل من نصها هذه فيه نوع من الشعرية؟ فكرة الرواية بحد ذاتها هي من جعل النص شعرياً وحاملاً لهذه القوة الهائلة من الفن. بعد ثلاثة أيام من الانتهاء من قراءة الجزء الثالث أعدت قراءة الكذبة الثالث لأعرف ما الذي حدث بالضبط. لا أحب بأن اخرج من النص مغفلاً. لن اسمح للمؤلف بأن يسيطر عليّ. أريد أن أفهم كيف تلاعبت المؤلفة بالقارئ وقلبت أساس هذه الثلاثية رأساً على عقب
لو طرح على سؤال بعد قراءة الجزء الثاني عن هذه الثلاثية سأقول: هذه قصة لوكاس، وقصة كلاوس. أما بعد قراءة الجزء الثالث ستتغير الإجابة إلى: هذه قصة لوكاس أو كلاوس. أو ربما قصة كلاس أو لوكاس. هي قصة كلاوس ولوكاس مجتمعين وقصة لا أحد منهم. نعم، هي قصتهم مجتمعين وقصة لا أحد منهم على الإطلاق. وقد لا يكون هناك قصة من الأساس. إن تفاصيل الحياة المرعبة لا تترك مجالاً ولا مساحة للقصة والكتابة الأدبية. “قد تكون حياة الفرد كئيبة، أشد من الكتب كآبة. لا يوجد أي كتاب-مهما كان درجة الحزن بداخله-بإمكانه أن يقارع حزن الحياة”.
أساس القصة في الكذبة الثالثة أن لوكاس-التؤام الذي هرب لدولة مجاورة-يعود إلى موطنه الأصلي بعد التحرير للقاء أخيه التؤام. يعود وهو في الخمسينات من عمره. أي أن هناك فترة زمنية طويلة حدث فيها انقطاع عن التواصل. هناك احتمالين: الأول أن تنتهي القصة بأن يجد كلاوس أخيه لوكاس، أو يعرف عنه شيء يزيل غموض رحلة البحث عنه. هذا الاحتمال هو الأكثر احتمالاً وحدوثاً. أما الاحتمال الثاني فهو قائم على المؤلف: إذا كان القارئ يتوقع بأن يجد الأخوين بعضهم البعض، عليها-أي المؤلفة-أن تجعل لقاء الاثنين مستحيلاً بشكل كامل، ليس بسبب حياة أو موت، بل بسبب وجود هذا الكائن أو عدمه في الحياة أصلاً.
يتقابل الأخوين وكأنهم لم يتفرقوا ولو لدقيقة طوال الحياة. إنه حلم. الحياة مجرد حلم. كلاوس راكب في القطار وهو في الخمسين من عمره. في لحظة واحدة وبذات الدقيقة، يصبح كلاوس وهو صغير، راكب في هذا القطار. يعود السرد سنوات إلى الوراء، إلى الطفولة. ولكن هذه المرة بوجود التؤام ولكن مختلفين، كل واحد منهم له عقل يفكر به ولسان يتحدث به. يفترقون بسبب الحرب التي بدأت طلائعها تظهر في الأفق: كلاوس في مستشفى الرعاية لإصابة بليغة في الساق. قد يصبح أعرجاً. أين السيد دوستويفسكي؟ لم يتبقى إلا أن يعلن بأن الجزء الثالث هو من كتابته. ممتلئ بالمجانين والمصابين والعاهرات والعلاقات المتشابكة، ولكن لا. السيد دوستويفسكي لا يعرف الظروف داخل الوطن، على أتون الحرب. قذيفة تقتحم مستشفى وتنسف سكانه ومرضاه: هناك من سيسأل عنهم، وهناك من إن مات أو كان حياً ليس بذيء أمر كبير. لم يعد هناك أحياء يستطيعون السؤال.
الروائي والكاتب النمساوي ستيفان تسفايج في قصة بارعة له جعل البطل يلاعب نفسه لعبة الشطرنج فترة طويلة من الزمن حتى يسيطر على عقله ويمنع نفسه من إلقاءها للهاوية. أغوتا كريستوف على خطى تسفايج لكن بشكل أكبر: خلقت شخصية من العدم حتى تحافظ الشخصية الأخرى على وجودها وحياتها. تبدو الحياة محتملة إذا عندما نكتب القصص والرواية. نحمي التفاصيل ونجعلها مكتوبة، حينها تصبح العزلة الغير محتملة قابلة للاحتمال، والحياة. لكن، بإمكان المؤلف أن يخبرني بأن كل ما جرى وهم وخيال، وحينها لم يتبقى إلا بضع كتابات قليلة تصف الوضع العام وينتهي النص. في الوقت الذي تبدو فيه ملامح العمل واضحة، ينقض السارد فكرة المؤلف ويجعل من الطرف الآخر أو الشخصية الأخرى حقيقة واقعة، وكل شيء سيؤدي إلى لقاء أو معرفة الأخوين ببعضهم البعض. التناوب السردي بين البطل ونفسه والشخصية المختلقة-أو الحقيقية-هائل. ليس هائل وحسب بل جبار. يرتفع مع كلاس وهبط إلى الهاوية مع لوكاس، ثم يعود إلى كلاوس k أو كلاوس c. أتذكر مشهد من المشاهد، بقدر ما أثار في عقلي الضياع، بقدر ما تقول بعد قراءته: لا تملك أغوتا كريستوف مفردات شعرية وحسب، بل وسينمائية. وحين أقول سينمائية تعود بي الذاكرة إلى كريستوف كيشلوفسكي، في عمله السينمائي العظيم فيلم قصير عن الحب. في واحد من أروع المشاهد السينمائية جعل البطل يشاهد تاريخه وماضية من خلال منظار. هو ذاته ما فعلته أغوتا كريستوف في الكذبة الثالثة: البطل يشاهد نفسه. لكن كيف؟ البطل الصغير يشاهد نفسه وهو صغير. توقعت بأنها ستستهلك ما لا يقل عن عشر صفحات حتى تصف مثل هذا المشاهد، لكنها في سطرين فقط تنقل هذا الواقع، الحلم.
أجمل قراءة أتممتها هذا العام هي قراءة ثلاثية أغوتا كريستوف: المفكرة، البرهان، الكذبة الثالثة. وما كان لهذه القراءة أن تكون بهذا الجمال دون ترجمات الثلاثي: آلان شيردان للمفكرة، ديفيد واستون للبرهان، ومارك رومينو للكذبة الثالثة. هناك فائدة كبرى لمن سيقرأ هذه النسخة الإنجليزية: لمن يعاني من القراءة بالإنجليزية، أو هو مبتدأ ويريد قراءة أعمال أدبية إنجليزية أو مترجمة للإنجليزية، هذه الثلاثية ستعطيه الكثير مما يطمح إليه. لغة أغوتا كريستوف الاقتصادية، والتي لا تعرف الاسهاب أو التطويل جعل من النص الإنجليزي سهل القراءة وجميل للغاية.
لتحميل الروايات اتبع الروابط التالية
—-
رواية الدفتر الكبير
—–
—-
رواية الكذبة الثالثة – أغوتا كريستوف
صفحات سورية ليست مسؤولة عن هذا الملف، وليست الجهة التي قامت برفعه، اننا فقط نوفر معلومات لمتصفحي موقعنا حول أفضل الكتب الموجودة على الأنترنت
كتب عربية، روايات عربية، تنزيل كتب، تحميل كتب، تحميل كتب عربية.