جاك لوغوف وعصر جده الحداد: تقريظ زمن «البرابرة»/ محمد تركي الربيعو
قبل وفاتة بأشهر قليلة، أصدر المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف، آخر الحوليين الكبار ربما، كتابه الماتع «هل يجب حقاً تقطيع التاريخ شرائح»2014، والذي تُرجِم إلى العربية مؤخراً في هيئة البحرين للثقافة والآثار، وبإشراف الهادي التيمومي 2018.
وقد حاول لوغوف في هذا الكتاب، أن يودع العصرَ الوسيط؛ رفيق دربه منذ عام 1950، عبر عودة سريعة، ولكن مكثّفة لهذا التاريخ، ومناخه الاجتماعي والفكري؛ مناخ غالباً ما رُسِمت حوله صور سلبية، ودائماً ما عنوناه بوصفه عصر الحزن، والظلم والتكلس والعقم.
عناوين، وصور ـ وفقاً للوغوف- لم تأت نتيجة عدم دراية كافية بذلك التاريخ، بل بالأحرى وُلدت جراء تقسيم التاريخ إلى حقب. فالبشرية وفي ظل عدم مقدرتها على التكهّن الدقيق بالمستقبل، غالباً ما تروم إلى التحكم بتاريخها الطويل، وهو تحكم مشروع؛ لأن تقسيم الزمن إلى حقب ضروري للتاريخ، بيد أن هذا التقسيم حسب شيخ التاريخ الجديد، ليس مجرد مسألة كرونولوجية، وإنما هو أيضاً تعبير عن فكرة الانتقال والمنعرج، كما يعبر عن موقف انكار إزاء المجتمع وقيم الحقبة السابقة.
ولتجاوز هذه المحنة المنهجية، في ما يتعلق بالنفس القطيعي الذي يكنّه كل عصر ومؤرخيه للعصر الذي سبقه، حاول لوغوف الكشف عن مدى مشروعية تقطيع التاريخ إلى حقب من عدمه، عبر إجراء مقارنة بين القرون الوسطى، وعصر النهضة. ويرى أن القطيعة بين العصرين تمت نتيجة عملية التحقيب، في حين أن أي عودة جادة، ومقارنة بين مناخ عصر النهضة، والمناخ الذي عاش فيه جده الحداد، فكلمة لوغوف في القرن الثالث عشر كانت تعني الحداد، كما يشير صاحبنا في كتابه، تكشف لنا أن كليهما إنما ينتميان إلى مناخ واحد يدعونه بـ«العصر الوسيط المديد» الذي يمتد من القرن الثالث إلى القرن الثامن عشر.
ولكن كيف جرى تقطيع التاريخ الوسيط المديد؟
هنا يرى لوغوف أن التاريخ لا بد له لكي يتحول إلى معرفة قابلة للتجزئة (حقب)، من دخول عالم التدريس، لأن التاريخ عندما يدرس لا يبقى مجرد جنس أدبي، بل يوسّع قاعدته. وفي ما يتعلق بأوروبا، لم تقترح الجامعات التي ظهرت منذ أواخر القرن الثاني عشر في البداية التاريخَ مادة للتدريس، لكن مع قدوم القرن السابع عشر، كانت المانيا هي البلد الذي اعتُرِف بالتاريخ فيه كمعرفة مستقلة، فأثّر بعمق في التفكير الجامعي والروح القومية. أما فرنسا، فقد تأخرت كثيراً، إذ لم يُنشأ كرسي للتاريخ والأخلاق في كوليدج دو فرانس إلا سنة 1775، ولا كرسي مستقل للتاريخ إلا أوائل القرن التاسع عشر. أما في السوربون فقد ظهر أول كرسي للتاريخ الحديث عام 1812. وفي هذه الأثناء، ولكي يتمكن المؤرخون والأساتذة من فهم التاريخ والإلمام بمنعطفاته على نحو أفضل، وبالتالي تعليمه، فقد أصبحوا بحاجة إلى الالتزام منهجياً بتقسيمه حقباً. ومنذ العصر الوسيط وإلى حد ما عُرِف لاحقاً بعصر النهضة، كان التقسيم الأكثر شيوعاً هو المقابلة بين القدامى والمحدثين. إلا أن مصطلح نهضة، وكذلك تحديد حقبة تاريخية كبرى تحمل الاسم ذاته، وتعقب العصر الوسيط وتناقضه، لم تظهر إلا في القرن التاسع عشر. ويعود الفضل في ذلك إلى جول ميشيليه (1798ـ 1874).
فقد أثنى ميشيليه في مرحلة أولى، في كتابه تاريخ فرنسا الذي بدأ بالصدور عام 1833، على العصر الوسيط، تلك الحقبة المرادفة للنور والإبداع، والتي تتطابق مع رؤيته لتاريخ خصب ومشع حتى اقتراب القرن السادس عشر والإصلاح الديني.
بيد أن الوثيقة لم تكن بالنسبة إلى ميشيليه منذ بداية عمله إلا منصة انطلاق لمخيلته، ومنفلتاً لرؤيته. وهي كذلك صورة طبق الاصل لحياته وشخصيته. لقد كان العصر الوسيط بالنسبة إلى ميشيليه عصر احتفالات وأنوار وحياة وفوران، لكنه أصبح خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر، غداة موت زوجته الأولى عام 1839، عنواناً للحزن والموت. لذلك طمح ميشيليه لرؤية نور جديد، وهو ما وجده في مصطلح النهضة. وقد وجد ميشيليه في كوليج دو فرانس غداة انتخابه لعضويتها عام 1838، المنبر الذي سيتيح لهذا المصطلح أن ينتشر على نطاق واسع بين 1840 و1860، ويفرض نفسه بوصفه دالاً على حقبة معينة. تمثل النهضة مثلما حددها ميشيليه، بصفتها «انتقالاً إلى العالم الحديث»، عودة إلى الوثنية والمتعة ولذائذ الحس والحرية. وكانت إيطاليا هي التي لقنت ذلك للأمم الأوروبية الأخرى. أما في درس عام 1841، فقد كان عنوانه «النهضة الخالدة» وموضوعه الرئيسي هو إيطاليا وكل ما تدين به فرنسا لها ـ إذ حاول جاهداً في هذا الدرس البرهنة على أن الملك شارل الثامن عندما انطلق في حروبه ضد إيطاليا «ذهب إليها بحثاً عن الحضارة بعبور جبال الألب».
كما لاحظ ياكوب بوركهارت المؤرخ الألماني في كتابه «حضارة النهضة في إيطاليا»، ظهور الموضة وزيادة الإقبال عليها، وبات للاصطفاء اللغوي والتحذلق منزلة غير معهودة في الحديث. أما نساء المجتمع الراقي فقد فتحن صالونات، كما فتح السياسيون النبلاء نوادي. وهكذا، بدأت تتشكل ملامح رجل المجتمع الكامل، فهو صاحب جسم مصقول بفعل التمارين الرياضية، ويعيش حياته على إيقاع الموسيقى. ورغم ظهور نوع من إعادة الاعتبار للعصر الوسيط وفكره في القرن التاسع عشر، فإننا نجد لدى ارنست رينان في حياة يسوع حكماً كالتالي: «إن ميزة هذه الثقافات السكولائية صد العقل عن كل ما هو دقيق». أما ما خلص إليه المؤرخون والفلاسفة في نهاية القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا حيال صورة العصر الوسيط، أن نساءه ورجاله همج، فهذا العصر كما هو معروف عصر ديني بعمق، موسوم بسطوة الكنيسة وورع شديد كاد يكون عاماً.
في إعادة الاعتبار للعصور الوسطى:
لكن وكما تهاجر الجذور في الاتجاه المعاكس، يخالف لوغوف الرؤية المدرسية السابقة تجاه العصور الوسطى. إذ يرى أن عصر النهضة ما هو إلا امتداد للعصر الوسيط، الذي أنتج بغزارة ملامح ثقافية وفنية عديدة. إذن لا بد من تبيان أن في ميادين الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة في القرن السادس عشر، وعملياً حتى أواسط القرن الثامن عشر، لم تحدث تحولات أساسية تبرّر الفصل بين العصر الوسيط وحقبة جديدة مختلفة هي النهضة.
ويرى لوغوف، أنه إن كان ثمة ابتكارا رئيسيا بلا جدال قروسيطا، فهو رسم الأشخاص بنية المشابهة. وكان ذلك في الغالب بمثول الشخص أمام الرسام. وهكذا وصلت إلينا صور دقيقة لرجال الماضي ونسائه، وقد حدث على وجه الخصوص تطور حاسم في إبراز ملامح الفرد وقسماته. وإذا كان الوجه هو المقصود، فإن الوجه جزء من الجسم، والجسم أصبح منذ ذلك التاريخ جزءاً من الذاكرة التاريخية.
لقد حدث في أواخر القرن الخامس عشر أمر له نتائج في منتهى الأهمية بالنسبة إلى أوروبا، ألا وهو اكتشاف كريستوف كولومبوس، لكن النتائج الأساسية لهذه الاكتشافات لم تغد محسوسة في أوروبا إلا بداية من أواسط القرن الثامن عشر تقريباً، وربما كان إتقان الملاحة في أعالي البحار، وقد أصبح واقعاً منذ العصر الوسيط، أكثر أهمية من الاستعمار الأوروبي الذي لم يتطور حقاً إلا بعد أواسط القرن الثامن عشر، خاصة في القرن التاسع عشر. وما فتح للأوروبيين هذه الملاحة في أعالي البحار، إنما كان إدخال البوصلة والقائم الخلفي والشراع المربع، منذ القرن الثالث عشر، فأصبح قسما اوروبا الشمالي والمتوسطي، متصلين بانتظام بسفن شراعية كبيرة حاملة السلع وكذلك البشر. كما شهد الاقتصاد الزراعي الأوروبي في العصر الوسيط بعض التطور، إذ أتاح اختراع المحراث ذي السكة الحديدية تعميق الحراثات، والاستعاضة عن الثور بالحصان، بصفته حيوان جر، إلا أن الاقتصاد الزراعي الذي طال أمده، ظل قائماً في أوروبا في القرن السادس عشر.
ويمثّل كتاب فرنان بروديل المهم «الحضارة المادية والرأسمالية» مجال التفكير في مسألة التواصل بين العصر الوسيط والنهضة. فقد أكد فرنان بروديل أن طعام الأوروبيين ظل إلى حدود القرن الثامن عشر قائماً أساساً على الغذاء النباتي. ومن الغريب أن فرنسا البلد اللاحم بمقدار استثنائي، لم تشهد زيادة في كمية اللحم في نظامها الغذائي إبان القرن السادس عشر، الذي اعتبره أنصار النهضة قرن النمو. وهكذا كان شأن الشوكولاته والشاي وحتى القهوة التي دخلت أوروبا في أواسط القرن السابع عشر، لم تشهد تزايداً حقيقياً لاستهلاكها إلا بداية من أواسط القرن الثامن عشر، إذ أصبحت عنصراً أساسياً في نظام أوروبا الجنوبية والوسطى الغذائية.
أما في ما يتعلق بظهور الموضة وتطورها في قطاع الملابس، التي يرجعها كثيرون إلى القرنين الخامس عشر والسادس عشر، فإن الأمر يعود في الواقع إلى قلب العصر الوسيط. وقد سنّ الملوك والمدن أولى قوانين البذخ منذ أواخر القرن الثالث عشر. وبيّن عالم الاجتماع الألماني نوربرت أيلياس، الذي ضخت أعماله دماءً جديدة في العلوم الاجتماعية بعد الحرب العالمية الثانية، كيف أن منوال السلوك الذي يمثل التحضر يعود في جانب كبير منه إلى العصر الوسيط.
كما لاحظ انتشار آداب المائدة، خاصة في القرن الثالث عشر. وفي انتظار دخول الشوكة البطيء إلى العالم الغربي، جعلت هذه الطقوس أدوات الأكل فردية، وكذا استعمالها في الوجبات. ووضعت بذلك حداً لاستعمال العديد من الضيوف الصحن ذاته أو آنية الحساء ذاتها، وفرضت النظافة اليدوية قبل الأكل وبعده. وقد نشأت هذه الآداب في إطار اللياقة القروسطية، ثم انتشرت هذه الآداب في القرن السابع عشر والثامن عشر في الشرائح البورجوازية، وحتى الشعبية من المجتمع. وأخيراً فإن النظام الملكي ظل مهيمناً في العالم الغربي حتى الثورة الفرنسية، رغم تحول المقاطعات المتحدة إلى جمهورية والقلاقل التي أدّت في إنكلترا إلى سقوط الملك تشارلز وموته عام 1649.
من ناحية أخرى يرى لوغوف أن كولومبوس ظل قبل كل شيء منشعلاً بالوثنيين الذين كان يريد جلبهم إلى الله الحقيقي، إله المسيحيين. لقد كان كولومبوس بحق رجلاً من العصر الوسيط. كما يشير في سياق دفاعه عن العصر الوسيط إلى دراسة المؤرخة البريطانية هيلين كوبر «شكسبير والقرون الوسطى» التي برهنت من خلاله على أن شكسبير 1564ـ 1616 الذي قفز على النهضة المزعومة، كان رجلاً وكاتباً من العصر الوسيط، وأن العالم الذي كان يعيش في إطاره شكسبير كان عالماً قروسطياً. فمدينة ستراتفورد والمدن القريبة منها تأسست في العصر الوسيط، كما أن تصور شكسبير للعالم مسرحاً عاماً أو شاملاً وكانت ثلاثة أنماط من الشخصيات تحتل في مسرحياته موقعاً محورياً/الملك والراعي والمهر.
ويخلص لوغوف من خلال مرافعته وشهادته التاريخية العميقة، إلى أن النهضة التي اعتبرها التاريخ المعاصر حقبة مخصوصية، ليست في الواقع سوى آخر حقبة فرعية من عصر وسيط مديد، وأن النهضة لم تفعل سوى إطالة العصر الوسيط.
٭ كاتب سوري
القدس العربي