جان بيير فيليو مفكر فرنسي يرى الشرق كما يراه العرب
زويا بوستان
جان بيير فيليو: الغزو الأميركي للعراق أيقظ شياطين الحقد في المنطقة
إسطنبول – ضمن فعاليات جمعية “مدينا” للتضامن الدولي مع ضحايا النزاعات، هذه الجمعية التي ساهم في تأسيسها منذ خمسة عشر عاماً، استهلّ جان بيير فيليو حديثه في ذكرى تأسيسها عن حلب المدينة، مشيراً هنا إلى التطابق اللفظي بين اسم الجمعية الذي هو اسم صبيّة بوسنية لها قصة حزينة من أيام الحرب، وكلمة مدينة بالعربية، ليدلّل عبر هذا المدخل على الحرب التي يشنها طيران الأسد والطيران الروسي في سوريا على المدن والمدنيين والمدنية بشكل عام في بلد ساهم يوماً ما في خلق مفهوم المدنية والمدينة.
عاد فيليو بذاكرته إلى ثمانينات القرن العشرين عندما اكتشف حلب وحرب النظام عليها في تلك الفترة، مستذكراً بحكم وجوده صدفة هناك، استخدام النظام لقلعتها الشهيرة كقاعدة لانطلاق مروحياته وقذائفه باتجاه سكانها، وهذا، بحسب قوله، متطابق تماماً مع ما يحدث اليوم في حرب النظام على المتظاهرين والشعب.
فيليو أكاديمي فرنسي ومؤرخ وباحث في الشؤون العربية، ومتخصص في الإسلام المعاصر. درس في معهد العلوم السياسية في باريس، ثم حصل على دبلوم المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية باللغتين العربية والصينية، ما أَهّله لأن يصبح ممثل الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان في لبنان خلال فترة الحرب الأهلية، وليكتب في العام 1984 أول تقرير عن مأساة المدنيين الذين “اختفوا” في الصراع اللبناني اللبناني، ويدلي بشهادته حول هذا الموضوع أمام لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة.
وفي العام 1986 كان فيليو مسؤولاً عن إنشاء مشروع إنساني في منطقة تسيطر عليها القوات الأفغانية المقاومة للسوفييت في أفغانستان، وتدرّج منذ العام 1988 في عدة مناصب حكومية في فرنسا بالإضافة إلى توليه مناصب دبلوماسية في الأردن وسوريا وتونس. ويقوم فيليو بتدريس العلوم السياسية في باريس في مركز البحوث الدولية.
حدود الجهاد
نشر فيليو العديد من المقالات عن العالم العربي الإسلامي في فرنسا كما ترجمت كتبه وأبحاثه إلى اثنتي عشرة لغة في العديد من الدول حول العالم.
كتابه الصادر عن دار فايار “ميتران وفلسطين”، يتناول فيليو فيه سياسة ميتران في التعاطي مع الدولة العبرية، حين يرصد تحولات العلاقة بين الرئيس الفرنسي الراحل و بين إسرائيل، فبعد أن كان صديقاً لها متودّداً لشعبها، مقراً لتاريخها، ساقته الظروف إلى خوض غمار تجربة العداء مع الحكومة الإسرائيلية من أجل الدفاع عن منظمة التحرير الفلسطينية.
“حدود الجهاد” كتاب صدر لفيليو حاول من خلاله رسم لوحة جدارية، بحسب تعبير الناشر، للجهاد الذي نشأ مناهضاً للاستعمار مع خوض عميق في الجذور التاريخية للإسلام، واصفاً في الوقت ذاته البروز المعاصر للظاهرة على نطاق عالمي، والاستيراد المدمّر لهذه العقيدة في البوسنة والشيشان وكشمير، ومحاولة خلق قواعد له في السعودية والأردن، ثم استقرار تنظيم بن لادن في العراق تحت اسم “قاعدة الجهاد”. في هذا الكتاب يكرّس الكاتب محاولة حقيقية لفهم قضايا الجهاد واقعياً، والحدود الناشئة بين حروب الجهاد، وهنا يظهر التوجه الدؤوب لجان بيير فيليو خلال عمله عن تنظيم القاعدة لتأكيد القطيعة بين هذا التطرف القاعدي المعاصر وبين تقاليد الإسلام.
الباحث الفرنسي الشهير جيل كيبيل يصف فيليو بالمؤرخ الملتزم، ويكتب معه بالإضافة إلى عدد كبير من الباحثين والمختصين في قضايا الشرق الأوسط كتاب “من هو داعش” كرسم لصورة إرهاب الجيل الثالث من تنظيم القاعدة. داعش الذي يقوم ذهنيا على خليط من”المعتقدات القديمة” الممتدة إلى زمن النبي محمد
“القيامة في الإسلام” هو العمل الذي يأخذ القارئ إلى محاولة تفسير للعداء الصاعد بين الدول الإسلامية والغرب بين عامي 1979 و2007 حيث يشرح كيف ساهم الغزو الأميركي للعراق بإيقاظ شياطين الحقد عند سكان المنطقة.
واصل فيليو بحثه في تطور التنظيمات الإسلامية المتطرفة، فكان كتابه “الحيوات التسع للقاعدة” الذي نشره عام 2009 ثم أعاد طباعته في الـ2011. ويستند فيه إلى أفضل المصادر والوثائق، ليتيح للجمهور إمكانية الاطلاع على مفاتيح النجاح الدراماتيكي لأنصار بن لادن متبحّراً أيضاً في عوامل واحتمالات فشلهم، ليترك القراء أمام سؤال يراودهم خلال تجوالهم في صفحات الكتاب، سؤال يقول: هل ستكون الحياة التاسعة هي الأخيرة من عمر القاعدة؟
الأمر الذي جعل النقّاد يتفكرون فيه ويفكرون في إمكانية انهيار القاعدة الآن، حيث كان مجيء باراك أوباما إلى الحكم في الولايات المتحدة الأميركية بيد ممدودة للعرب المسلمين ضربة قاصمة لأسامة بن لادن، جعلت الأخير يعوّل للخروج من أزمته على ما يمكن أن ينتجه هجوم غربي، أو إسرائيلي ربما، على المنشآت النووية الإيرانية من كوارث وتداعيات. وإذا كانت القاعدة الآن في موقف لا تحسد عليه منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر في أميركا، والكلام هنا للوموند الفرنسية في قراءتها لكتاب فيليو، فهذا لا يعود فقط إلى أنّ خصومها وجدوا طريقهم للتعامل معها بعد سنوات من التشتت والتخبط، وإنما بسبب ارتكابها للأخطاء مراراً وتكراراً، ما ولّد تجاذبات داخلية شديدة الضراوة في صفوف المنتسبين إليها.
هذا الاشتغال والبحث الكثيف في عمل الجماعات الجهادية والقاعدة والذي يندرج ضمن عمله كمختص في الشؤون الإسلامية على مدى سنوات، سنراه لاحقاً أو نلمس ظلاله في كتاباته عن ثورات الربيع العربي من تونس إلى سوريا، والتي يرى أنها تشهد تسوية تاريخية بين الإسلام السياسي والتيارات الوطنية والليبرالية والمعاصرة طالما أنها وبحسب وصفه ثورات طويلة الأمد أي ثورات ممتدّة في الزمن.
ربما لا ينطبق هذا الكلام على المراحل الانتقالية التي تلت ثورات بعض البلدان العربية والتي شابها القلق والخوف الذي ينتاب جميع الأطراف؛ إسلاميين وعلمانيين وليبراليين، كلّ بناءً على أسباب خاصة به تاريخية ومرحلية.
وهنا نلحظ فيليو المنهمك بثورات الربيع العربي لدرجة الدفاع عنها والانحياز إليها، حيث يقول عنه جان دومينيك ميرشيه بأن مواقفه بحسب بعض الخبراء تصنّف على أنها قريبة ومتعاطفة مع المتمرّدين السوريين ولنفس الأسباب يصفه الباحث الفرنسي الشهير جيل كيبيل بالمؤرخ الملتزم الذي سيكتب معه فيما بعد بالإضافة إلى عدد كبير من الباحثين والمختصين في قضايا الشرق الأوسط كتاب “من هو داعش” كرسم لصورة إرهاب الجيل الثالث من تنظيم القاعدة. داعش الذي يقوم ذهنياً على خليط من “المعتقدات القديمة” الممتدة إلى زمن النبي محمد، وتكنولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي المعوّل عليها في نشر بروباغاندا التنظيم وعمليات غسيل الأدمغة، ما يجعل التنظيم دولة بلا حدود، ممتداً خارج الجغرافيا، ومن هنا انطلق الباحثون لمعالجة هذه الفكرة عبر تفكيك النصوص، والخرائط، وبنى التكوين الذهني، والتعليمي لأفراد داعش معتمدين على الذكاء الجمعي من أجل محاربة الخوف من المجهول، وخاصة إذا كان هذا المجهول يقرن وجوده بقتل الإنسان، أو نفي وجوده.
فيليو وسلام المقابر
ربّما كان لمكوثه فترة طويلة من الزمن في سوريا منذ ثمانينات القرن العشرين وإتقانه لهجتها تأثير على انخراطه في الهمّ السوري، دور في اهتمامه بما يحدث فيها، لا سيما وأنه كان شاهداً على مذابح ثمانينات القرن الماضي في عهد حافظ الأسد ما وفّر له فرصة قيّمة لمقارنة عنف اليوم بالأمس، بناءً على ملاحظاته التي خزنّها عن حلب، والتي يقول عنها في كتابه “أكتب لكم عن حلب” الصادر في العام 2013 “إنها ليست مختبراً لمرحلة ما بعد بشار الأسد فقط، وإنّما هي المكان الذي يمكّننا من قراءة مآلات الثورة السورية انطلاقاً من أشدّها احتراماً، وانتهاءً بأكثرها طائفية”، ويضيف “حلب هي سوريا اليوم وشرق أوسط الغد”.
يقدم فيليو نفسه خلال محاضرة له في مخيم الزعتري عن الشرق الأوسط الجديد على أنه باحث وأكاديمي ودبلوماسي فرنسي، دون أن ينسى الإشارة بحميمية إلى الكوفية التي تطوق رقبته والتي يحتفظ بها كذكرى عزيزة جداً من صديقه الدمشقي. في هذه الزيارة التي حرص أن يقوم بها مع ابنه دييغو الناشط في جمعيات حقوق اللاجئين، يشرح فيليو ملخص كتابه “الشرق الأوسط الجديد، الشعب في زمن الثورة السورية”، وكيف يمكن أن يساهم سقوط الأسد في تغيير منطقة الشرق الأوسط التي يعتبر الشعب السوري عصبها، ومكوناً أساسياً من مكوناتها.
قراءة فيليو وتحليله الدائم لسياقات الثورة السورية، ومخرجاتها، ينبثقان من مدى معرفته بالواقع السوري، وبإيمانه بعزيمة السوريين الذين يمدهم التوحش بالقوة على مجابهته، وهذا ما يؤكده في مقالته “الانتفاضة السورية مكتوب عليها الانتصار” والذي نشر مترجماً في موقع الجمهورية حيث يقول “الانتفاضة الشعبية ليس لديها أيّ خيار سوى إسقاط الدكتاتور وآلة الإرهاب التي لديه. تلك ‘الدولة البربرية’ في سوريا، حسب تعبير الراحل ميشيل سورا، لا تستطيع في الواقع تقديم أدنى تنازل عن تحكّمها المطلق بالمجتمع. إنها الحرية التي على الشعب السوري أن ينتزعها خطوة خطوة، ولا يمكنه التراجع وهو مهدّد بإبادة مشابهة لتلك التي فُرضت على مدينة حماة عام 1982. انظر إلى صور حمص والقصير التي ‘استعادها’ النظام السوري. ليس هناك سوى أطلال فارغة من جميع سكّانها، حرفياً سلام مقابر”.
محاولة حقيقية لفهم قضايا الجهاد واقعيا
إنه الإيمان بالقتال حتى الموت ضد نظام متوحش ما يمدّ تلك الانتفاضة بالطاقة، على الرغم من انقسامها في وجه آلة الحرب عديمة الرحمة التي يملكها الطاغية.
جذور داعش
لا يغيب عن فيليو الذي يتعرض دائماً في لقاءاته للسؤال المحموم نفسه عن الإسلاميين والخوف منهم، أن بشار الأسد كان يباهي مع علي مملوك أحد كبار مسؤوليه الأمنيين أمام القادة الأميركيين بالقدرة على اختراق المجموعات الإرهابية منذ أيام غزو العراق، وبأنه كان ينفي نفياً قاطعاً وجود مظاهرات سلمية في شوارع بلده، إلى أن جاء عفوه الانتقائي عن قيادات من الإسلاميين كانت في السجون “بعضهم كان في العراق وساهم فيما بعد بتأسيس (جبهة النصرة)”.
ولربما كانت إحدى وسائله لإنصاف الثورة المتروكة، هي الكتابة الدؤوبة عنها، سواء كان عبر مقالات في الصحف الفرنسية وغيرها أو في المدونة الخاصة به والمليئة بالكتابات عن السوريين وثورتهم، أو من خلال كتبه التي كان آخرها كتاب “سيدة دمشق” وفيه قصة فاطمة وكريم السوريين اللذين تربطهما عاطفة شبه مستحيلة في إحدى ضواحي دمشق التي هزتها الثورة، ضمن استعادة لرواية روميو وجولييت في القرن الحادي والعشرين حيث تتلاقى مصائر شابين يتحملان عذابات وعناء وجودهما في ظل بربرية يومية.
انهمك فيليو بقضايا المنطقة حتى أصدر بالتعاون مع الكاتب ديفيد بي كتاباً يحكي تاريخ العلاقات بين الشرق الأوسط والولايات المتحدة الأميركية بعنوان “أفضل الأعداء” مستخدماً الرسوم التوضيحية من أجل فهم أفضل للتاريخ السياسي المعاصر.
وله كتاب بعنوان “كامارون ثورة الفلامنكو” صادر عام 2010، كما أنه أصدر عام 2011 كتابه “عشرة دروس في النهضة الديمقراطية” ثم أصدر في العام 2015 كتابه “العرب؛ مصيرهم ومصيرنا”.
العرب