رشا عمرانصفحات الثقافة

ثم ماذا بعد؟/ رشا عمران

 

 

من الأسئلة التي تؤرقني أخيراً: ماذا بعد؟ ما الذي ستكون عليه حياتي، بعد سنواتٍ طالت أو قصرت؟ أقيم الآن في القاهرة من دون حلم بالعودة إلى سورية. والحلم الذي تدرك أنه لن يتحقق قاتل يقتلك كل ليلة. لا ضمانة لي هنا، ولست أتجرأ أيضاً على التفكير في العيش في أية دولة أوروبية. لا أصلح أنا للدول الباردة التي تغطي حياتك بأوراق عليك أن تنجزها وحدك. النظام الصارم أيضا قاتل محترف، أنحاز أكثر إلى الفوضى، وإلى الناس والأصدقاء. ولكن كل ما سبق لا يجيب عن سؤال: ماذا بعد. ماذا سأفعل بعد سنة أو أربع سنوات أو عشر إن عشت؟ قالت لي، أمس، صديقة تعيش في بلد عربي غير بلدها منذ زمن طويل: هذا سؤال أساله لنفسي منذ أعوام طويلة. الشيء الوحيد الذي أعرفه أنني حين أموت سأدفن في بلدي، وليس حيث أقيم (!) فكّرت أن ترفاً كهذا غير متاح لي، إن مت سأدفن حيث أموت، هل سيكون هذا في سورية؟

أستبعد ذلك، سأدفن في مكان مجهول، ربما لا يعرف طريقه أحد. قبل دخولي غرفة العمليات، منذ ثلاثة أشهر، لإجراء عملية قلب مفتوح. تمنيت لو أنني في مكانٍ يتيح لي أن أوصي بحرق جثتي في حال موتي. كنت يومها أضع احتمال الموت في أثناء العملية أكثر بكثير من احتمال الحياة، لكنني لم أمت، طاقة الحياة عندي قوية. في طقس حرق الجثة، ثمّة ما هو حضاري بالعلاقة مع الحياة، فالمقابر تحتل أمكنةً واسعةً من الأرض، عظام الموتى تزيح الأحياء، لتسكن هي. ثمّة أحياء لا يجدون موطئ قدم لهم على هذه الأرض، عدا عن أن وجود المقابر يستدعي منح وقت للموتى، وزيارة الأحجار التي تغطي عظامهم، ليس لأن حياة البشر ممتلئة، ولا وقت فيها لطقسٍ كهذا. لكن، لأنه يعيد تركيب الأحزان في دواخلنا كلما تفكّكت، لأنه أيضا يذكّرنا بأن ثمة مصيراً مشابهاً قريباً لنا، فنتمسّك أكثر بالحياة، ونرتكب الشرور تلو الأخرى، دفاعاً عن وجودنا.

ثمّة معنى آخر للمقابر هو الانتماء، أن أفكّر بالمكان الذي سأدفن فيه، وأشعر بالحسرة أنني لن أدفن في وطني وقريتي ومقبرة عائلتي. هذا انحياز للانتماءات ما قبل الإنسانية، هذا بحد ذاته إعاقة لفكرة الحرية المجرّدة. الانتماءات فكرة إيديولوجية، ومع الإيديولوجيا لا يمكننا أن نتحدّث عن الحرية الكلية والمكتملة والمكتفية بذاتها. ومع ذلك، نحن مجرّد أفراد في نسق طويل لهذه الإيديولوجيات، لن نخرج منه بسهولة، ولا يفيد التنصّل منه وشتمه، علينا أن نفكّكه، كيف؟ هو سؤالٌ شخصي يؤرّقني، كيف سأتخلص من انتماءاتي كلها، لأصل إلى مرحلة اللاخوف. أخاف أن لا أرى سورية بعد الآن، لأنني أنتمي إلى هذه السورية العجيبة. أخاف أن لا أدفن تحت شجرة سنديان في قريتي قرب قبر أبي، لأنني ما زلت متعلقة بظل ذلك المكان، ومن مرّ عليه.

أخاف من تغيير حياتي الآن، والبدء من جديد في مكان آخر، لأنني تورّطت عاطفياً بحب هذا المكان، وبأشيائي التي امتلكتها هنا. فرش بيتي ، كتبي، لوحاتي، عالمي، ليس من السهل عليّ التخلي عن ذلك كله مرة أخرى، وليس سهلا نقل ذلك كله إلى بلد آخر. أفكّر أحياناً أن الملكية تعزّز فكرة الانتماء، امتلاك قبر في مكانٍ أثير يشبه امتلاك بيت أو قصر. وهذا يعزّز فكرة الحرب من أجل الوجود. المقابر كما أراها هي لإثبات خلودٍ وهميٍّ على كوكب الأرض، امتلاك مكان حتى بعد الموت. الملكية هي بحث عن الخلود، وهي انتماء ووطن. فكرة حرق الجسد الميت نثر رماده في الفراغ فكرة مدهشة، أن يصبح الجسد ذرّاتٍ متناغمة مع ذرّات الكون وتحلق في اللامكان، في الاانتماء، في اللاشيء، حتى لو كان طقس الحرق مرتبطاً في أمكنةٍ كثيرة بذهنية دينية إيديولوجية، لكنها ذهنية تتعامل مع الخيال والفراغ بطريقةٍ رائعة. لكن، هل يمكن أن يطمئنني كل ما سبق، ويجيب عن تساؤلي اليومي: ثم ماذا بعد؟

العربي الجديد

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى