ثمانون عاماً على اغتيال فيديريكو غارسيا لوركا… أقاصيص عن حياتِه وأضواء على مَصرَعِه وَمَأسَاته/ محمّد محمّد الخطّابي
فى العشرين من شهر تشرين الأوّل/اكتوبر الماضي 2016 نظم «البيت المضيء» (الذي يُعنى بإحياء التظاهرات الثقافيّة والفنيّة في العاصمة الإسبانية مدريد) احتفالاً بمناسبة مرور ثمانين عاماً على اغتيال الشاعر الإسباني الأندلسي فيديريكو غارسيا لوركا الذي ما فتئ في تألّقٍ دائم، وتوهُّج وإبهار.
كلّ الطرق تؤدّي إلى لوركا
تحت شعار «كلّ الطرق تؤدّي إلى لوركا» عرفت العاصمة الإسبانية مدريد (في التاريخ أعلاه) تظاهرة ثقافية كبرى، تكريماً لهذا الشاعر استحضاراً واستذكاراً للذكرى الثمانين على مصرعه على يد القوات الموالية للجنرال فرانسيسكو فرانكو في مدينته غرناطة في 19 آب/اغسطس 1936.
من جهته أشار المشرف على هذا الملتقى الإسباني مانويل غوميس برافو بهذه المناسبة: «إنّ لوركا ما زال شاعراً ملتزماً حيّاً في قلوبنا وأرواحنا، ووجداننا». وأضاف: «انّني على يقين أنه لو كان بيننا اليوم لشيّد بيوتاً وأكواخاً لاستقبال اللاّجئين الذين يتوافدون على أوروبّا في المدّة الأخيرة». وقد شاركتْ ضمن فعاليات هذه التظاهرة لاَوْرا غارسيا لوركا ابنة أخت الشّاعر فديريكو غارسيا لوركا، ورئيسة المؤسّسة الثقافية التي تحمل اسمَه، فضلاً عن ثلّة من الشّعراء والفنانين والكتّاب والنقاد، وتخلل هذا الاحتفال التكريمي، رقصات ومعزوفات موسيقية من الجاز والفلامنكو، وهي من أنواع الموسيقى التي كان لوركا مُحبّاً لها، ومُعجباً بها. وتخللت هذه الاحتفاليات قراءات شعرية من قصائده، خاصة من ديوانه الذي يحمل عنواناً عربياً وهو «ديوان تماتريت» (كذا)، ومن ديوانه «شاعر في نيويورك» اللذين كانا من أحب دواوينه إليه وأقربهما من قلبه. كما كانت هناك عروض شعرية وموسيقية حول بعض مظاهر التراث العربي والأمازيغي في الأندلس، وبشكل خاص عن «مدينة الزّهراء»، و»قصر الحمراء»، و»جنّة العريف» وسواها من المعالم المعمارية والعمرانية في الأندلس. وقد شاركت بشكلٍ متوازٍ في هذا الملتقى «دائرة الفنون الجميلة» التابعة لوزارة الثقافة الإسبانية بتقديم عرض مسرحي من تأليف غارسيا لوركا وهي مسرحيته الشّهيرة «منزل برناردا ألبا».
كما صدر بهذه المناسبة كتاب صوتي (قرص مُدمج) حول الثمانين حولاً التي مرّت على اغتيال لوركا، تحت عنوان: «هل الفلامنكو هو لوركا.. أم لوركا هو الفلامنكو؟» بمشاركة العديد من الكتّاب والنقّاد والموسيقيّين الإسبان الكبار، حيث تضمن الكتاب ـ الدّيسك العديد من المقالات حول حياة لوركا وأعماله، فضلاً عن مجموعة من الصور لأهمّ المحطات في حياته داخل إسبانيا وخارجها، وقد طُرح الكتاب للبيع مع جريدة «الباييس» الإسبانية الواسعة الانتشار في السادس من الشّهر الجاري نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 .
أضواء على اغتياله
كثيراً ما تساءل الباحثون عن حقيقة وظروف وملابسات اغتيال هذا الشاعر الذي كان يناصر الجمهوريين عند اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية التي استمرّت من 1936 إلى 1939، وكان الشاعر الإسباني رفائيل ألبرتي قد كشف قبيل رحيله النقابَ عن تفاصيل مصرع لوركا، وكيف أنه واجه الموت بشجاعة وصلابة، يقول في هذا الخصوص: «إن طبيباً إسبانياً يُدعى فرانسيسكو فيغا ديّاث كان قد حكى قصّة بهذا الشأن ردّدها له سائق التاكسي الذي قاد لوركا، إلى جانب معتقل،آخر وثلاثة من العساكر الذين ينتمون إلى الحرس المدني، وظلّت الطريقة التي قتل بها لوركا حتى الآن لغزاً محيّراً، حيث أعطيت تفسيرات مختلفة حول هذا الأمر.
الأحداث وقعت في جنح الليل، وقد تعرّف سائق التاكسي على واحدٍ من المقبوضيْن عليهما، وكان هو الشاعر الغرناطي بواسطة الكشّافات التي أوقدها الحرّاس للقيام بعملية الاغتيال، وكان غارسيا لوركا قد سافر من مدريد إلى مسقط رأسه غرناطة إذ – حسب الشاعر ألبرتي – كان يعتقد أنه في أرضه سيكون في مأمنٍ من الخطر. وأضاف: «إن لوركا كان يغشاه خوفُ الأطفال، وكان يعتقد أنه في غرناطة لن يحدث له شيء، فركب القطار إليها إلّا أن الموت فاجأه هناك، فكلٌّ منّا يحمل موته معه». لقد سمع سائق التاكسي الشاعر لوركا يقول لقتلته: ماذا فعلتُ حتى تعاملونني هكذا؟ ثم ألقى الحراس بعد ذلك بلوركا والشخص الذي كان معه – كان مسنّا وأعرج ـ داخل حفرة منخفضة، فعمل الشاعر على مساعدة زميله على الوقوف ممّا زاد في حنق الحرّاس، حيث ضربه أحدهم بسلاحه وشجّ به رأسه، ثم بدأ القتلة يشتمون الشاعر، ويرمونه بأحطّ النعوت، وطفقوا في إطلاق النار عليه. وأكد السائق أن اثنين من مصارعي الثيران وعشرة من الأشخاص الآخرين قد قتلوا في تلك الليلة نفسها.
وعن الموضوع نفسه كان قد نُشر كتاب تحت عنوان «لغز الموت»، للباحثة مارتا أوسُوريُو، وقد صدر هذا الكتاب عن دار النشر (كُومَارِيس) التي سبق لها أن أصدرت من قبل كتاب «الخوف والنسيان والخيال» (وقائع مباحث الكاتب الأمريكي أغوستين بينون حول غارسيا لوركا)، ويضمّ هذا الكتاب الجديد العديد من المراسلات التي كانت بين هذا الباحث والشاعر لوركا الذي كان من أكبر المُعجبين به وبأعماله، ويعتبر هذا الكتاب امتدادا للكتاب السّابق الذي يعالج الموضوع ذاته، وفي الوقت الذي يلقي فيه هذا المؤلَّف المزيد من الأضواء الكاشفة حول هذا الاغتيال، فإنه ينشر ظلالاً، وألغازاً وشكوكاً حوله، ومن أولى الشكوك الرّئيسية التي تحوم حول هذا الموضوع يتمثّل في التساؤل التالي: هل تمّ نقل رفات لوركا من المكان الذي تم دفنه فيه، حيث تمّت عملية الاغتيال؟ كما أشار إلى ذلك شاهدو عيان الذين سبق لهم أن حدّدوا مكانَ إطلاق الرّصاص على لوركا. على الرّغم من هذا الاغتيال، فإنّ الشعراء والكتّاب والنقاد والدارسين والباحثين والمؤرّخين والقرّاء، إسباناً كانوا أم غير إسبان، كلهم يؤكّدون أن الشاعر لوركا لم يمت وهو ما زال حيّاً، نابضاً، مشعّاً، ومتالّقاً بيننا، بل إنه في منظورهم، سيعيش أبداً في قلوبهم، ومن بين هؤلاء الكتّاب والكاتبات، صاحبة الكتاب الأوّل الآنف الذكر التي أثبتت فيه شهادة أغوستين بينون نفسه في هذا السياق منذ عام 1955، حيث تؤكد الكاتبة أن هذا الباحث سبق عصرَه، وأخبرنا بما نراه ونسمعه حول هذا الموضوع اليوم بعد مرور 80 عاماً، حيث ما زلنا نردّد التساؤلات نفسها ، ونفجّر الألغاز نفسها حول هذا الحادث المؤسف. وتتساءل متحسّرة، «لماذا لم يقم المهتمون، ولا الباحثون بشئ ذي بال في هذا الاتجاه، فلا أحد يعرف شيئاً عن هذا الموضوع حتى اليوم». وتطالب الكاتبة الباحثين بالقيام بإجراء بحوث علمية دقيقة بناءً على المعلومات التي جمعها بينون في كتابه، وأنه ليس الشاعر لوركا وحده جدير بهذا الاهتمام، بل جميع هؤلاء الأبرياء الذين لحق بهم حيف كبير، وظلم عاتٍ هم جديرون كذلك بأن يكون لهم مكان في ذاكرتنا وتاريخنا، وهم ليسوا مواطنين إسبانا وحسب، بل كان بينهم أجانب كذلك، وتسرد في هذا القبيل قصة فتاة ألمانية يهودية كانت قد فرّت من بطش النازيين في بلدها ألمانيا، ولكنها لقيت حتفها إلى جانب لوركا حيث اغتيلت معه في المكان نفسه لأنها كانت صديقة مهندس إشتراكي.
وهناك كتاب آخر حول هذا الموضوع بالذات للصحفية الإسبانية إيسابيل ريفيرتي تحت عنوان «حقيبة بينون» حيث أماطت اللثام هي الأخرى عن غير قليل من الحقائق المرّة، والوقائع المذهلة التي لها صلة بحادث اغتيال لوركا، وتعتبر ريفيرتي كتاب بينون والدراسة المستفيضة التي أنجزتها عنه الكاتبة مارتا أوسوريو عملين جديرين بكل إعجاب، كما تعتبرهما وسيلتين أساسيتين، للوصول إلى الحقيقة التي ينشدها الجميع.
وصل صاحب الكتاب (برشلوني يحمل الجنسية الأمريكية) إلى مدينة غرناطة عام 1955 مع صديق آخر أمريكي وهو وليام تايلور وهو يحمل نسخة من الطبعة الأولى من كتاب لوركا الشّهير «أغاني الغجر» الذي كان قد ترجم إلى اللغة الإنكليزية، فوجدَا غرناطة وكأنها مدينة محظورة، غارقة في الخوف والهلع، كان ممنوعاً فيها حتى ذكر إسم لوركا على الألسن. وتشير مارتا أوسوريو في هذا الصدد: «كانت غرناطة في ذلك الأوان مدينة حزينة لا تبعث على الحبور والبهجة». فترك المدينة على حين غرّة وطار إلى نيويورك وبيده حقيبة ملأى بالعديد من الوثائق والمستندات حول قضية اغتيال لوركا، وهذه الحقيبة هي التي ستقع فيما بعد في يد مارتا أوسوريو.
في ذكرى مصرع لوركا صدح صوت المغنية الإسبانية سوليا مورينتي بالقرب من مسقط رأس الشاعر في غرناطة، وفى المكان نفسه الذي تمّت فيه عملية الاغتيال قائلةً: «لابدّ لنا أن نذهب إلى حيث يعشش الصّمت الرّهيب، واسترجاع أصوات هؤلاء الذين حاق بهم الظلم الآثم، واغتيلوا ظلماً وعدواناً من طرف الفرنكاويين» وانطلاقاً من هذا المعنى يُفهم الفحوى العميق لإقامة تكريم للشاعر لوركا في مدريد وغرناطة وفي موضع فوينتي باكيرو (مسقط رأس الشاعر).
مراسلاته وأقاصيص عن حياته
تشير الكاتبة الإسبانية «إيسابيل ريفيرتي» أنّه بعد العثور على بعض التركات والصناديق الخاصة العائدة للوركا، التي سلطت الأضواء على الجوانب الحالكة في مصرع لوركا وفى إبداعاته خاصة في المرحلة الأخيرة من حياته، حيث ظهر ذلك في قصائده الشعرية ذات الإيقاعات الموسيقية الخاصة التي يطلق عليها في اللغة الإسبانية «السّوناتات» حيث شكّل ذلك في حينه رجّةً عنيفة في الأوساط الثقافية والأدبية في إسبانيا وخارجها.
توالت الكتابات مؤخراً عن هذا الموضوع في مختلف الأوساط الثقافية الإسبانية، وسال مداد غزير بشأنه وما يزال حول تلك المقطوعات الشعرية المنسوبة إليه التي تقوم على أوزان موسيقية إيقاعية خاصة، والتي فتحت شرخاً عميقاً في سيرة هذا الشاعر المشهود بمدى إسهاماته الوافرة في إثراء الحياة الثقافية والأدبية الإسبانية بالعديد من الأعمال التي حقّقت نجاحات منقطعة النظير في مختلف الأغراض الإبداعية. والذي يهمّنا من هذه التركات والمخطوطات التي خلفها هذا الشاعر سواء في الصندوق الخاص الذي عثر فيه على تلك المقطوعات الشعرية «الحالكة» أو سواها من الأعمال الأخرى «المضيئة» منها رسائله البليغة والمؤثّرة إلى والده من مدريد، أو كتاباته ومراسلاته الموجّهة لعائلته من كلٍّ من نيويورك وكوبا. فماذا جاء يا ترى في هذه المراسلات المثيرة التي كتبها لوركا في الفترة المتراوحة بين 1916 و1930..؟
ظهرت هذه الرسائل في منزل المحامي «فسنتي لوبيث غارسيا» الذي كان متزوجاً من إحدى قريبات الشاعر لوركا وهي إبنة عمّه «كارمن غارسيا لوركا»، وهي تتألف من 78 رسالة و5 بطاقات بريدية وجّهت من طرف الشاعر إلى أبويْه انطلاقاً من 1916 إلى بداية الثلاثينيات. هذه الرسائل تلقي الضوء بشكل جليّ على ظروف ولحظات مهمّة جداً من حياة الشاعر، إذ تتعلق بفترة المراهقة والشباب عنده . ويشير الناقد الاسباني «ميغيل غارسيا بوسادا» أن مراسلات غارسيا لوركا تعدّ من أغنى وأعمق المراسلات في الأدب الاسباني الحديث، إذ يحرّكه دوماً فيها واعز البحث عن الحقيقة بواسطة التعبير الأدبي. هذه الرسائل تسمو فوق بؤس الحياة اليومية لتحلق في الفضاء اللاّنهائي المفتوح للخلق والإبداع، وهذا ما يفسّر وجود العديد من الأشعار، والرّسومات في بعضها، فضلاً عن إشارات الشاعر الدائمة إلى مغامراته الإبداعية، أن المتحدّث دائماً هو الشاعر، هذا الذي جعل من الشّعر مادة أساسية لحياته، لذا فإنّه عندما يتوجّه بالكتابة إلى أقرب الناس إليه أو إلى الذين يحبّونه، فإنّ كتاباته لا تخلو من الإشارة إلى الشعر، ومعاناته.
في هذه الرسائل نتأمّل لوركا مراهقاً وهو يلامس المأساة الإنسانية للوجود، والذي ينشر، ويشعر بالزّهو والفخار من مقالاته الأولى التي يدافع فيها عن توجّهاته الأدبية إزاء الإختيارات التي كان يريدها له والده كان لوركا يكافح ويصارع في مدريد من أجل الوصول أو الحصول أو إمتطاء مركبة «الشاعر الخالص النقيّ» والذي كان يفعل كلّ ما في وسعه من أجل إيصال شعره ومسرحه إلى الجمهور. تتضمّن بعض هذه الرسائل إنطباعاتٍ، وأوصافاً لِمَا كانت تقع عليه عينا الشّاعر خلال سفرياته، وتنقّلاته في مختلف المناطق والجهات الإسبانية، وبواسطتها تمّت ولادة الشاعر بشكلٍ فعلي .
يا أبتي لقد خُلقتُ شَاعِراً وليس بإمكانك تغييري الآن ..
يقول لوركا في إحدى هذه الرسائل الموجّهة لوالده عام 1920: «والدي العزيز، لقد وصلتني رسالة منك ذات لهجة رصينة وجادّة، وبنفس اللهجة أجيبك الآن كذلك، أن بي شوقاً كبيراً إليكم، أنا أكثر منكم، لأنكم هناك مجتمعون، وأنا هنا بمفردي، ولكن عندما تفرض الظروف نفسَها على المرء فلا مردّ لها، إنني لن أتحمّل مشقّة هذا الذهاب والإياب لأنّ ذلك يضرّ بي كثيراً وينبغي لي أن أختار موقفا قويّاً للعمل، فهذه اللحظات مهمّة جدّاً بالنسبة لي، إنني أعرف جيّداً فيمَ تفكر (مع الأسف) إلاّ أنني أقول لك، وأعدك بكلّ وقار- وأنا الذي أحبّك كثيراً – أنه عندما ينطلق رجل في طريقه فلا الذئاب،ولا الكلاب بمقدورها أن تثنيه أو تحيده عنه، ولحُسن الحظ أن لي سهماً يشبه سهم «دون كيشوت»، إنني في طريقي يا والدي، وأرجو أن لا تجعلني أرجع بنظري إلى الوراء، إنني أعرف أنكم تحبّونني كثيراً، وأنتم لا تريدون لي سوى نفس العملة إذ أنا أحبّكم كذلك أكثر، أعلم أنكم تتمنّون أن أكون إلى جانبكم إلاّ أن ذلك الأمر تفرضه الظروف، ماذا سأفعل أنا الآن في غرناطة ؟ أن أستمع إلى الخزعبلات،والترّهات،والأحقاد، والدناءات (هذا بطبيعة الحال لا يحدث سوى للرّجال الذين يتوفّرون على موهبة)، وهذا أمر لا يهمّني في شيء، لأنني أعلى من هذا كله، إلاّ أنه في آخر المطاف شيء مزعج، مزعج حقاً، الحمقى لا تناقشهم في شيء، في مدريد هنا أناس محترمون، وأنا أخرج للتنزّه وسوف أعلمكم بالخبر الكبير عندما أخرج على الناس بأشياء جديدة، وهكذا حتى يصبح لي إسم أدبي كبير، النجاح السّريع في كل شيء على آخر الخط قد يكون مُضرّاً بالنسبة للفنّان، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فأنا بصدد إعداد بعض كتبي، فأنا أمشي على أرجلٍ من رصاص حتى أمخض كتاباً رائعاً، هنا أكتب، وأعمل وأقرأ، وأدرس، وهنا جوّ أدبي ممتاز، إنني أكاد لا أبرح المنزل إلاّ لماماً، والأصدقاء، وهم كثيرون، يأتون لزيارتي، إنني لا أغادر المنزلَ سوى للذهاب إلى «غريغوريو مارتين سيرا» أو قسم تحرير جريدة «إسبانيا» مع جماعة من المثقفين المميّزين الشبّان، إلاّ أن أهمّ شيء يمنعني من السّفر ليس كتبي (و أن كان عنصراً ينبغي أن يُؤخذ بعين الإعتبار) بل لأنني أوجد في منزل للطلبة، وهو ليس فندقاً، والإلتحاق بهذه الإقامة ليس أمراً هيّناً، بل السّبب يعود إلى مميّزاتي وخصالي الشخصية وصداقاتي، إذ أمكنني الإلتحاق بها سريعاً، وظفرت بالمكان قبل عشرة كانوا ينتظرون قبلي، لأنني وصلتُ بيدين نقيتين، إنه شيء صعب أن أقول لهم في وسط العام الدراسي أنني سأغادر، لهذا السّبب أرجو أكثر من أيّ شيء آخر أن تتركني هنا، إنني يا والدي العزيز رجل مستقيم وَجِدّي، هل أزعجتك يوماً ؟ ألم أكن مطيعاً لك باستمرار؟ إنّني أتصرّف هنا كما ينبغي لي التصرّف، أحسن ممّا كنت أتصرّف في منزلي، ذلك إنني هنا يجب أن أتبّع نظاماً جدياً، لقد سبّبت لي رسالتك الأخيرة إنزعاجاً وقلقاً كبيرين، أشعر بشوق كبير لرؤيتكم، تقول لي إذا شئت أن أعود لفعلت ذلك، إلاّ أنني أؤكّد لك أنك سوف تندم من ناحيتي، إنني أطيعك لأنّ ذلك واجبي، إلاّ أنك تكون بذلك قد سدّدت لي ضربة قاضية، لأنك عندئذٍ سوف تملأني بالحزن، والكدر، والجزع، إنك سوف تسلبني الحماسة التي تغمرني الآن.
أرجوك والدي من سويداء الفؤاد أن تتركني هنا حتى نهاية العام الدراسي، وعندئذٍ سوف أعود إليكم صحبة كتبي منشورة، وبضميرٍ مرتاح أكون قد كسّرتُ سيوفاً من جرّاء صراعي ضدّ المارقين دفاعاً وحمايةً وصوناً للفنّ الخالص، الفنّ الحقيقي، إنه ليس بمقدوركم تغييري الآن فقد خُلقت شاعراً، وفناناً مثل الذي يُولد أعرج، أو مثل الذي يُخلق أعمى، أو مثل الذي يُخلق وسيماً، اتركوا جناحيّ في مكانهما، وأنا أضمن لكم أنني سأطير جيّداً هكذا، هذه هي الحقيقة يا والدي فلا داعي لإلحاحك على عودتي، لأن ذلك يملأني بالمرارة والمضض . لقد أعطيتك تبريراتي، أليس كذلك، ولئن كنت ثقيلاً فقولوا لي ذلك، فأنا أعرف عندئذٍ الإجابة كرجل، أنه إذا كان للرّجل ذكاء وفطنة فلا يصعب عليه كسب النقود، إنني أفكر هكذا، وأعتقد أن الحقّ معي، أن الحياة والعالم ينبغي أن يُنظر إليهما بعيونٍ صافيةٍ ملأى بالتفاؤل، وأنا يا والدي متفائل وأشعر بسعادة غامرة.
أرجو أن تجيبني كما أجبتك أنا، ولآخر مرة أتوسّل إليك من قلبي الخالص أن تقرأ جيّداً هذه الرسالة، وأن تراجع معانيها جيّداً، فكّر كذلك أنني لست مجرد «شيء» أو «بضاعة» هي ملكٌ لك وهي عزيزة عليك . فكّر أن لي حياة خاصّة بي، إنه ينبغي لنا أن نكون جسورين جريئين كما ينبغي لنا أن لا نرضى بالوسط أو القليل فهذا شيء ممقوت، لا تسأل عن مثل هذه الأمور أصدقاءك المحامين والأطباء والبياطرة هؤلاء الرجال القليلو الهمّة الثقلاء، بل إسأل والدتي والأطفال، أظنّ أنه معي الحق. وأنت تعلم أنني أحبّك من كلّ قلبي. إبنك فيديريكو» (*).
رسالة لوركا إلى والده من ترجمة صاحب المقال عن نصّها الأصلي في اللغة الإسبانية.
القدس العربي