ثلاثية لقسم لا إله فيه على “جمهورية الكل السورية”
محمود عباس
لحظات حاسمة في مسيرة الثورات الحاضرة، تنبثق منها تحولات نوعية عميقة في المفاهيم الفقهية المشوهة للقومية ومرتكزاتها، صلبان تجهز هناك لمبادئها، فيستفيق البعض من مريديها مزعوقاً مذعوراً، يصارع الآخر بدون وعي أو إدراك لما يطرح من أفكار وتؤيلات للمستقبل القادم. ينبشون عن أروقة الثقافة من أبوابها المهترئة، ليثبتوا مرتكزات إيمانية للفوقية في القومية، حيث ظاهرها سقيم وباطنها مشوه بمفاهيم مترامية في آفاق الكراهية، لظهور الآخر بالمثل.
ما ولجوه الكرد من وراء طرحهم، وضع حد لضياع الإنسان السوري عامة قبل الكردي في متاهات الثقافة العدمية وإلغاء الآخر، وهم الذين قدموا الكثير في الماضي المؤلم ذكرياته، للتعبير عن المعاناة التي عانوها ويعانيها الشعب السوري من وراء المفاهيم الإقصائية تلك، التي دُرجتْ ودُرستْ وثُقفَ الشعب بها عنوة وعلى مدى قرون، وركزت بكثافة وعن سابق اصرار وتصميم في العقود الأخيرة، وأول ما بدأو به كان التجسيد لمفاهيم ومعتقدات الثورة الشبابية في سوريا بإطارها العام،، بإزالة العبارات التي لا تقل وعورة من ثقافة البعث الإلغائية، ليمهدوا الأرض الخصبة لبناء دولة حضارية إنسانية للجميع فيها مسكناً آمناً روحياً ومادياً.
أطلاق سوريا بمجمله كوطن للكل ليس تجريداً لعروبة العرب، كما وهو ليس إنعزالاً أو أغتصاباً للكرد لوطن يتشدقون إلى إنتمائهم الوطني له، والذي يفند بذاته الكلي الإنفراد القومي، ولا تحريض في طرحهم على خلق إنتماء عشوائي هناك لسوريا الوطن الكلي، بل أنه بحث في العمق الحضاري لإعادة الروح للإنسانية التي تذبل وعلى مدى عقود من وراء الثقافة الفوقية الشمولية بالإلغائية للآخر، والإنتماء للواحد المتسلط بنزعة قومية متعصبة.
لا أبحث في القيل الواهن ثقافة، ومسنداً فكرياً للسادة المذعورين قومياً ” الشيخ المحترم عرعور والأديب القدير أبو شاور والإعلامي الناجح قاسم ” فهي حكايات لا تحتاج إلى إلغائها بمنطق نقدي، لأنها تهدم من ذاتها عند قراءتها من قبل القارئ الواعي. بل أبحث عن الأبعاد الغائية لهذه المفاهيم وما وراء ثقافة هؤلاء الثائرة فجأة، وعلى أية أرضية نبتت، ومن أية منابع يستمد هؤلاء هذه المزايا الفكرية الشاذة عن ثقافتهم النوعية، التي يطرحونها عادة.
وجودية المكون زمكانياً يلعب في الحاصل الفكري الثقافي الضحل دوره الكلي، ويحدد سويته في القناعة بوجوده كمكون يؤمن به الآن، وكان يلغيه في العقود الماضية، كوجود لماض حاصل أو تكوين مفتعل لدول الشرق الأوسطية في بدايات القرن، الحاصل الموجود الذي رفضه الجميع من المثقفين إلى السياسيين، وهم الآن يدافعون عن نفس الكيانات من خلف ضياع أو نسيان للقناعات والمفاهيم الماضية، وعليه لو حصل حاصل بين تلك الدول آنذاك وحضر ” كردستان ” كدولة بشعبها حضوراً دولياً أنذاك، فهل كنا سنرى هذه الإنتفاضة المصروعة بالعروبية الآن؟ أم أنهم كانوا سيبحثون عن منطق فكري متزن ليحللوا المطروح، وينظرون لمستقبل ينشدون من ورائه تقارب في المفاهيم لهدف أسمى من النظرة الإلغائية. لكننا نجد اليوم بأن هذا الطرح يستفز ” عروبة ” هؤلاء السادة، والذين هم في الحقيقة نموذج لشريحة تتبني المفاهيم القومية الذين يلغون الخلفيات الثقافية الحضارية والإنسانية لذات أنانية، ربما هم غداً سيبحثون عن مقدمات لتبرير هذه الذات المنحرفة فجأة عن الثقافة الوطنية الديمقراطية.
في الحقيقة وما ورائها، وجود الكرد كأحد القوميات الكبرى في المنطقة لم يعد مجال تعتيم أو نقاش أو حتى الحوار حوله، والآن أصبح كيانه السياسي والجغرافي في المكان، حيث سوريا والعراق وتركيا وأيران الحقيقة الأكبر التي تظهر إلى العلن بذاتها رغم التعتيم المرير والطويل المقيت عليه، كما كان في الماضي على ديموغرافيتهم، مثلها مثل القضية الفلسطينية بكل حيثياتها. فهل سأل هؤلاء عن اسباب الإنزياح الكردي إلى جعل سوريا وطناً شمولياً؟ وهل أقتنع أو إنه يستطيع أن يقنع الآخر العربي والكردي ومن يشاركهم الوطن من الأقليات الأخرى بالنزعة الفوقية التي يلفظها بعمق شهيق وهدير لزفير تصاعدي مطلق العنصرية؟ أم أن هذه التركيبة الثلاثية للمفاهيم القومية والتي تعكس في واقع الحال نزعة فكرية يؤمن بها ” كما ذكرنا سابقاً ” شريحة لا تبحث عن بنية الإصلاح في المجتمع الذي أفسده الثقافة الإلغائية وعلى مدى عهود، وآخرها ثقافة البعث.
الشعب السوري بكل طوائفه القومية والدينية، يواجهون ثقافة عدمية مرتكزة على ثلاثة دعائم وهمية للبنية الأساسية لثقافة هذا الشعب، وهي : التعصب القومي المتشبع بالإسلام الديني ووجهه في كتابنا هذا ” الشيخ القدير عرعور ” والنزعة القومية الفوقية المتهالك لهيمنة الكل على الجزء ويمثله هنا السيد الإعلامي ” فيصل القاسم ” والمفاهيم القومية بعنصرية ملبسة بالأفكار الديمقراطية الليبرالية والتبعية لوطن لا يرونها إلا ملك إيمانهم بمطلقه ويفرضها بتشنج في الذات اللاوعية بعد سماع جمهورية لا طغيان للعروبة عليه، ويخلفه أقواله من ردود فعل معاكس من المثقفين العرب والقوميات الأخرى ويمثل هؤلاء هنا الأديب المحترم ” رشاد أبو شاور “، ونخصهم بقولنا هذا، التيار المساند والداعم لحرية الشعوب ومنها الشعب الكردي والفلسطيني، لكن ما يربك الفكرة وطرحها وضع قضية الشعب الفلسطيني في أولوياته، متناسياً بأن القضية لا تختزل ولا تلغى عندما لا يدرج اسم العروبة مع الفلسطيني، فكما نعلم بأن فلسطين سميت ب ” دولة فلسطين ” وليست دولة فلسطين العربية، فهل كان ذلك إنكار لعروبة الشعب الفلسطيني أم تيمماً بدولة أسرائيل، أم ربما كان ورائها حركات كردية! عارضت عروبة فلسطين! فلماذا أصحابنا لا ينتمون إلى المفاهيم الشمولية في الإنتماء، الكرد ينتمون إلى ” كردستان ” وهم في سوريا الوطن، والعرب ينتمون في سوريا إلى القومية العربية أو الوطن العربي، أمتداداتهم هناك في الآفاق، وفي الحقيقة نزعة الكردي إلى كردستانه لا يقل بأي شكل من الأشكال عن نزعة العربي إلى وطن عربي. والمنطق الثقافي الواعي ينبه صاحبه ويحضه على تقبل غاية الآخرين، كما يريد الآخر أن يتقبل غايته، لا محيض في معتقدات البعض العربي والذي يمثلهم الأديب أبو شاور على التأكيد الدائم لقمة أولويات كل عربي أن تكون القضية الفلسطينية، ولماذا لا يكون هناك أولويات للشعب الكردي؟! آملاً أن يعيشيا معاً، حرين كريمين مع الآخرين في وطن آمن للجميع، لا أقصاء للآخر فيه.
مع كل التناقض مابين التأييد للشعب الكردي النابع من الخلفية الثقافية الإنسانية والرافض للمطروح في محافل المعارضة المتذبذة، ظهرت البنية الهشة من القناعات الآنية لمستقبل لا يزال ضبابياً في مفاهيمه، خاصة حول مستقبل فلسطينه، التي لم يدافع عنها السلطة السورية يوماً إلا تحت غايات ذاتية أنانية، وتذكيرهم بأن الإعتراض على عروبة العرب وهمٌ أدخلوا أنفسهم فيه، ونشكر قناعات البعض منهم ومآل تأييدهم لحقوق الشعوب ومنها الشعب الكردي، لكن تبقى سوية النقد والتحليل بعيد عن سوية المنطق المطلوب من أمثالهم كمثقفين يدعون فهماً للحضارة وتمسكاً بالإنسانية، لا أعتراض على النقد المنطقي لمفاهيم يتمسك بها الكرد لبناء مستقبلهم أو طرق بناء دولتهم، أو قناعاتهم شرط أن يكون التنظير مقارن بما يطلبه الفلسطيني أو العربي لفلسطينه.
لا قيمة لمعارضة يساندها ويدافع عنها مثقفون وسياسييون بعقلية راديكالية، معتمدين على مبادئ ومفاهيم متجلدة عرقياً ومتدينين يدمجون الدين بالقومية متجاوزين الأمة كمفهوم ديني. مناشدة هؤلاء للثوار الشباب العربي وبتحيز علني، بالدفاع عن بلادهم ب” الحديد والنار ” ليس ضد الطغاة والسلطات الفاشية، بل ضد الطوائف والملل الدينية والقومية غير العربية، تأكيد مباشر على تبني مبادئ حزب البعث العنصري، حتى ولو أظهروه كوجه من وجوه المعارضة لكنه تبدى كلي التشويه.
يفهم من هذا المنطق المعلن تجاه القوميات الأخرى، على أن الطغيان الذاتي الآتي من الماضي المليء بالمفاهيم القبلية، والثقافة التي بثت من قبل البعث في روح أجيال من الشعب السوري ، أخذت دورها وتتجلى بين حين وآخر حتى لدى أفضل المثقفين الليبراليين فكراً في الوطن، وهي نفس السوية الذهنية التي كانت سائدة في القرون الماضية حيث ” الأسياد ” و” الموالي ” وكأننا هنا أمام عودة لذهنية ” الأنا المطلقة”.
نكون في هذه الحالة أمام ثورة قادمة نابعة من رحم هذه الثورات، ليست ضد الطغاة بقدر ما ستكون ضد المثقفين والسياسيين والمتدينين المتشربين لثقافة الإلغاء دون تفكير، والذين لا ينظرون إلى المواطنة والوطن إلا من منطق السيادة والتبعية، وبالتأكيد الثورة القادمة ستكون ثورة خارج إطار الطوائف والملل، بل بين مفاهيم لا تختلف في سويتها عن سوية الذين آمنوا بالقدرية والجبرية في بدايات الخلافة الأموية. نحن في عصر لا يؤمن بالقدرية إلا المتزمتون.
استمرارية فرض سوريا “عربية ” بمطلقه لم تكن ولن تكون مخرجاً للوطن من المآسي، والذين خلقوها هكذا وحافظوا على كيانها العنصري وبالسوية التي نعيشها الآن هم المتجمدون العروبيون بالخطأ، فكراً ومنطقاً، وأول من يعادي هذا المنطق هم رواد الفكر العربي الحضاري والصادق مع الذات القومية، وهذه جلية، ولأفكار هؤلاء ثقل في الميزان السياسي والثقافي الآن، وحسب مبادئ الثورات الشبابية الجارية ونداءات الشارع الآنية والمستقبلية، تعتبر هذه العروبة المطروحة على الطاولة والمدافعة عنها بضحالة وهذيان فكري لا تتلائم والقادم من الأوطان المؤمولة بنائها، وللأسف فإنها تعبر عن خلفية تاريخية ثقافية ضحلة في العديد من ثناياه، حتى ولو كان المثقف على سوية الإعلامي القدير فيصل القاسم أو الأديب المتمكن رشاد أبو شاور، وحتى الشيخ الجليل عرعور، فهي لاتؤدي سوى إلى استمرارية السوية الثقافية التي لقنت من قبل البعث “العربي ” الإشتراكي الشوفيني في كل تفاصيله،وكأننا بهؤلاء يؤيدون تلك المفاهيم في منطقها الضحل علانية وربما مزايدة مع عدم قناعة نابعة من الأعماق التي تبتسم وبصمت.
هذا المفهوم المتدحرج بشكل موثوق نحو الإلغائية التي تبناها ودعمها مبدءاً وفكراً وبعقيدة جامدة، حزب البعث، والذي لا علاقة لها بالفكر الديمقراطي والحضاري ولا تُجانسْ المفاهيم الإنسانية التي تود الثورات الجارية على تثبيتها وإنمائها بنوعية لا إلغائية فيها، والتي نطق بها الشيخ عرعور! مع المفاهيم التي يود كل من السيد قاسم والسيد أبو شاور فرضها كل حسب طريقته، لا ينتمي بمجمله إلى مفاهيم الثورات الشبابية في الوطن، كما ولن يؤدي هذا الأسلوب في التعامل إلى الإنماء الديمقراطي وبناء وطناً يتسع للكل، فهي ليست مدارك مثقفين سيشاركون في بناء الدولة الإنسانية القادمة، بل تعكس النظرة الفوقية البعيدة عن العقلانية في المحاورة، ولم يكن متوقعاً من هكذا شريحة أن تنتشي من هذا الفهم الذي تربى عليه أجيال من البعثيين، وإلا فلا قدرة لنا على تؤيل آخر معاكس لهذا، لإدراكنا بأن الشريحة المثقفة العربية الليبرالية لهم المعرفة الكاملة لمدى فساد وضياع المجتمع الذي ينموا على أُسس هذه المفاهيم.
كنا نتوقع أن ينبثق مثل هذه الإعتراضات من مثقفي السلطة كمزيدات وطنية وتجارة بالأفكارالقومية العروبية كما هي دارجة في كل مناسبة، لكن ما حدث كان مؤسفاً حقاً، خاصة وأن تؤيلاتهم هذه لا علاقة لها بالعرفانية بل برؤية عينية على ما تربوا عليه في مجتمع ساد فيه ثقافة، الكل ناهضه، عرباً وكرداً، تلك الثقافة التي يتذوقها عمقاً مجموعة من المثقفين وينقدونها شكلاً، لهذا نلاحظ أستخداماتهم الشبه مجازية لألفاظ ومفاهيم طرحت على مدى عقود، وهم يلمحون إليها من الوجه الآخر، وبرؤية دعاة الصانع والمتصوف والمفكر في الآفاق التي يظنون بأنها من عالم الثورات الجديدة والوطنية الديمقراطية، إلا أنها تسقط في حدائق الخلق البعثي كالسادة الذين ظهروا على الساحة بمواهبهم القومية.
يقول لنا السادة الواردة ذكرهم، بأنهم عرفوا مدارك الديمقراطية والوطنية الحقيقية، ومن لا يهيم معهم في وديانها ويلهث خلفهم، لا يدرك نمط التوحيد في عالم المجردات، العالم الذي لا حركة للآخر فيه إلا بلونهم الخاص للديمقراطية والوطنية، وكأن نمطية التغيير القادم لا يليق بالواجب ولايليق بمثقفي النمط الواحد الأحد في الفهم والإعتقاد، وكأننا أمام منطق واحد أحد للإله والقومية الواحدة التي يؤله من خارج المجال الإنساني، إلى عالم اللا أين واللامكان الذي ربما هم بذاتهم حائرون في الإعتقاد به، لكنهم تربوا عليه، هكذا كان آبائهم وأجدادهم عليه يتحدثون.
القومية أي كانت، إذا صنفت، بالواحدة الأحد، وبلا منافس ومنازع ومناقش وبلا تؤيل للماضي وتحليل للحاضر وتوقعات للمستقبل، تعد إلغائية وملغية لمفاهيم من لا يناصرهم، مثل هذه المفاهيم عن القومية وفي هذا المرحلة الحالكة، تقع خارج الزمان، والمكان الذي يبحث فيه ثورات الشباب في الشرق عن أهداف نوعية مغايرة، يدحضون بثوراتهم السلمية هذه المفاهيم الجزئية المجترة للضياع، وذلك بطرح الكليات في التعامل والثورة في الساحات، حيث أنا الكل والأجزاء تتبع دون نقاش، يكاد يندثر في العدم، مع هذا يبقى السؤال المحير، لماذا معظم هؤلاء الكل لم يثبتوا رغم الطغيان، كيف أصبحوا هم الكل وليسوا الجزء، الجزء الساكن المعاش والمسير بإرادة الطغيان المسمى بالأنا الكل، فالكل بهذا المفهوم الخاطئ خروج عن منطق الديمقراطية الوطنية أو حتى الديمقراطية القومية المركزة على مفاهيم وثقافة الأعتراف بالجزء والكل كوحدة متكاملة، ومنها رفض منطق الإلغاء بكل سوياتها الدونية للآخر الغريب أو القريب.
الإنسان الحضاري، مع الوجود الكلي، لا يعدم ولا يطوي الآخر فكراً ووجوداً وثقافة، ليثبت ذاته، لكن هذا المنطق يعد للبعض إنتقالاً شاذاً من حالة مرتبكة وجودية، يحاول أن يثبت كيانه بكلية مخالفة، من خلالها ينتقل إلى حالة فيها الكثير من العدم للآخر، والتشتت والضياع الذهني والمعرفي للذات، فيخلق من ورائها عدم الإقتناع الضمني بما كان يحاور عليه منذ عقود من مسيرة عمره الفكري والمبدئي.
قناعات السيد فيصل والأديب أبو شاور والشيخ عرعور، هي في الحقيقة قناعات شريحة من المجتمع موجودة في جميع القوميات وبدون أستثناء. وجودهم حقيقي مستمد من الذات العرقية المؤمنة عمقاً بالعدمية للآخر، والمبشرة بكلام إذا قيس بالذات الديمقراطية التي يتباهون بها في كل آن وحين، تعد محور عدمي لمفاهيم وماهية إنسانية أرسيت عليها أمم بنائها، هم كأولئك الذين ينقبون عن تأويل لماهية الظل عند وجود الجسم والبحث عن سبب عدمه عند ألغاء المادة، حيث التشتت والضياع الفكري والصراع المشوه ليس مع الآخر الملغي بقدر ما هو صراع مع الذات المتناقضة نفسها، ومع المفاهيم المتلاطمة في أعماقهم المتذبذبة ما بين المزايدات على القومية أوالإيمان بالمنطق والحقيقة.
التجرد بالإيمان مع التضخيم للكل “العروبي ” أو حتى “الكردي إذا وجد ” كقومية فوقية أو مفهوماً عرقياً شوفينياً، يؤدي إلى البحث المشوه الذي قدمه السادة المنوهون، كما شاهدناه وقرأناه من على صفحات النت وهو تركيز على إستمرارية الثقافة التي يناضل الشباب في ثوراتهم لإلغائه وإسقاط الأنظمة المجسمة لها.
بعد تهجمهم على الكرد لطرحهم فكرة الوطن للكل، دون أن يبحثوا فيما وراء الطرح، بدأوا يسألون عن اسباب تقدم الكرد بمطاليبهم ” الوطنية ” تلك في العديد من المحافل وبشكل واضح في مؤتمر إستانبول الأخير، فإذا بهم ينجرفون إلى السؤال عن ماهية تكوين الكرد القومي في سوريا المقارن بالقومية الفوقية العربية، بالضبط كما تطرح عادة من قبل السلطة الحالية، إلى أن أرتقى السؤال بهم إلى أدران التناقض الفكري ديمقراطياً ووطنياً وحضارياً، بل وأرتقى السؤال بهم إلى مرتبة الفظاعة في التبجح والوجودية الإنفرادية في الذات الأنانية قومياً. وهم بهذا يشوهون العنصر العربي التي يلصقونها بجماليات القومية المشبعة بالكل، من خلال ذاتهم المترعة بالأنا الخائبة بسبب ثقافة التبجيل بدون سند.
كل ما يمكن أن يقال عن هذه الذهنية وهذا النوع من التفكير، بأنها سفسطة كلامية تنبعث من خلفية ثقافية تتيه أحياناً بين العدمية والإنكار، والإنسانية في التعامل على مبدأ بقاء الأنا. وفي الحقيقة القومية الكبرى وهنا العربية وفي سوريا بالذات وبهذه الإلغائية للآخر، يعد تجل للثقافة الديمقراطية الإنسانية، وهو نزوع ذاتي وغائب عن الصراع الحاضر، وكأن الإيمان بالقادم مرتبك لدى البعض، وقناعة فيه الكثير من الشك وبعض الصمت لدى آخرين. وهذه الشرائح تارة يلبسون المعارضة وأخرى يظهرون بلباس القومية العنصرية، وبسببهم تبرز غاية الصراع، وتتضاعف أهداف ثورات الشباب، ليشمل إسقاط البعض الذي يود أمتطاء الثورة بأسم المعارضة تشويهاً، خاصة وإن الإنسان السوري بكرده وعربه وجميع أقلياته وطوائفه، أصبحوا يشعرون بأنهم على يد هذه الشرائح سيرحلون من البؤس والقهر والضياع إلى آخر لا يختلف عنه، بل ربما أفظع منه مدعوم بمفاهيم لا تقبل النقاش والتحاور والتأؤيل لأي طرح، وهناك من يثبت هذا المنطق بكلام ذو تأويل إلَهي، إدعاءاً خاطئاً وفاسداً للوطن، الشامل للكل كوحدة متجانسة.
ربما سيسأل السادة المعنيين بهذا السجال، والذي كان ظهورهم وفي هذه المرحلة، شاذاً، لماذا هذا الكم من المثقفين الكرد أنتفضوا للرد؟ والحقيقة هو أنه من أصعب الحالات هو الوقوع في مركز الإتهام دون قناعة في ماهية التهمة خاصة بعد أن رافقت التهمة إستنتاج خاطئ، كان مبني على تحليل خاطئ، لقضية عرضت بشكل خاطئ، من قبل مجموعة تعتبر نفسها ليبرالية الفكر والمبدأ، لذلك فالدفاع بذاته أو تفنيد التهمة أصعب من رد التهمة ونفيها.
قلق الأديب القدير أبو شاور على القضية الفلسطينية ومستقبلها، والتي أنجرف بسببها إلى هذه المواقف الصعبة، يعد قلق نابع من خلفية دراسة سياسية خاطئة غير واقعية لماضي السلطة السورية وحاضرها، وتهديف غير صائب لمستقبل سوريا القادم، الجميع يدرك بأن السلطة السورية والبعث من أكثر الجماعات الذين تاجروا بالقضية الفلسطينية وسخروها لمصالحهم الذاتية، مجملها للحفاظ على السلطة، فمهما كانت نوعية التغييرات القادمة بعد سقوط السلطة أو تغيير النظام فإنها وبالتأكيد ستكون أكثر صراحة وصدقاً مع المجتمع في طرح القضايا العربية عامة والفلسطينية خاصة. كما وأن مهاجمة كل من الشيخ عرعور والإعلامي فيصل القاسم، للطرح النابع من أحد الأطراف المهمة في المعارضة السورية، الكردية بشكل خاص، تجلي على مفاهيم الثورة بشكل عام وأعتراض على ما يخطط لبناء سوريا القادمة كوطن يحتضن الكل والجزء بدستور واحد يخلى من الإلغاءات والتمييز في التعامل بين مواطنيها، سيكون هناك مستقبل مجيد عند بناء ” جمهورية الكل السورية “.
ايلاف