جاء زمن التفكيك!/ هاشم صالح
قال لي أحد النيتشويين الراديكاليين: كل ما تراه لا شيء، الآتي أعظم! لن يبقى حجر على حجر في العالم العربي. كل شيء سيتفكك وينهار قبل أن يعاد بناؤه من جديد يوما ما على أسس سليمة.. قلت له: ويحك.. إنك تعدنا بالويل والثبور وعظائم الأمور. فأجاب بحدة: هذه آخر مرة أتناقش فيها معك حول الموضوع. أنا لست مستعدا لتضييع وقتي مع جهلة من أشكالك، مع ديناصورات آيديولوجية منقرضة أو مرشحة للانقراض. ثم أطبق الباب خلفه وخرج. للتأكد من صحة هذا الكلام الذي زعزعني أو عدم صحته عدت إلى دفاتري الباريسية القديمة فوجدت مكتوبا ما يلي: تعد منهجية التفكيك من أحدث المنهجيات في الفكر الغربي. وهي على عكس ما يوحي اسمها إيجابية جدا بل وتحريرية. عموما عندما نلفظ كلمة تفكيك مجرد لفظ فإن الناس يصابون بالهلع والاشمئزاز. ولكن على رسلكم يا إخوان! فهذا ناتج عن فهم خاطئ لواحد من أهم المصطلحات في تاريخ الفلسفة المعاصرة. وكان أول من اخترعه هيدغر قبل أن يأخذه عنه جاك دريدا ويستحوذ عليه إلى درجة أن الناس اعتقدوا أنه له ونسوا مخترعه الأصلي تماما. للحق والإنصاف فإنه اعترف لي بذلك عندما قابلته في مكتبه الجامعي في شارع راسباي بباريس. على أي حال فهيدغر فيلسوف ضخم على عكس دريدا الذي يمكن اعتباره فيلسوفا من الحجم الوسط في أحسن الأحوال. إنه فيلسوف ثرثار وممل في أحيان كثيرة. ولكن له بعض اللمحات واللمعات. ومعلوم أن الفلاسفة الكبار هم وحدهم القادرون على اختراع المصطلحات الكبرى التي تخترق تاريخ الفكر ودياجير الظلمات. مصطلح واحد قد يضيء لك الدنيا. بل إن أبوة المصطلح تعود إلى زمن أسبق بكثير. إنها تعود إلى لحظة ديكارت الذي قال بعد أن تجلت له الحقيقة ساطعة كوجه الشمس: «ولذلك قررت أن أدمر كل أفكاري السابقة». لم يستخدم مصطلح التفكيك وإنما التدمير وهو أشد خطورة. وكان يقصد به أنه بعد أن بلغ سن الرشد قرر التخلي عن كل أفكاره التي تربى عليها في البيت والمدرسة والكنيسة والطائفة. وعندئذ قام بأكبر انقلاب على الأفكار القديمة التي كانت سائدة في عصره والتي تشربها مع حليب الطفولة ككل أبناء جيله. وعلى هذا النحو استطاع أن يؤسس الفلسفة الحديثة التي قادت الغرب على طريق المنهج والنور والحقيقة. وهذا يعني أنه لا تركيب من دون تفكيك، لا تعمير من دون تدمير، لا انطلاقة جديدة من دون تعزيل للتراكمات. وعلى هذا النحو تقدم الغرب بشكل مطرد منذ عصر النهضة وحتى اليوم. في كل مرة أطبقت عليه ظلمات جديدة كان يظهر فيه مفكر كبير لكي يعزل التراكمات ويبدد الظلمات. وهنا يكمن الفرق الأساسي بين العالم الغربي والعالم الإسلامي حيث يسود الجمود التراثي. لكن التفكيك الأكبر بالطبع هو ذلك الذي أصاب الفكر المسيحي القديم. هنا جرت المعركة الحقيقية بين أنصار القديم وأنصار الجديد. وهي معركة شقت تاريخ الغرب إلى قسمين؛ ما قبلها وما بعدها. لو لم ينتصر فلاسفة التنوير فيها لما تمكنوا من الخروج من العصور الوسطى المسيحية وتشييد أسس الحضارة المدنية الحديثة. لو لم ينتصر حزب الفلاسفة على حزب «الإخوان المسيحيين» الأشداء لما تشكلت دولة مدنية ومساواة في المواطنة بغض النظر عن الاختلافات الطائفية والمذهبية. لو لم ينتصر إعلان حقوق الإنسان والمواطن على القانون الكنسي لما نفضت أوروبا عن ظهرها كابوس القرون الظلامية والحروب المذهبية. هكذا نلاحظ أن للتفكيك وظيفة تحريرية رائعة في التاريخ. التفكيك الفلسفي إذا ما جرى بشكل ناجح وموفق فإنه يحرر الطاقات المخزونة والعزائم المسجونة. التفكيك ينتقل بك من مرحلة سابقة إلى مرحلة لاحقة، من مرحلة الجمود والصدأ إلى مرحلة الانعتاق والإبداع. لا نستطيع الانتقال إلى المرحلة الحداثية قبل تفكيك المرحلة التراثية. أكاد أقول إن المنهجية التفكيكية تنطبق أيضا على العلاقات الغرامية. لا يمكن الانتقال من حب سابق إلى حب لاحق قبل أن تتفكك عرى السابق في الذاكرة وتشحب رويدا رويدا. هل فهمتم منهج التفكيك الآن؟ هل عرفتم معنى القطيعة الابيستمولوجية؟ هل أدركتم جدوى «الخيانات» الخلاقة؟ اللهم قد أوضحت بما فيه الكفاية وفضحت أعماقي الشريرة ولا زائد لمستزيد..
والآن نطرح هذا السؤال: أين نحن كعرب وكمسلمين من هذه الحركة الكبرى التي دشنت العصور الحديثة: أقصد حركة التفكيك الفلسفي لليقينيات القديمة التي عفّى عليها الزمن ومع ذلك فلا تزال رازحة ورابضة على قلوبنا؟ إننا نقف على أبوابها. آلاف اليقينيات التراثية الراسخة رسوخ الجبال سوف تتفكك وتنهار خلال السنوات المقبلة لكي تحل محلها الحقائق التاريخية المنبثقة من تحت ركام القرون. النظام القديم للفكر العربي انتهى أيها السادة. إنه يتصدع من كل الجهات سقوفا وجدرانا. هذا النظام الذي حكم العرب طيلة ألف سنة – أي منذ الغرق في العصور الانحطاطية السلجوقية والمملوكية والعثمانية – دخل مرحلة الاحتضار الآن. ولكنه سيضرب بكل قواه قبل أن يشهق شهقته الأخيرة. انظروا إلى ما يحصل في مصر الآن: إنها المختبر الحضاري الأكبر للعرب. فهي سائرة نحو التقدم والحرية والدولة المدنية الحديثة رغم هيجانات البعض هنا وهناك..
أخيرا سأقول إن القطيعة التراثية لا تقل خطورة عن القطيعة الغرامية من حيث التمزقات الموجعة و«آلام الانفصال» كما يقول هيغل. لكن لا بد مما ليس منه بد. انظروا كم كلفتهم عملية الانفصال عن الأصولية المسيحية من مخاضات هائلة ونزيف داخلي حاد. لقد زهقت أرواحهم تقريبا في عملية الانتقال. لكن هذا هو ثمن الحداثة فمهرها غال.
الشرق الأوسط