صفحات الثقافة

ثمانية عشر شهراً


    يوسف رخّا

مرةً أخرى أنوي الكتابة قبل الحدث فيأتي الحدث قبل الكتابة. لقد ابتعدتُ عنوةً عن مواقع الكرامة والإثم، عن الاعتصام والمسيرة، وعن أماكن التظاهر، حيث القمع الرسمي وأدواته غير الرسمية، سواء مِن المشتغلين في إمرة الضباط لقاء أجر أم المتطوعين تعلقاً بفكرة عن الوطن (كأكثر الأفكار العربية المعاصرة بما في ذلك “الإسلامي” منها) قادرة على إلغاء المواطن. ابتعدتُ عنوةً عن دم القتيل الذي يُسمّى شهيداً، وعن الأسفلت الذي يصبغه هذا الدم.

بنزق تنكّرتُ لبهجتي الأولى ونحّيتُ الأحداث لأبقيها حيث يجب أن تكون: في خلفية الغرفة التي نسمّيها حياتنا. كففتُ عن انتظار الأفضل بنفاد صبر ورغبة حارقة في أن أتغير – أنا – أو أفهم. على الأقل أن أفهم.

لو كان العالم حقاً تغيّر، كما اقتنعنا أو أقنعنا تطابق خيالنا لحظياً، وفجأةً، مع وقائع لم نصدّق من قبل أن حدوثها ممكن، فالمعنى الوحيد الوارد لتغيّر العالم هو أن أحسّ نفسي شخصاً جديداً. في هذا المعنى، أظن الثورة نجحت في تغيير العالم، على رغم تهمة التشاؤم التي لا يفتأ الرفاق يوجهونها إليَّ، وعلى رغم كل المصائب التي عايشتها في محيطها أو عبر وسائل الاتصال، وعلى رغم أن رموز الثورة من “النشطاء” أنفسهم لا يبدو أنهم خرجوا من التجربة بنظرة مختلفة إلى الحياة.

¶¶¶

أما الدليل، إذا ذكرتُ الفهم صارت الصورة أوضح بالفعل، وصرت على استعداد أكبر لأن أصفها بأمانة، فإنني، باستثناءات كأنها لم تحدث، لي عام أو أكثر لا “أنزل” مع “النازلين”؛ الأمر الذي لا يعبّر عن اليأس بقدر ما يضمر عزوفاً مقصوداً (حتى وإن كان في بداياته لاواعياً) عن الثورة كلحظة مصمتة، معزولة في قداستها، معادية للحياة؛ في مقابل الإقبال على الثورة كسبيل لممارسة أقل تأزماً للحياة نفسها بكل تفاهتها اليومية. إنه عزوف يحدوه السعي إلى اختبار ذلك الذي سمّيناه الثورة على مداه، بلا تدخل شخصي في مجرياته بعد لحظة خرق التوقعات التي أدت إلى سقوط مبارك، النجاح الأول والأخير الى الآن، يوم غرق ميدان التحرير في دموع الفرحة بينما كان كفّار الثورة المعادون لنا طوال ثمانية عشر يوماً يخرجون صاخبين في أول إعلان رسمي عن إيمانهم، محتفين بما حققناه نحن آباء المؤمنين بعبارة أخرى، أنا واحد من الناس، لي عام أتفرج.

لكن على نقيض ما يعتقده أكثر الثوار، بناء على كلامهم، أظن فرجتي هذه أهمّ من مواصلة النشاط الاحتجاجي في حد ذاتها؛ فبينما ذلك النشاط هو تكرار جماعي وقسري لشكل الثورة من أجل تأكيد استمرارها – ذلك الاستمرار الذي صَمّت آذاننا الدعوة إليه من دون أن يتوقف الداعون لحظة ليسألونا أو يسألوا أنفسهم عن معناه – فإن الفرجة هي سؤال فردي وحر عن مضمون الثورة. لأن في الفرجة وحدها (وبكل نزقها ولا أخلاقيتها) احتمال النظر إلى الثورة وقد تجاوزت لحظة الخرق الأولى أو الموت: فورة التوهج والتوحد والذوبان التي نَحنّ إليها جميعاً. فهل انتبه الثوار، أم ليس بعد، إلى أن الوقت قد حان ليتحول خوفهم على الثورة من أن يسرقها “فلول” باتوا يشبهونهم حد التطابق، إلى خوف على البلد من فقدان آخر الرتوش الخابية التي مكّنته، طوال ثلاثين أو ستين عاماً، من تمثيل دور دولة؟ هل لا يزالون يظنون الخوف على البلد – كما ظنّوه وأنا معهم قبل ثمانية عشر شهراً – هو الخيال العاجز لأمة مفطورة على تحجر الأشكال وتحلل المضامين؟

¶¶¶

أم أنهم – هم: الثوار، وقد برزت إلى السطح حدود مثاليتهم ونوازع “الاسترجال” والاستبداد والانتقام (الذكورية والأحادية والعين بالعين) في منظومتهم القيمية، ثم افتقارهم هم إلى أي خيال يتجاوز الاعتصام والمسيرة وأماكن التظاهر، أم أن الثوار يتحولون أوعية حجرية جديدة لا تحمل سوى شعارات ممجوجة ومعزولة عن واقع الناس، سيكون على أجيال أخرى، وأخرى خوض معارك “ثقافية” لا نهاية لها لمحو أثرها عن العقول والممارسات؟ لا شك أن انتصار الثورة كان هو الآخر شكلياً. بكل ما فيه من موت أو استشهاد لم يكن انتصارنا في الثورة – على الصعيد السياسي أو الاجتماعي – سوى حجة سفيهة لتمكين “التيار الإسلامي”.

لماذا؟

هذا هو المهم.

لأن ثورتنا كما صنعناها أو كما كنا نفهمها، لم تعبّر عن قيم ولا عن إمكانات ولا عن رغبات أي شيء يمكننا أن نسمّيه شعبنا أو وطننا، في ما أثبتته ثمانية عشر شهراً الآن…

بالفعل، كما أصبح خطاب الثوار متمحوراً كله حول الموت في الشوارع من أجل الحق والشعب والوطن في وقت خاصمهم فيه القطاع الغالب من الناس بحدة غير مسبوقة، موالياً الطائفية الدينية في أقذر تجلياتها وباحثاً عن الثبات واليقين والحق في كذب العصابة المسلحة وقوتها (الطغمة العسكرية) نفسها التي تقمعهم وتسمح عبر الصفقات “السياسية” المعتادة بحضور تلك الطائفية على مسرح الأحداث، العصابة المسلحة التي لم يبق من أمارات “مؤسسية الدولة” سواها. أصبحت الثورة – مثل “النظام” من قبلها – شكلاً متحجراً ينطوي على مضمون سائل كالكحول الآخذ في التبخر.

كان من شأن ذلك أن يضمحل “الواقع الثوري” ويُختزل في نشاط احتجاجي ما أجمل أن ينتهي بالموت ذبحاً كخرفان الضحية على أيدي “مدنيين” يحملون السيوف على قارعة الطريق. سنصوّر هؤلاء “الخونة” في خلسة من رصاص “جيشنا الباسل” لننشر صورهم على الإنترنت، بالطبع، ونطالب “شرفاء هذا الوطن” بملاحقتهم، ليثبت لنا الشرفاء مرة بعد مرة، أنهم إما راضون عما فعلوا وإما غير معنيين بما يكفي ليغامروا بحياتهم في غياب مجريات العدالة المؤسسية؛ وهل بيننا حقاً من يلومهم؟

كان الواقع الثوري ينعزل عن واقع “الفترة الانتقالية” أو “التحول الديموقراطي” السائد كذلك من طريق الذوبان في ذلك الأخير. كأن الثورة التي هي ثورة ليست سوى أحد الآراء “الوطنية” المطروحة التي لا “تختلف على الثوابت” ولا يُقبِل عليها الشعب للأسف نتيجة وعيه السياسي القاصر أو نتيجة أنه متدين وهناك من يتاجرون بالدين. أما الحقيقة البسيطة فهي أن الشعب لم يعش أي ثورة: لم تحدث للشعب ثورة، دعك من أن “يعملها” بيديه. مع ذلك، فنحن كثوار، وعلى رغم توجهاتنا الشعبوية، وعلى رغم الفاشستية السفيهة التي تستتبعها هذه التوجهات، بل وعلى رغم مثاليتنا الغبية، نحن “سياسيون” نؤمن بالديموقراطية، أليس كذلك؟

من ثمّ، فالثورة لا تقاطع الانتخابات البرلمانية المقامة تحت الحكم العسكري، بالتزامن مع تصفية الثوار في شارع محمد محمود، ولا يُطرح حق الدفاع (المسلح) عن النفس كوسيلة لـ”استكمالها” إلا بوصفه كسراً مذموماً لـ”سلمية” تُعدّ (إذا ما وُضعت حتمية الممارسات القمعية التي يباركها القطاع الغالب في الاعتبار) تصريحاً لـ”رجالة” و”جدعان” الثورة بالانتحار الممنهج؛ وبلا أي مردود لموتهم وفجيعة أهاليهم سوى المزيد من “الانتقال” والتأسلم، أو بضعة جنيهات يصرفها “المشير” تعويضاً، مثل رب يمنّ على رعاياه. حتى حين لا يكون الدافع على الاعتصام إلا نقض القانون الذي قبلته الغالبية الساحقة من أجل مرشح سياسي محتمل يرى فيه قطاع من الناس ليس فقط الزعيم (الطاغية) وإنما المسيح المخلص، وحتى حين يكون هذا الشخص السمين الجاهل، كما ثبت، كذاباً وجباناً. الآن صار الثوار يمثل بحثهم في الشوارع من أجل حازم أبو إسماعيل.

¶¶¶

إن ما حدث في محيط وزارة الدفاع في 2 مايو، إنما يبلور المسافة التي طالما حدستُ بوجودها بين واقع اعتصام الثمانية عشر يوماً في التحرير وواقع الحياة المحيطة به. كان الخطأ الأكبر، أننا نسينا، خلال أيام الاعتصام؛ نسينا الدنيا التي نعرفها، ومضينا في نسياننا حتى تصوّرنا أن الدنيا الجديدة التي خلقناها في “الميدان” (وبالفعل ما كان لنا أن نخلقها على الأرجح للمفارقة بغير حماية الجيش)، إنما هي دنيا سيمكننا تعميمها وتقنينها خلال شهور أو سنين من تحقق “مطلبنا”. وفي بلد سبق أعضاء طبقته العاملة ضباط الجيش إلى التبول على المعتصمين من فوق الكباري جراء استيائهم من تعطل “الحياة”، في بلد كان يُكلّّف المجند فيه العمل خادماً لضابط الشرطة قبل أن يُكلَّف التنكر لنحر المواطنين، ظننا أن اعتصام التحرير يمثل الشعب المصري أو أننا كـ”طليعة” قادرة على الفعل والتضحية، سننشر الوعي الجديد بطرح نموذج جذاب ومتحضر وسلمي لقلب نظام الحكم، أو إسقاطه.

هناك واقع أقوى من واقع الثورة (كما كان هناك دائماً)، وهو واقع تحركه اللاعقلانية، ولا خلاف فيه على منظومة الأخلاق المحافظة نفسها القائمة على الأحادية والطاعة والثبات؛ والتي جعلت خرتيتاً مثل مبارك هو “الأب الشرعي” لأكثر من ثمانين مليوناً معظمهم يعيشون خارج التاريخ. إنه الواقع القادر على نقض القوانين فعلياً، بالتعامل كما لو لم تكن موجودة، وتوفير جنود غير نظاميين يقتلون الناس مقابل وجبة أو سيجارة، فضلاً عن الجنود النظاميين الذين يقتلونهم لأنهم “ينفذون الأوامر” ولا يفهمون أصلاً معنى الاحتجاج. في هذا المعنى، لا أظن هناك جدوى كبيرة للتفريق ما بين جنود النظام وبلطجيته و”الأهالي” الموالين له خوفاً أو جهلاً أو لأيّ سبب آخر: كلهم قادرون على التحول ميليشيات سيجبهها المحتجون بميليشيات مثلها، إذا ما استمروا في التصميم على الاحتجاج بلا هدف؛ وساعتها لن يبقى من الثورة حتى ذكراها. فهل تستفيد الثورة من أحداث العباسية؟

لقد راحت صدمة الفعل وطزاجته، ولم يبق إلا ردود الفعل والانفعالات التي باتت جاهزة، مثل تعبير وجه ممثل يؤدي المشهد نفسه على خشبة المسرح نفسها لليلة الألف. قد يكون الممثل بارعاً فينقل التعبير على نحو مقنع، إلا أنه يعلم كما يعلم المشاهد أن المسرحية مثِّلت من قبل بحذافيرها؛ وأنهما يحتاجان إلى مسرحية جديدة بخيال مغاير إذا ما أرادا أن يعيشا أو يواجها حقيقة الحياة.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى