صفحات العالم

ثورة سوريا بدأها الأطفال الضحايا


يوسف بزي

لا اختصاراً للثورات وأهلها ولعديد المساهمين فيها، ولا مفاضلة فيما بينها، لكن سعياً لتحديد سمات لكل منها، ولتعيين مصادرها وصفاتها ومميزاتها. وعلى هذا يمكننا القول، انطلاقاً من حادثة محمد البوعزيزي وبواعثها، إن الثورة التونسية انطلقت من نواة اجتماعية أولى، هي فئة العاطلين من العمل والمشردين الريفيين. كذلك فإن حادثة خالد سعيد السابقة للثورة المصرية ما يقرب من العام، أفضت إلى تكوين نواة ثورية أولى تداعى إليها أشباه خالد سعيد من فئة الشباب المتعلم والوثيق الصلة بالثقافة العصرية، التقنية والفنية، كما بأنماط العيش الحديث وقيمه. وكانت الحال في ليبيا أن المبتدئين بالثورة هم “أهل” ضحايا سجن أبو سليم، أي عائلات وقبائل هي مما بقي صامداً من هدم معمر القذافي المديد لقوام المجتمع الليبي. وانطلقت الثورة اليمنية من بؤرة طلابية منقطعة عن “تقاليد” الخناجر والبنادق وخارجة عن ولاءات القبائل والانقسامات الحزبية. وبطبيعة الحال، سرعان ما التحقت بهذه الثورات جموع الفئات الاجتماعية وطبقاتها، وانضم اليها أهل المدن والأرياف والمختلفو المشارب والأهواء، وانتسب اليها المدني والعسكري والمتعلم والأمي والنساء والرجال على اختلاف أعمارهم… لتكون كلها “ثورات شعبية”.

وعلى الأرجح، قيد لهذه الثورات ان تنتصر، لأنها اتت من حيث لم تحتسب الأنظمة ولم تتحوط. فوسواس بن علي التونسي كان مطاردة المعارضين شبه المتقاعدين في المنافي الأوروبية، مع قمع منهجي للاسلاميين المتشددين، فما اكترث لـ “بسطاء” الريف وصغار الكسبة والعاطلين وفِتية الكمبيوتر… كذلك كانت حال النظام المصري الذي ظن أن أولئك الشبان والفتيات شبه المرفهين واللاهين في المقاهي والنوادي، ومشجعي كرة القدم، و”هواة” الحريات الشخصية إنما هم “زملاء” جمال مبارك وجمهوره! فيما ظن القذافي انه بتخلصه من الجيش النظامي وضباطه وممالأة الغرب يضمن القضاء على أي “مؤامرة” محتملة. ولم يتخيل علي عبد الله صالح الممسك بلعبة العسكر والقبائل وفزاعتي “القاعدة” و”الخطر الإيراني” أن طلبة صنعاء المفتونين بثورتي تونس ومصر يمكنهم قيادة أغلب القبائل والكثير من العسكر إلى حيث أرادوا، أي إطاحته.

بقيت أمامنا الثورة السورية و “الطاغية البائس”. وهذه الثورة هي الأشد صعوبة بوجه النظام الأشرس والأعنف.

عمل النظام طوال استيلائه على السلطة، المبتدئ حزبياً (البعث) منذ نصف قرن (1963) وعائلياً (آل الأسد) منذ 42 عاماً (1970) على “مراقبة” المجتمع وإخضاعه وتدجينه و”تطهيره” بشكل دؤوب ويومي، حتى باتت الطاعة له بديهة وممارسة تلقائية يبديها المواطنون برتابة وانصياع كئيبين. فالتسلط والديكتاتورية ظلتا طوال تلك العقود أشبه بالقضاء والقدر الذي لا مناص منه. وقد عمل النظام باستمرار على بناء جهازه الأمني، الكثير الفروع، مستلهماً جهاز مخابرات المانيا الشرقية (ستازي) ونظيره جهاز مخابرات نظام نيكولا تشاوشيسكو في رومانيا، ومتدرباً أيضاً على أساليب مخابرات كوريا الشمالية. أي انه النسخة العربية البعثية للبوليس الستاليني، المضافة إليها السفالة الأخلاقية والفساد النهم والفاجر.

احتسب النظام بهوس عميق للمخاطر الخارجية والداخلية، وكانت “فوبيا” المؤامرات عليه شغله الشاغل، وهو الذي يجند الأخ واشياً على أخيه والزوجة على زوجها. فهو لم يترك طالباً أو متأدباً أو صحافياً أو قارئاً في مقهى او صاحب فكرة إلا ولاحقه “وفحصه”… أو عاقبه (إلى حد القتل أحياناً). فكان أحد أنجح الأنظمة في تحطيم روح التمرد وخنق أي فرصة لنشوء أي نوع من المعارضة ضده. ولم يتورع يوماً عن تهديد مواطنيه بمعادلة “أنا او الخراب الشامل”. كان استقراره نابعاً من نجاحه في تجذير الخوف والصمت.

لذا، لم تندلع الثورة السورية كباقي الثورات العربية من بؤرة اجتماعية محددة كالعاطلين من العمل، وهم نسبة وازنة وكبيرة من السكان، ولا أتت بها فئة شبابية مدينية، حيوية ونشطة، ولا صنعها غضب قبائلي أو تمرد عشائري أو عصيان مناطقي انفصالي (كالحال الكردية مثلاً). لم تأت الثورة ايضاً من نزاع طائفي أو اثني (ولو رغب النظام في الانجراف إليه وروّج له).

ميزة الثورة السورية اتت أيضاً كالثورات العربية الأخرى، من حيث لم يحتسب النظام له: من الأطفال. هذه الفئة في المجتمع السوري، ليفاعتها و “براءتها” ولأنها لم تختبر بعد السياسة ولا أدركت بعد أبعاد القمع، ولم تفهم بعد عواقب الأفعال والأقوال.. ولأنها الأقل عرضة للرقابة، تجرأت وأقدمت على ما لم يكن يستطيعه المواطنون الكبار العارفون بقسوة القصاص والعقاب وشدة الانتقام.

في شباط 2011 قامت مجموعة من الأطفال بالكتابة على جدار مدرستها الابتدائية في مدينة درعا “يسقط بشار” فقام مدير المدرسة نفسه بابلاغ المخابرات بالحادثة، فعمد فرع “الأمن السياسي” في محافظة درعا إلى اعتقال 16 تلميذاً لم يتجاوزوا سن الـ 13 عاماً. ولما رفض النظام كل مناشدات الأهالي لاطلاق سراحهم بدأت التظاهرات الصغيرة في انحاء درعا تطالب علناً بفك أسر أولئك الأطفال من دون جدوى، إلى ان أتى يوم الجمعة 18 آذار لتندلع الاحتجاجات العارمة التي واجهتها الدولة بالبطش والوحشية حيث سقط أولى شهداء الثورة السورية.

وإذا كان أحمد سامي أبو زيد (13 عاما) قد رسم مع رفاقه تلك الكلمات التي اشعلت الثورة، فان زميله الطفل حمزة الخطيب (13 عاما) الذي تم اعتقاله يوم 29 نيسان 2011، وتعرض لأشنع أنواع التعذيب حتى الموت، تحول إلى “أيقونة” الثورة ورمزها.

وحسب آخر احصائية متوافرة، وهذا أيضاً من ميزة النظام السوري، ان عدد الضحايا من الأطفال بلغ 419 طفلاً (339 من الذكور و80 من الإناث) ولا توجد احصائيات خاصة بالجرحى والمعتقلين من الأطفال.

“قاتل الأطفال” هذه العبارة غالباً ما ترفعها اليافطات في التظاهرات اليومية السورية مضفية سمة خاصة على نظام بشار الأسد. هذا النظام الذي أدرك منذ حادثة درعا ان الثورة التي تحوط منها ومن كل اهتماماتها جاءته من حيث لم ينتبه. من هؤلاء الصغار.

فهل تكون حال النظام السوري والثورة السورية كحال هيرودس الذي لما علم أن ملكه سيهدده طفل أرسل جنده ” فقتل كل طفل في بيت لحم وجميع أراضيها من ابن سنتين فما دون ذلك” (إنجيل متى).

خرج أهل درعا انقاذاً ونجدة لأطفالها فخرجت سوريا كلها عن الطاعة. ومنذ تلك البداية وحتى اليوم، تأتينا الصور من الميادين والساحات وفي المدن والقرى ، حيث لا تخلو واحدة منها من وجود أطفال كثر ويافعين. الأطفال ليس لديهم “وعي سياسي” بالتأكيد، لكن الأكثر تأكيداً هو انهم يمتلكون الحس بالعدالة. وهذا في بلد كسوريا كاف ليكون معنى السياسة كلها.

لا نعرف ثورات في التاريخ كان أبطالها أطفالا. انما هناك فقط حالة مشابهة هي اسرائيل التي واجهت في ثمانينات القرن العشرين “أطفال الحجارة” فهل هي أكثر من مصادفة ان يواجه الأطفال الفلسطينيون الاحتلال الاسرائيلي والأطفال السوريون ديكتاتورية البعث؟

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى