ثمة فرصة لانقاذ سوريا وبقاء بشار الأسد رئيساً!
سليمان يوسف يوسف
يدرك السوريون، ممن عمل في حقل السياسة وانشغل بالشأن العام،كم من الذكريات الأليمة والقصص المرعبة حفرتها الأفرع الأمنية في ذاكرة ونفوس آلاف النشطاء والسياسيين السوريين المعارضين لنهج وسياسات الحكم الشمولي القائم،خاصة في عهد الرئيس الراحل (حافظ الأسد)، مؤسس “الدولة الأمنية وجمهورية الخوف” في سوريا. ما جرى معي في أحد الفروع الأمنية (فرع فلسطين للمخابرات العسكرية بدمشق) لم يرتق الى مستوى الرعب،ربما لأن حصل ذلك في عهد الرئيس الأسد الأبن،حيث كانت قد تراخت في بداية عهد الرئيس بشار “القبضة الأمنية” المفروضة على المجتمع السوري. لكن مسار التحقيق والقضايا التي تناولها المحقق الأمني حفرت في ذاكرتي مشهداً مأساوياً،يختزل في بعده السياسي والفكري جوهر الأزمة الوطنية السورية المتفجرة في الشارع والمفتوحة على كل الاحتمالات.
ففي سياق التحقيق معي حول كتاباتي ونشاطاتي السياسية سألني المححق الأمني: هل أنت بعثي؟. لا لست بعثياُ.غريب،تسألني إن كنتُ بعثياً والأجهزة الأمنية تجرجرني من فرع الى آخر،وكل فرع لديه أرشيف عن حياتي الخاصة والعامة ويحتفظ بعشرات المقالات التي كتبتها والتصاريح الاعلامية التي ادليت بها التي انتقد فيها سياسات الحكم البعثي القائم؟. رد المحقق بعنجهية واستعلاء :لماذا لا تنتسب للبعث وأنت موظف لدى الحكومة..ألا يوجد لديكم لجان حزبية؟. أجبته: وهل الوظيفة حصراً على البعثيين؟.اشتد غضب المحقق الأمني وقال: يجب أن تكون كذلك،لأن البعث هو الذي صنع سوريا ويقودها..أعقبت على كلامه بالقول: كيف هذا والبعث عمره عقود قليلة من الزمن، بينما سوريا يعود تاريخها الى آلاف القرون؟. قاطعني بالقول: لا يهم، اليوم سوريا هي البعث ولولا البعث ماكانت سوريا؟. طاب لي التصعيد معه حول هذه القضية وقلت له: سوريا كانت قبل البعث واستمرت معه وستبقى بعد زوال وانتهاء حكم البعث؟ زاد المحقق غضباً وحنقاً و كاد أن يصفعني،وقال: هذا كلام خطير وتطاول على الحزب، وتساءل باستهزاء:من سيزيل حكم البعث،أنت؟. قاطعته بالقول: “حركة التاريخ هي الكفيلة بذلك”… نعم،لم تمض سوى سنتان على هذا السجال الساخن في فرع فلسطين،حتى بدأت حركة التاريخ تفعل فعلها وتهز أركان الحكم الشمولي الذي اقامه البعث في سوريا منذ انقلابه على السلطة آذار 1963.
تتجلى هذه الحركة التاريخية بخروج الشعب السوري عن صمته،محطماً جدار الخوف، زاحفاً الى الشوارع يطالب باستعادة حريته،يدافع عن كرامته،اقترب هذا الشعب من صنع معجزة سياسية طال انتظارها(انهاء الاستبداد والتغيير الديمقراطي).ما تشهده الشوارع السورية منذ منتصف آذار الماضي،ربما لم يرتق بعد الى مستوى “الثورة الشعبية”، لكنه “حراك شعبي مجتمعي سلمي” يأتي في اطار الحركة الطبيعة للمجتمعات البشرية وتطورها.فهو ليس مفصولاً أو معزولاً عن ما جرى ويجري في المنطقة من ثورات وانتفاضات شعبية، أطاحت حتى الآن ببعض العروش وهزت بعضها الآخر. كل من يحاول أن يتصدى للحراك الشعبي الاحتجاجي هو كمن يسبح عكس التيار ويضع نفسه في مواجهة الصيرورة التاريخية، وضد ارادة الشعوب التي هي جزء من الارادة الكلية للتاريح البشري. يؤلمنا جداً ونحن نرى النظام السوري وقد وضع نفسه في مواجهة ارادة شعبه وتحدي حركة التاريخ. طبعاً،هذا ليس بمستغرب من نظام يرتكز بشكل أساسي على الخبرات العسكرية والعقول الأمنية التي لا تعرف ولا تريد أن تعرف سوى أسلوب القمع والقتل والاعتقال في التعاطي مع ظاهرة الاحتجاجات الشعبية.
والأنكى،حتى الاعلاميين والمحللين السياسين المقربين من النظام والمتحدثين باسمه لا تختلف لغتهم وثقافتهم وقراءتهم للأزمة السورية الراهنة كثيراً عن لغة وثقافة وقراءة جنرلات الأمن والعسكر.أن ظهور بعض الأشخاص أو المجموعات المسلحة هنا أو هناك، قد تكون مدفوعة من جهات داخلية أو خارجية، تحاول الاساءة الى التظاهرات السلمية وحرفها عن مسارها،لا يغير من طبيعة وأهداف التظاهرات الاحتجاجية السلمية المناهضة للنظام في سوريا،ولا يقلل من مشروعية وأحقية مطالب المحتجين،المتمثلة بالحرية والديمقراطية والعيش الكريم.وهنا يجب التأكيد على أن قوة التظاهرات وشرعيتها تكمنان في سلميتها. لهذا على قوى الحراك الشعبي أن تنبذ وترفض كل اشكال القتل والعنف وأعمال الشغب التي قد تبادر اليها بعض المجموعات الشعبية انتقاماً لمقتل أقرباء لهم. فمثل هذه الأعمال تعطي الحجة والذريعة للسلطة الافراط والامعان في استخدام القوة ضد المتظاهرين والبطش بهم.أن الانتقام والقتل لا يصنعان ثورة.على كل سوري فقد حبيباً وغالياً وعزيزاً أن يعتبره شهيداً على دروب الحرية وثمناً للتغير والديمقراطية، وهو كذلك. حذاري من حمل السلاح في وجه السلطة.لأن هذا يعني انزلاق البلاد الى الفوضى والدخول في حروب داخلية،لا أحد يستفيد منها.
قبل ايام، أصدر الرئيس بشار الأسد قرارا جمهوريا يقضي بتشكيل هيئة الحوار الوطني،مهمتها(كما جاء في القرار):”صياغة الأسس العامة للحوار بما يحقق توفير مناخ ملائم لكل الاتجاهات الوطنية للتعبير عن أفكارها وتقديم آرائها ومقترحاتها بشأن مستقبل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في سورية لتحقيق تحولات واسعة تسهم في توسيع المشاركة وخاصة فيما يتعلق بقانوني الأحزاب والانتخابات وقانون الإعلام والمساهمة في وضع حد لواقع التهميش الاجتماعي والاقتصادي الذي تعاني منه بعض الشرائح الاجتماعية.”.بصرف النظر عن نوايا القيادة السورية من قبولها بفكرة عقد مؤتمر حوار وطني،التي كانت ترفضها حتى الأمس القريب،يعتبر تحول ايجابي في موقف السلطة من ملف الأزمة،واعترافاً منها بفشل الخيار الأمني الذي راهنت عليه كخيار وحيد في حسم الموقف و احتواء حركة الاحتجاجات الشعبية.نتمنى أن يكون فشل واخفاق الخيار الأمني قد أقنع الرئيس بشار بضرورة اخراج ملف الأزمة من عهدة النظام الأمني ووضعه في عهدة الطبقة السياسية الحاكمة التي غابت أو غييبت تماماً عن المشهد السوري منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية في البلاد. رغم تعقد الأوضاع في سوريا واشتداد أزمتها ودخولها أو كادت أن تدخل مرحلة الخطر،اعتقد بأن ثمة فرصة للخروج من الأزمة والتقليل من فاتورة التغيير،اذا ما توفرت النيات والارادة السياسية لدى القيادة السورية في الاستجابة لمطالب الشعب السوري والقبول بمبدأ “تداول السلطة”.وثمة فرصة أمام الرئيس بشار الأسد ليبقى رئيساً،اذا ما انضم الى قوى التغيير الديمقراطي وتحمل مسؤولياته التاريخية في نقل سوريا من مرحلة الاستبداد الى فضاء الديمقراطية والدولة المدنية “دولة المواطنة الكاملة”. فبعد هذا العدد الكبير من القتلى والجرحى وزيادة الفجوة بين الشعب والسلطة اعتقد بأنه من الصعب وربما من المستحيل أن يهدأ الشارع السوري قبل انهاء حالة الاستبداد وتحقيق التغيير الدمقراطي المنشود.اذ لا قيمة و لا معنى لأي قانون أحزاب وقانون انتخابات وقانون اعلام وغيرها من القوانين والمراسيم الاصلاحية اذا ما استمر البعث أو أي حزب آخر في احتكار السلطة والحكم في البلاد.
الفرصة في انقاذ سوريا وتجنيبها خطر الانزلاق الى ما هو أخطر، هي بأن تضع كل من السلطة والمعارضة معاً المصلحة الوطنية العليا فوق كل المصالح والاعتبارات الحزبية والشخصية والفئوية، وأن تنظر الى مؤتمر الحوار الوطني على أنه ” ممر اجباري و آمن” للخروج من الأزمة ونقل سوريا الى بر الأمان. آن الآوان لتدرك القيادة السورية بأن زمن “ارادة الحاكم المستبد” قد مضى من غير رجعة.
أنه زمن “ارادة الشعوب الحرة”. فبعد أن تجاوز الشعب السوري حاجز الخوف وانتفض في وجه الاستبداد متحدياً قبضته الحديدية التي أمسكت بالمجتمع طيلة العقود الماضية، يستحيل أن يقبل هذا الشعب برئيس غير منتخب، أو أن تحكم سوريا بالطريقة القديمة، وأن يقبل باحتكار السلطة من قبل أية جهة سياسية أو فئة اجتماعية تحت أية ذريعة أو شعارات.
ايلاف