مراجعات كتب

جان بيير فيليو و”مرآة دمشق”..هل جئت مقاتلاً أم عالماً؟/ جمال شحيّد

 

 

أصدرت دار لاديكوفيرت في آذار/مارس 2017 كتاباً جديداً للباحث الفرنسي جان بيير فيليو عنوانه “مرآة دمشق. سوريا، تاريخنا” (Le miroir de Damas. Syrie, notre histoire) بـ287 صفحة. وفيليو هو أستاذ مختص بتاريخ الشرق الأوسط المعاصر ويدرّس حالياً في معهد العلوم السياسية في باريس، بعد أن درّس في جامعة كولومبيا في نيويورك وجورج تاون في واشنطن. ولفيلو 15 كتاباً، منها “ميتيران وفلسطين” (2005)، “الرؤيا الأخروية في الإسلام” (2008)، “الحيوات التسع لتنظيم القاعدة” (2011)، “أفضل الأعداء. في تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط” [ثلاثة أجزاء] (2011، 2014، 2016)، “الشرق الأوسط الجديد” (2013)، “أكتب لكم من حلب” (2013)، “العرب ومصيرهم ومصيرنا” (2015)، “سيدة دمشق” [مع سيريل بوميس] (2015).

يستهل كتاب “مرآة دمشق” باستشهاد من مسرحية “منمنمات تاريخية” لسعدالله ونوس يقول فيها ابن خلدون “هل جئتُ إلى دمشق مقاتلاً أم عالماً؟ هل جئت كي أحمل السيف أم كي أسجّل الأحداث وأستصفي زبدتها وعبرتها؟” [المنمنمة الثانية]. ويذكر فيلو في مقدمة دراسته : “”لقد تخلّى عالمنا عن سوريا وشعبها وتركها عرضةً لهول لا يتصوّر. ولكن يبدو أننا لم نشعر بهذا الهول إلا عندما تدفقت أمواج من اللاجئين إلى أبواب أوروبا […]. لذا لا بدّ من إعادة الأواصر مع جانب التاريخ العالمي الذي جرت وقائعه هناك، في الضفة الأخرى من البحر المتوسط”. “شئنا أم أبينا، دمشق تمدّ لنا اليوم مرآتها”. ويذكر الكاتب أنه عاش في سوريا إبان الثمانينات من القرن الماضي وأنه جال في كل مناطق سوريا، وأنه التقى بالرئيسين حافظ الأسد وبشار الأسد. ويقول : “إن هذا الكتاب هو احتفاء بشعب سوريا المضياف والمتشبث بتاريخه”. وفي هذا الصدد يذكر أنه رأى شيخاً مسلماً ورعاً يبكي أمام فسيفساء بيزنطية مهمّشة.

حفاظاً على التراث، قسّم فيليو كتابه إلى اثنتي عشرة حلقة تمتد من اهتداء بولس الرسول وبتهريبه من اليهود الحاقدين، إذ أُنزل في زنبيل من فوق باب كيسان ولجأ إلى ديار الأنباط في جزيرة العرب ثم عاد إلى القدس للالتقاء بالرسول بطرس وذهب من ثم إلى أنطاكية بصحبة الرسول برنابا : “وعلّمْنا جمعاً كثيراً حتى أن التلاميذ دعوا مسيحيين في أنطاكية أولاً” (أعمال الرسل 11،26). وينوّه فيليو بأن المسيحية بدأت تتحرر من اليهودية في الديار السورية وأنها ترعرعت فيها.

وينتقل فيليو من “طريق دمشق” إلى القرون الأولى للمسيحية. ويتوقف عند ظاهرة المدن الميتة في محيط إدلب، وعند القديسين يوحنا مارون وموسى الحبشي. ويستطرد بزيارة مفتي النبك والأب باولو دالوغيلو (مرمم دير مار موسى الحبشي في النبك) اللذين ذهبا إلى القرداحة لتقديم التعازي لبشار الأسد بمناسبة وفاة أبيه: “أمامك مسلم ومسيحي أتيا ليساعدانك في خدمة سوريا، وتجديد هويتها وإجراء المصالحة بين بنيها” (ص 43). ويعود الكاتب إلى التاريخ وإلى انتصار الإمبراطور البيزنطي هرقل على الفرس واسترجاع صليب المسيح من أيديهم عام 630، واحتفالات معلولا بعيد الصليب.

وتتكلم الحلقتان الثالثة والرابعة من الكتاب عن انتقال الدولة الإسلامية الناشئة، من مكة والمدينة إلى دمشق، مع معاوية مؤسس الدولة الأموية. ويجد فيليو وجه شبه في سياسة الخليفة معاوية وفي سياسة الرئيس حافظ الأسد، وانتقال السلطة، وبدء الصراع الدامي بين السنة والشيعة.

ثم يتوقف عند حلقة الحروب الصليبية وصلاح الدين. وعلى غرار الإخباري الفرنسي راوول دى كان Raoul de Caen يعترف فيليو بأن شذاذ الآفاق الأوروبيين هؤلاء كانوا من آكلي اللحم البشري، لا سيما في معرة النعمان عام 1099، وبأن اجتياحهم لبلاد الشام عمّق الهوة بين المسيحية الغربية والمسيحية الشرقية. واحتدمت المعارك في حطّين، قرب بحيرة طبريا عام 1187 وانتصر صلاح الدين على الصليبيين وبدأت الإمارات والممالك الصليبية تتهاوى حتى وفاة صلاح الدين في دمشق عام 1193. ويذكر فيليو تداعيات انتصارات صلاح الدين الذي أكرمه الإمبراطور غليوم الثاني عندما قدم الى دمشق عام 1898، وسعى جمال عبد الناصر إلى التماهي معه [يوسف شاهين وفيلمه “صلاح الدين”].

ثم ينقلنا الكاتب إلى الاجتياح المغولي لبلاد الشام على يد تيمورلنك. وحاول ابن خلدون تجنيب المدينة من الاستباحة فأنزل في زنبيل – على غرار ما حصل لبولس الرسول – وقابل تيمور الأعرج عدة مرات عام 1401، فاستسلمت له دمشق ولكنه حنث بوعده لابن خلدون وأحرق الجامع الأموي وقسماً من المدينة وأقام برجاً للرؤوس المقطوعة شرقي المدينة (في ساحة برج الروس). وعاد سعدالله ونوس إلى تلك المباحثات الغريبة التي تمت بين تيمور وابن خلدون في مسرحية “منمنمات تاريخية” حلل فيها ما كان يعتمل في صدر كل منهما من طموحات متضاربة.

وتبدأ المرحلة العثمانية في بلاد الشام ومصر. وتليها مسألة “ثغور الشرق” والامتيازات التي حصل عليها قناصل الدول الغربية، ولا سيما قناصل فرنسا. وتدفقت على المشرق الإرساليات الرهبانية الأوروبية. فاستقرت في حلب الإرسالية اليسوعية عام 1623 ثم إرسالية الكراملة والكبوشيين عام 1625. وأصبح الملك الشمس لويس الرابع عشر حامياً للموارنة. وبدأت الكثلكة تنتشر في بلاد الشام. وركّز التجار الأوروبيون على استيراد الحرير وتمركزوا في حلب خصوصاً. ويرى فيليو أن حركة  التنوير في المشرق نشأت أولاً في حلب ثم في بيروت؛ ويعدّ عبد الرحمن الكواكبي وفرنسيس المراش من أبرز ممثليها. وكان كلاهما متشربين بروح علمانية لافتة. مما أفرز شخصيات مهمة في تاريخ سوريا الحديث، من أمثال ابراهيم هنانو وسعدالله الجابري.

ويتوقف فيليو عند بعض المحطات المهمة في تاريخ المنطقة، كحملة محمد علي وابنه إبراهيم على سوريا ودحره العثمانيين إلى مشارف اسطنبول. ويورد بعض مقاطع من رحلة لامارتين إلى الشرق، وهو القائل : “من بين جميع المسائل المتعلقة بالمسألة الشرقية، تنطوي مسألة سوريا ربما على النقاط الأكثر حساسية وأهمية. وكأني بهذه المسألة تختصر جميع الأخطاء والفضائل في سياستنا، منذ بضع سنوات” (ص 164 من الكتاب). ويتوقف أيضاً عند شخصية كارزمية هي شخصية الأمير عبد القادر الجزائري أحد تلامذة ابن عربي، و”منقذ دمشق” إبان أحداث 1860.

ويتابع فيليو وقائع سوريا في مطلع القرن العشرين مع مذبحة الأرمن والسريان وخيانة الحلفاء بعيد الحرب العالمية الأولى وفرضهم نظام الانتداب من 1920 حتى 1946، جلاء الجيش الفرنسي عن سوريا.

وفي المرحلة الحادية عشرة من الكتاب، يتكلم فيليو عن الرؤساء الفرنسيين الثلاثة الذين أعاروا سوريا اهتماماً خاصاً في العصر الحديث، وهم الجنرال ديغول الذي على يده تم إنهاء الانتداب؛ وفرانسوا ميتران الذي كانت له صولات وجولات مع حافظ الأسد، ويستعرض فيليو وقائعها بشيء من التفصيل؛ وجاك شيراك الذي انفتح على سوريا أكثر من الرئيسين الفرنسيين السابقين، لكن مقتل رفيق الحريري في شباط/ فبراير 2005 أفسد صفو العلاقات بين البلدين.

ويسمّي فيليو المرحلة الأخيرة من كتابه “دوخات الدبلوماسية وطرقها المسدود”. يقول إن سوريا احتلت مركز الصدارة في الشرق الأوسط إبان الثمانينات، وبعد انتصار النظام على جماعة الإخوان المسلمين، ومساندة إيران في حرب الخليج الأولى، وإرساء قواعد نظامه على الجيش والأجهزة الأمنية – كما يقول فيليو -، والدخول في مباحثات سلام مع الإسرائيليين، واستلام بشار الأسد مقاليد السلطة بعد وفاة أبيه في 10 حزيران/يونيو 2000، وحرب 2006 التي شنتها إسرائيل على لبنان، والأزمة الأخيرة التي اندلعت عام 2011 ولم تخمد نارها بعد.

ويختم فيليو كتابه بقوله : “تعكس لنا مرآة دمشق صورتنا فعلاً؛ ولافتةٌ هي الخطابات الحالية حول سوريا بالنسبة لمن يلقيها. قد يصم لامارتين أذنيه أمام أدغال الكليشيهات هذه، التي يتقاطع فيها الحنين إلى الحروب الصليبية والى الأبوية الاستعمارية والى عنصرية لا تخفي رأسها، لنقل ذلك بصراحة. ولكن، إذا كان ثمة درس يجب استخلاصه من التجربة الفرنسية في سوريا، فهو درس يحمل جانباً من الأمل، لحسن الحظ : لقد فشلت إحدى الإمبراطوريتين الكبريين آنذاك، وعلى الرغم من “انتدابها” الذي امتد من عام 1920 إلى عام 1943، فشلت في تقسيم سوريا المتطلعة إلى الحرية” (ص 264).

X           X            X

في هذا الكتاب اللمّاح المفعم بالحب لسوريا، والذي ختمه فيليو بعبارة : “سوريا، تاريخنا”، يستعرض القارئ تاريخ هذا البلد منذ الألف السابع أو الثامن قبل الميلاد وحتى العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. صحيح أنه ساق محطاته الاثنتي عشرة بشيء من الاقتضاب، ولكنها محطات محورية في تاريخ بلاد الشام، ووضع فيها الكاتب كثيراً من النقاط على الحروف، وسردها بموضوعية علمية مرهفة، ولكنها تستدعي من القارئ استكمال ما سبق باختصار. وما استذكار هذا التاريخ المديد إلا ليقول إن مصير سوريا مرتبط بهذا التاريخ كله. ويلمس القارئ شغف فيليو بسوريا التي يروم لها أن تتجاوز أزمتها وتنبعث كالعنقاء من رمادها. “في داخلنا جزء من سوريا. وفي مرآة دمشق نستوعب مصير عالمنا”.

عنوان الكتاب: مرآة دمشق. سوريا، تاريخنا المؤلف: جان بيير فيليو

ضفة ثالثة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى