صفحات سوريةمازن كم الماز

جبهة النصرة إرهابية ؟

 

مازن كم الماز

لا شك أن الإدارة الأمريكية تتصرف بنزقها المعتاد، هي مرة أخرى تمنح نفسها وضعية القاضي والخصم، الأمر الذي كان وراء الغضب المستحق الذي يطاردها في الشرق وفي كل مكان .. ما تفعله أمريكا بهذا العمل هو أن تحدد خصومها ليس إلا لأنها أخلاقيا لا تملك الحق في اتهام الآخرين رغم أنها تملك القوة لملاحقتهم ولو أن هذا هو المهم في الموضوع بالنسبة للكثيرين.

قيل الكثير عن الإرهاب وعمن يمارسه، في سوريا وغيرها، خاصة عن نظام الأسد الذي أصبح خارج المعقول في إرهابه ودمويته، وقيل الكثير أيضا عن جبهة النصرة نفسها .. الحقيقة أنه هناك الكثير من التخبط في كل هذا، فلا العالم يكره أمريكا لأن شعبها يملك حريات أكثر من غيره، كما زعم بوش ذات يوم، بل يكرهها لأنها تمارس دور البلطجي العالمي، لأنها أكبر إرهابي في العالم، ولا جبهة النصرة هي البطل المقدام للثورة السورية، كما يزعم البعض أيضا، لأن البطولة في الثورة السورية كما في كل الثورات هي بطولة جماعية تشمل الآلاف إن لم يكن الملايين من البطولات التي مارسها السوريون منذ 22 شهرا والتي يستحيل حصرها في أية ظاهرة .. مع ذلك يبدو صحيحا أن مقاتلي جبهة النصرة يستحقون الكثير من الثناء بسبب بطولاتهم، فهم أيضا يملكون ذلك السحر الخاص للتمرد في مواجهة واقع لا يطاق لكنه في نفس الوقت واقع عنيد وقاسي في قمعه لأية محاولة للرفض أو الاحتجاج، يستحقون تلك الهالة الأسطورية التي حملها من قبل سبارتاكوس وغيفارا .. هذه المرة أيضا يستحوذ المتمرد على القلوب، ليس المقاتل الجهادي إلا النسخة الأخيرة الراهنة الخاصة بنا من هذا المتمرد على الطغيان عبر العصور .. مهما قيل في هؤلاء المقاتلين فإنهم يستمدون سحرهم من تمردهم العنيف ورفضهم المطلق لواقع لا إنساني عبثي .. وإذا كان كامو قد اعتبر في دراسته عن المتمرد أن التمرد المعاصر قد أصبح تمردا ميتافيزيقيا، كتحدي في وجه واقع عبثي أكثر منه انتفاضة جياع، فإن هذا أكثر ما ينطبق على الجهاديين اليوم .. إن المقاتل الجهادي هو بشكل من الأشكال راسكولنيكوف دوستويفسكي بطل روايته الجريمة والعقاب الذي يمنح نفسه، بحكم معاناته وآلامه وتفانيه في خدمة قضيته، الحق في ارتكاب الجريمة لصالح البشرية ..

من قرأ كتاب معالم في الطريق لسيد قطب، مانيفستو الجهاديين الإسلاميين، وكتب العدميين الروس والفوضويين الأوروبيين في أواخر القرن التاسع عشر لا بد أن يكون قد أثار دهشته ذلك التشابه الهائل بين هذه الكتابات، وأيضا الشبه الكبير بين أفعالهم ضد السلطة القائمة .. الحقيقة أن كتاب سيد قطب هو ترجمة عربية أو إسلامية لمانيفستو الثائر الروسي سيرغي نيتشايف الذي مات شابا في سجون القيصر الروسي الرهيبة في القرن التاسع عشر، سواء في مركزية فكرة الثورة على الواقع وتدمير هذا الواقع بالكامل كهدف أساسي بل ووحيد، وفي الفصام الكامل عن العالم المحيط وفي إنكار الذات أو حتى الميل لتدمير الذات .. في أفكارهم وممارساتهم عرف الثوار الروس والأوروبيون أيضا فكرة إباحة كل شيء في سبيل انتصار الثورة (فكرة التمترس الجهادية ذكرت ومورست بأشكال أخرى من قبلهم) ..

صحيح أن مقاتلي النصرة والأجيال السابقة لهم من الجهاديين استندوا إلى إيديولوجيا مختلفة تماما عن إيديولوجيا ثوار القرنين الأخيرين لكن عدا عن تطابقها في المحتوى فإن هذا كان نتيجة الضرورة ليس إلا الإيديولوجيا التي يتسلح بها المتمرد في مواجهته للواقع وللاستبداد يجب أن تكون بالضرورة نقيض خصمه الأول، وهذا ما كان عليه الحال في سجون عبد الناصر التي فرخت هذا الفكر الذي مازال يغذي التمرد عند أجيال غاضبة من الشباب العربي والمسلم .. صحيح أن لينين قد رفض مشروع هؤلاء الثوريين الإرهابي، الذين كان من بينهم أخوه نفسه والذي خسر حياته نتيجة مشاركته في اغتيال القيصر، لكن كثيرين يذهبون إلى أن ما أراده لينين هو إنجاز ذات المشروع بأساليب مختلفة، أقل دموية، لكن أكثر نجاعة .. إذا كان هذا الكلام صحيحا فإن الكثير من دموية النظام الستاليني يمكن نسبتها إلى تلك المحاولات الدموية من القرن التاسع عشر لقلب النظام القيصري وغيره من أنظمة ذلك الزمان في أوروبا وأمريكا ..

يؤكد كامو شيئا كهذا أيضا في دراسته عن المتمرد، تماما كما كان مصير راسكولنيكوف الشخصي في رواية دوستويفسكي .. بالعودة إلى اللحظة الراهنة، يمكن القول، أنه لا يمكن للربيع العربي أن يزهر من دون الإسلاميين، لا يمكن إقامة مجتمع البشر الأحرار والمتساوين من دون أن يتمتع كل فرد فيه بنفس الدرجة من الحرية، لكن في نفس الوقت، يبدو أن إقصائية الإسلاميين وشمولية مشروعهم هي اليوم أحد أهم العوائق أمام تحقق مثل هذه الحرية للجميع .. يبقى السؤال هنا مفتوحا للأيام القادمة: هل المتمرد محكوم بذات الشمولية دائما، هل هذا جزء حتمي من مأساته أو أسطورته، أن يساهم في خلق وحش جديد، هذه المرة باسم الحرية وباسم خلاص البشرية؟ .. هذه معضلة ليس من السهل حلها، لكن الأكيد أن حلها منوط أساسا بجماهيرنا التي صنعت الثورات وليس بأية قوى سلطوية تحاول تطويعها.

‘ كاتب سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى