ثلج!
ابراهيم حاج عبدي
«تلج/ تلج/ عم بتشتي الدنيي تلج»… للمرة الأولى جاءت كلمات هذه الأغنية لفيروز على عكس ما توحي به معانيها. فهذه الأغنية التي دأبت الفضائيات على عرضها كلما همهم الثلج، أخذت منحى آخر وهي ترثي، هذه المرة، حال اللاجئين السوريين الذين ضاقت بهم الأرض على رحابتها، ولفظتهم الخيم الخفيفة، المدموغة بشعار الأمم المتحدة، إلى صقيع العراء فريسة سهلة لهذا الزائر الأبيض الذي نسي أن يكون أبيض؛ رؤوفاً كاسمه البريء.
مشاهد بيض ملأت الشاشات وهي تظهر أطفالاً يراقبون سقوط الثلج كمن يراقب وحشاً صامتاً يتأهب للانقضاض على أعمارهم الغضة؛ الضائعة في ذلك الجرح الأبيض، ورجالاً مسنين يتلحفون أسمالاً بالية وأطرافهم ترتجف من البرد وهم يستغيثون، أمام الكاميرات، ضمائر العالم، وخيماً بيضاً، بدورها، ويا للمفارقة، تتقاذفها الرياح على نحو عشوائي، فيما جداول المياه المحيطة تنسف أي احتمال بقدوم دفء منتظر، مأمول، في حين تنذر الغيوم السود في خلفية المشهد بالمزيد…
الثلج، الذي يغمر الطبيعة بالبياض ويمنحها سحراً خاصاً، مرتبط بالمرح واللهو واللعب، وكثيراً ما وظِّف في الفنون بوصفه رمزاً للصفاء والتفاؤل، غير أن ما سمعناه وشاهدناه على الشاشات أربك هذا الانطباع، وبدا اللون الأبيض كئيباً، مؤلماً، وهو يسطر فصولاً جديدة في فصول التراجيديا السورية التي تواطأت فيها برودة الطبيعة مع برودة المشاعر الإنسانية وهي تقرأ وجوه الأطفال البريئة وكأنها شخوص في معرض رتب، على عجل، لإرضاء ذائقة السياح والشامتين…
الكاميرات كانت تنتقل من مخيم الزعتري في شمال الأردن إلى لبنان إلى مخيمات اللجوء في تركيا… وكل فضائية تروي المأساة بلسانها ومن زاويتها، غير أن ما جمع بينها هو ذلك الرجاء المر الذي يختبئ خلف كل حرف يتفوه به اللاجئ، وتلك المفردات المتلعثمة التي تستنجد بـ «يد إلهية» خفية تنقذ العالقين في هذا الغمر الأبيض الشاسع.
الثلج ليس مذنباً، فهو سيبقى رمزاً للبهجة والنقاء، ولا الفضائيات كذلك التي تلاحق كل حدث جديد. محنة اللاجئين تتجاوز هذا الاختزال لترتبط بلعبة سياسية معقدة لا مجال لعرضها في هذه الزاوية. لكنّ ما يحزّ في النفس هو ذلك التناقض بين تلك الدعوات والشعارات النبيلة عن حقوق الإنسان والمدنية والتحضر وبين مشاهد قاسية عن لاجئين تقطعت بهم السبل، ودفعوا فواتير باهظة ليفضحوا، من دون قصد، رياء تلك الشعارات والمقولات التي تتكرر على كل منبر.
همهمة الثلج الخافتة، لم تكن كذلك، هذه المرة، بل بدت كصرخة مدوية في صحراء التيه، عرّت زيف الكلمات المعسولة، والفضائيات التي نقلت جوانب من هذه المأساة لم تكن تهدف إلى التباهي بمقدار ما سعت إلى التعاطف مع خيبة الطفولة البيضاء وهي تصحح في قاموسها الصغير معاني مفردة ترمز إلى كل ما هو جميل، لتكون عنواناً لجحيم بارد؛ قاتم… بل وقاتل!
الحياة