ثورات تحررية؟: مازن كم الماز
مازن كم الماز
ليس للتاريخ غائية، او ليس فيه حتمية على الأقل، اي ان المستقبل يخلق اليوم، وأن الحاضر لا يليه مستقبل محدد بالضرورة، ان الحاضر يحمل احتمالات عدة والأحداث والقوى هي التي سترجح أحدها.. على ضوء هذا الفهم للتاريخ، ما هي الاحتمالات اليوم أمام مجتمعاتنا في سياق ثوراتها الراهنة؟ لا يحتاج الأمر لكثير من التكهن، دولة (بمعنى سلطة) إسلامية، ليبرالية، استمرار الأنظمة الحالية، أو توليفات بين هذه كلها.
هل هناك بديل آخر، أكثر تحررية من كل ما سبق وممكن في نفس الوقت؟ نعم، بلا شك.. لكنه سيكون في الواقع نتيجة لأزمة إنتاج أو إعادة إنتاج السلطة، ستبدأ وقتها الجماهير فقط بالبحث عن بديل خارج إطار النظام وخارج إطار البدائل السلطوية وخارج إطار النخب الحاكمة والمعارضة، مقتربة من أشكال أكثر جدية لممارسة الديمقراطية الفعلية من قبلها، أو الديمقراطية المباشرة.
لا تعني الثورة بالضرورة تغيير الواقع جذريا، إنها على الأغلب طريقة لإعادة إنتاج ما هو قائم: النظام القائم والإيديولوجيا السائدة، ‘لعقلنتها’، ولإعادة مستوى تناقضاتها مع المجتمع إلى حد مقبول، يمكن احتماله من الجماهير أو المجتمع أو يمكن للسلطة الدفاع عنه، ولإعادة التمرد كفكر وممارسة إلى حالة هامشية يسهل قمعها أو عزلها.. هذا يمكن اختصاره بكلمة، السلطة تتغير لكن النظام يبقى.. لا يوجد شك أن البنية العامة للسلطة والنظام الاقتصادي ستستمر كما هي، المقترح اليوم، ليس فقط على صعيد النخب والساسة والمثقفين، بل أيضا على مستوى الشارع، هو إصلاح النظام ستستمر التراتبية الهرمية، وأيضا الملكية الخاصة وتعايشها، النيوليبرالي أو الكنزي، مع ملكية الدولة، ولا يوجد شك أن المؤسسات السياسية ذاتها (إذا استثنينا نظام القذافي وأنظمة الخليج، كانت البرلمانات موجودة في كل الأنظمة العربية بشكلها الصوري) سيعاد إنتاجها، والأحزاب أيضا كتشكيلات تربط أجزاء من الطبقات الأدنى بالطبقة الحاكمة أو المالكة، ستبقى مأزومة وستعتمد أساسا على شعبوية غير مستقرة أو عابرة لقادة أو أفكار بعينها، ستبقى تلك المؤسسات من حيث المطلق صورية، أي فوقية، وسيبقى غالبية المواطنين غير مكترثين بها معظم الوقت، وهي أيضا غير مكترثة بهم على الأغلب، إذا استثنينا أوقات الانتخابات، أي أن ‘تفعيل’ هذه المؤسسات لن يحل عمليا أزمة مشاركة الجماهير أو حتى الطبقة الوسطى في الشأن العام، وستبقى أزمة تلك المؤسسات مفتوحة على احتمالات عدة، منها الانزلاق نحو الفاشية، عدا عن أن اصطناع تناقضات وهمية من داخل النظام نفسه (علماني ضد ديني مثلا( هو محاولة لخلق صورة صراعية لبدائل متنافسة أكثر من مجرد سلطــة هذا الجزء أو ذاك من النخبة.
كما أن التغيير الذي يطال الإيديولوجيا السائدة أو الرسمية هو أساسا تعبير عن أزمة قاتلة في الإيديولوجيا المندثرة، يمكن بعد انقشاع الغبار الأخير، بعد وقت ليس بالقصير، أن نحدد عمق الأزمة في الأنظمة العربية، وإلى أية درجة سيمتد التغيير داخلها، وإلى أي درجة سيمكن للنخب أن تحتوي تلك الأزمة، عبر حروب أهلية مثلا أو أنظمة شعبوية قمعية (فاشية) أو ‘نصف ليبرالية’، بحيث يصبح البديل التحرري عن السائد احتمالا واقعا أولا.
‘ كاتب سوري
القدس العربي