ثورات الثورة الواحدة
حازم صاغيّة
تعلِّم التجارب أن الثورة، أيَّ ثورة، هي دائماً ثورات عدة، أو أن ثورات عدة تتساكن داخل الثورة الواحدة.
فإذا صحّ أن التغيير عبر الشارع نتاج انسداد السياسة، صحّ أن الذين تنسدّ في وجههم السياسة كثيرون، فهناك طبقات أو مناطق أو أجيال أو طوائف أو قوميات أو أفكار، أو بعضها أو كلها معاً، تتبدّى مقموعة ومُضيَّقاً عليها، وهذه تتقاطع عند الغضب وعند طلب التغيير من دون أن تكون ثمة أمور أخرى كثيرة تتقاطع عندها.
لهذا، غالباً ما تكون الثورات المتساكنة داخل ثورة واحدة ثورات متناقضة، بل متناحرة: في روسيا، في 1917، خاضت الثورة قطاعاتٌ عمالية أرادت إلغاء المُلكية الخاصة، وجماعات فلاحية كانت تسعى إلى حيازة المُلكية الخاصة. وفي إيران، في 1979، شاركت في الثورة أقليات مهجوسة بتوسيع استقلالها عن المركز، فيما قادتها طبقة مشيخيّة تنوي جعل المركز أشدَّّ مركزية وأكثر تراتبية.
ولهذا أيضاً، فإن التساكن غالباً ما ينتهي سريعاً، وحين لا تكون الثورة ديموقراطية، يصطبغ الطلاق بين ثوراتها بالدم. يصحّ هذا في تصفية يعاقبة الثورة الفرنسية لكتلة الجيرونديين، ولغيرهم ممن كانوا حلفاء الأمس، مثلما ينطبق على تخلّص البلاشفة الروس ممن عداهم، قبل أن يباشروا التخلّص واحدهم من الآخر. أما في إيران، فالثورة «أكلت أبناءها» أيضاً، ابتداء ببني صدر وانتهاء بموسوي وكروبي، وقد ينتهي خاتمي ورفسنجاني مأكولَيْن.
أحد أبرز القواسم المشتركة بين الثورات العربية الراهنة، هو أن أصحاب الثورتين الأكبر، اللتين تتساكنان داخل كل ثورة فيها، هما الشبيبة والإسلاميون، وبين الأطراف المقموعة، هما أكثرها معاناةً للقمع: الشبيبة، لأن حريتها وكرامتها وفرص عملها واتصالها بالعالم ومعاصرتها عصرَها… كلها مصادَرة ومحجوزة، والإسلاميّون، لأن مجرد وجودهم كإسلاميين ممنوع ومحرّم. وهذا مما يفسِّر تحوّل الجامع بيتاً للثورات، وتحوّل الكاميرا والإنترنت ومتفرعاته في التواصل الاجتماعي «حزباً» لها.
إن ذلك في عمومه تحصيل حاصل، وهو بذاته لا يُقلق، ولا ينبغي أن يُقلق مَن تخاطبه حريات الشعوب وسعيها إلى الاستحواذ على هذه الحريات.
لكن القلق يغدو واجباً في حالة واحدة: فإذا انعطفت الثورات في مرحلة لاحقة، عن الديموقراطية بوصفها همَّها المركزي، اتخذ التباينُ بين مكوّناتها شكلاً عنفياً. هنا ينتهي تساكن الثورات داخل الثورة على نحو مأسوي ودامٍ.
اليوم، تبدو تونس ومصر ماكثتين في محطة وسطى بين هذا وذاك. إنهما في البين بين. أما سورية وليبيا واليمن، فلم تتعرّض بعدُ لهذا الاحتمال، لأنها لا تزال في طور أسبق.
لكنْ في الحالات جميعاً، يبقى التوكيدُ على مركزية الهدف الديموقراطي الضامنَ والحائل الأوحد دون العنف والتفسخ. وهذا ما ينبغي لوعي الثوار ألاّ يعتبروه بديهياً، وألاّ يساووا بين معايير الطور الأول، أي نشدان الحرية، ومعايير الطور الثاني، أي بناء الديموقراطية، ذاك أن الأول طبيعي وتلقائي، كما أنه يوحِّد بين طالبي الحرية على اختلافهم، فيما الثاني مؤسَّسي وإرادي ومُظهِّر للانقسام.
هكذا يبدو كلُّ تركيز على غير الديموقراطية بوصفها الأفق المستقبلي، أي على العروبة والإسلام وفلسطين وسواها، أشبه بمقدمات لزجِّ ثورات الثورة في لجج القتل. وقد يكون الإشكال الأدعى للتفكير هنا هو: كيف ينجح الإسلاميون، وهم أصحاب قضية تملك عليهم لبَّهم، في أن يجعلوا الديموقراطية قضيتهم؟
إن ما نعيشه اليوم يستدعي كل التأييد وكل النقد في وقت واحد، فالقلب يجب أن يخفق حماسةً، والعقل ينبغي ألاّ ينام.
الحياة