ثلاثي الحرب السورية… دولتان قوميتان وطغمة
ياسين الحاج صالح *
لم ينفذ النظام السوري شيئاً من خطة أنان، ولم يكن ينوي أن يفعل، ولن يفعل في أي يوم. لن يسحب الأسلحة الثقيلة من المدن والتجمعات السكنية، ولن يوقف العنف العشوائي ضد المدنيين، ولن يفرج عن معتقلي الثورة، ولن يسمح بمرور المساعدات الإنسانية للمناطق المنكوبة، ولا بدخول وسائل إعلام مستقلة أو مندوبي المنظمات الإنسانية الدولية، ولن يفكر أبداً بالسماح بالتظاهر السلمي، ولن يعترف بأي معارضين سياسيين جديرين بهذا الوصف أو يتحاور معهم. ليس للأمر علاقة بأن ثائرين التزموا أو لم يلتزموا بوقف إطلاق النار، ولا بأن المعارضة رضيت أو لم ترضَ بالحوار معه. للأمر صلة بشيء واحد: تكوين «النظام»، المركّب السياسي الأمني المالي، أو الأسرة الأسدية والأجهزة الأمنية و «البرجوازية الجديدة» المرتبطة بهما. هذا تكوين لا ينصلح ولا يتحاور ولا يتفاوض. فسلطانه قائم جوهرياً على العنف، وبنية مصالحه قائمة على الامتياز، ودوامه معتمد على الاستثناء والتمديد الدائم للموقت. وهو تالياً لا ينضبط بقاعدة تعمّه مع غيره أو بقانون يشركه مع آخرين. فإما يسود سيادة مطلقة على ما كان الحال طوال أكثر من أربعين عاماً، أو يبيد ويستأصل تماماً، على ما هو حال أسر مالكة كثيرة في التاريخ في مثل غروره ورجعيته.
هذا نظام حرب، قد تفتر أحياناً، وقد تكون حرب استنزاف أحياناً، لكنها حرب مستمرة بلا نهاية. ولقد سبق أن كلف نظام الحرب سورية عشرات ألوف الضحايا قبل جيل، وهو في سبيله إلى التفوق على نفسه في هذا السجل.
نظام الحرب هذا أوصل البلد اليوم إلى وضع غير مسبوق لم تعرفه حتى أيام الاستعمار الفرنسي. صحيح أنه جرى تقسيم سورية غير مرة حينها، لكن سورية كانت آنذاك كياناً حديثاً ضعيف التشكل، ولم تكن وحدتها معطى بديهياً على ما نفترض اليوم. كان التقسيم احتمالاً وارداً في ذلك الوقت، ولم يضطر الفرنسيون إلى ممارسة عنف خاص من أجل فرضه. الوحدة السورية، بالمقابل، إنجاز مأثور للنخب الوطنية التي قاومت المستعمر وساومته، واستفادت مما عرض من تحولات دولية، وأخفقت في أشياء أخرى معلومة، منها مصير اسكندرون.
الأخطار المصيرية على الكيان الوطني نتاج حرب ضد أكثرية السكان مستمرة منذ 15 شهراً، مقترنة بكثير من الكراهية، ومعهما دمار واسع لحق بالبنية الوطنية للمجتمع السوري ما كان لوقوع سورية تحت احتلال أجنبي أن يتسبب بمثله.
ولأول مرة في تاريخها بعد الاستقلال، تقف سورية اليوم على مسافة قريبة من انكسار قد لا يُرأب. وكلما تأخر فتح باب السياسة كانت الأخطار أكبر، أو غير قابلة للإصلاح.
وغير تكوين النظام المضاد للسياسة، فإنه يلقى مؤازرة مدهشة من «سجن الشعوب» القديم الجديد، روسيا. عبر حمايتها للنظام على المستوى الدولي، وأكثر عبر الدعم العسكري المستمر له، لروسيا دور لا يغتفر في إغلاق باب السياسة في سورية، ودفع البلد إلى التحطم. وهي منذ بداية الثورة السورية تتصرف بوقاحة عدوانية مثل دولة قومية من القرن التاسع عشر، فلا تكتفي بإنكار الثورة، بل النظام السوري هو من يبدو الضحية في عين سياستها وسياسييها. وكلامها على طرفين في سورية، مع اعتبار الشعب الثائر هو الطرف المعتدي، يشبه تماماً كلام الولايات المتحدة حين يتعلق الأمر بإسرائيل. وهو في مرتبته في اللاأخلاقية أيضاً. والعجيب أن هذا البلد الذي تلكأ دوماً في توريدات الأسلحة لسورية حين كان يحتمل أن يكون للأمر علاقة بالصراع مع إسرائيل، يُظهر اليوم تأهباً لافتاً لإمداد النظام الأسدي بطلباته العسكرية التي يعلم الجميع، عدا مترنيخ الروسي، ضد أي «عدو» ستستخدم.
روسيا، في المحصلة، قوى حرب في سورية، وليست قوة سلام أو تفاوض أو حوار.
وإلى روسيا، يستند النظام إلى دعم إيراني صلب، مالي وتقني وعسكري واستخباري. إيران أيضاً دولة قومية فتية، تفكر في السياسة بمنطق «الريال بوليتيك» الذي يعلي من المصلحة القومية للدولة على حساب أي شيء آخر. الدولة القومية نزّاعة إلى التشدد حتى في الداخل، لكنها لاإنسانية دوماً في الخارج. معلوم أنها اقترنت في الغرب بالاستعمار، وهذا لا تحفزه الرأسمالية وحدها، وإنما كذلك نزعات التوسع والفتح والسيطرة القومية.
واستناد الوطنية الإيرانية المعاصرة إلى الإسلام الشيعي، يسبغ على علاقتها بسورية والعالم العربي، وبالنظام في سورية، طابعاً خاصاً وغير عقلاني، تترجّع فيه أصداء التاريخ وأشباحه.
النظام السوري في نظر إيران رصيد استراتيجي بالغ الأهمية، يضاف إلى عراق ما بعد صدام وحزب الله اللبناني، في صراعها على النفوذ في الإقليم. هذه أدوات لكسب المنافسة الإقليمية والدولية لا قيمة لها بحد ذاتها، ويمكن التضحية بها عند اللزوم أو الاضطرار. وإلى حين تحوز إيران سلاحاً نووياً، وتفرض هيمنتها بأدوات أخرى، فإنها لن تفرط بهذه الأوراق المهمة.
إيران أيضاً قوة حرب في سورية.
وعلى هذا النحو تلتقي ثلاث قوى على إغلاق احتمالات السياسة وجعل سورية ميداناً للحرب. النظام الذي لطالما وصف سوريون كثيرون بلدهم في ظله بأنه «سجن كبير»؛ و «سجن الشعوب» الروسي الذي يقامر بمصير سورية في لعبة أمم، إن لم يكسب منها شيئاً فلا يحتمل أن يخسر شيئاً مهماً؛ ثم إيران، وهي قوة إقليمية طموحة، لن تدخر شيئاً كي ترتقي مراتب القوة والنفوذ في العالم.
والقوى الثلاث فظة، خشنة، تؤمن بمنافع سياسة القوة، وليس لديها ما تعلّمه لغيرها. طوال نحو خمسين عاماً من علاقة جيدة مع الاتحاد السوفياتي، ثم مع روسيا، لم تجن سورية شيئاً ذا قيمة على مستوى هياكلها السياسية والحقوقية، أو على مستوى اقتصادها ومؤسساتها الإنتاجية، أو على مستوى تعليمها وجامعاتها. والسلاح الذي يفترض أنه يحميها لم يحمها من العدو المهدد، لكنه كان فعالاً في قهر السوريين واللبنانيين والفلسطينيين، وأكبر معارك هذا السلاح هي هذه التي يخوضها منذ عام وربع العام ضد السوريين. والأمر نفسه بخصوص إيران التي تشارك روسيا في أن علاقتها بسورية تنحصر بنخبة السلطة، ولا أثر لها على المجتمع. ولم يكن لدى النظام السوري ما يعلمه للبنانيين طوال نحو ثلاثين عاماً من انتدابه على بلدهم، غير إفساد الطبقة السياسية اللبنانية، والمساهمة في تعفن أوضاع لبنان. أما الإجابة عن سؤال عمّا علمه النظام للسوريين، فيعني فتح سيرة المأساة السورية من أولها. لن تختتم هذه السيرة من دون فتح باب السياسة وإغلاق باب الحرب. هذا وحده يكفي لسقوط نظام الحرب المستمرة. السجان يموت إذا ظل باب السجن مفتوحاً.
* كاتب سوري
الحياة