جدران الحريّة”: الثورة على سطوح الغرافيتي/ سحر مندور
في الصفحة الثالثة عشرة من كتاب “جدران الحرية”، وبعد مقالة تلاحق تاريخ فن الغرافيتي الاعتراضي المصريّ منذ الفراعنة، وأخرى ترصد محتويات جدران المحروسة قبل ثورة ينايرة 2011، تحضر صفحةٌ عنوانها “مقدمات ثورة”. في الصفحة، يحضر تسلسل زمني لحركات الاعتراض المصرية الموثقة، بالتظاهر أو الاضراب أو الانقلاب… ويبدأ التسلسل من العام 1159 قبل الميلاد، يوم سُجّل أول إضرابٍ عماليّ في التاريخ، وقد قاده عمّال “دير المدينة” ضد الفرعون رمسيس الثالث. منه، ينتقل التأريخ سريعاً إلى ثورة أحمد عرابي ضد الخديوي العثماني في العام 1881. ما يوحي بأن الإشارة إلى الإضراب الأول في التاريخ تأتي رمزيّةً لتشير أولاً إلى حدثٍ تاريخي يحلو استحضاره في سياق الثورة في مصر، وتالياً إلى أن هذا الفعل، الثورة، التمرّد، العصيان، هو الوجه الآخر لعمق الدولة في تاريخ المحروسة وناسها.
على حجارة الإسكندرية التي تواجه البحر، تقرأ العين في الصورة قولاً للشاعر المصريّ أمل دنقل مكتوباً بخطّ اليد: “لا تحلموا بعالمٍ سعيد، فخلف كل قيصرٍ قيصرٌ جديد”. منها، ومن تاريخ الاعتراض المصري ومقالتين في تاريخية الاعتراض والغرافيتي في مصر، يفتح الكتاب بابه على ثورة الـ18 يوماً. ثورة مصر التي نعرفها.
كنصّ اجتمع في معناه
كتاب “جدران الثورة” (2014 – باللغة الإنكليزية عن “فروم هير تو فايم”، ألمانيا) يوثّق الثورة المصرية، أساساً عبر الغرافيتي الذي أنتجته. يرصد مرحلتها الأولى ضد حسني مبارك، ويستمر مع مرحلة حكم المجلس العسكري، فحكم جماعة “الإخوان المسلمين” عبر شخص محمد مرسي، وصولاً إلى “صعود الفريق السيسي” إلى سدّة الجماهيرية. ومثلما أتى غرافيتي مصر خلال هذه المرحلة من تاريخها الحديث جداً، مرتبطاً مباشرةً بنمو الأحداث وقابلاً للتجريد في آن، كان لا بد من أن يضمّ الكتاب استعادات تاريخية للأحداث اليومية الأبرز والأبقى في الذاكرة الجمعية خلال تلك المراحل، كما مقالات نظرية تحلّل هذه اللحظات وتلك الرسوم، تضعها في سياق.
وإذا كان السواد الأعظم من الصور التي تحتويها صفحات الكتاب (268 من القطع الكبيرة) هي للرسوم، فإن الفوتوغرافيا حجزت لنفسها مطرحاً، إن عبر استعادة مشاهد للرسّامين وهم ينجزون رسومهم خلال الثورة، خلال التظاهرة، في غفلة عن المراقب وعسكره، أو عبر استحضار صورٍ أصبحت جزءاً من تاريخ العين كاحتشاد الناس في التحرير، تفاصيل تنظيمهم لاعتراضهم، وقوفهم في مواجهة الماء والقنابل، الواقعات، لافتات الناس في كل يوم، ضرب النار، حرق الآليات، ضرب الناس.. ولأننا عشنا تلك المراحل بتسلسلها كما وقعت، يبدو الكتاب قادراً على تأمين استعادة توضح الترابط بين سياقاتٍ لم تكن بديهية حينها. فتُظهر الاستعادة كيفية انتقالنا من مرحلة إلى أخرى: خلال الثورة على مبارك، ترى العين صورة حسني مبارك مرسومة بتناقضٍ مع الشعار العسكري للقوات المسلحة (النسر)، بمعنى ضمني يقول إن القوات ليست هدف الثورة بل الرئيس… ما يفسّر تقبّل “الجماهير” لمجلسٍ انتقالي يكون عسكريّاً حينها. ولمّا بدت لمعارضة المجلس أسبابٌ موجبة ومباشرة، ابنة هذه التجربة الثورية، راحت طاقية العسكر تظهر فوق تلّ من الجماجم وفوقها شعار تبدّل معناه: “الجيش فوق الجميع”. وقد استمرت خلال هذه المرحلة رسومٌ تميّز المجلس العسكري عن القوات المسلحة (ما يمهّد لصعود السيسي لاحقاً)، كغرافيتي يكمل حياة شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، ليصبح في رسمٍ فيه مبارك بالطول الطبيعي يسير برفقة أُسس نظامه ومن بينهم المشير حسين طنطاوي: “الشعب يريد إسقاط حبايب النظام”، أو شعار بخطّ اليد يقول: “الجيش المصري بتاعنا.. والمجلس مش تبعنا”. وقد ترافق ذلك حينها مع نشوء حركة “عسكر كاذبون” ليكون اسمها صلة الوصل ما بين مرحلة الأمل في العسكر ومرحلة الغضب من المجلس العسكري: أنتم “كذبتم”، بمعنى أنكم خنتم رهاناً ما كان عليكم.
في الكتاب، يظهر تسلسل السياق للعين كنصّ اجتمع أخيراً في معناه. كأن التسجيل كان همّاً أساسياً خلف الغرافيتي لحظة رسمه، وليس الاعتراض فحسب. هؤلاء الرسامون، كانوا كمن يطبع الحاضر على البلاد بيده، لكي يصبح هذا الحاضر جزءاً من المبنى، مبنى البلد، جزءاً من تاريخ مصر وليس فقط جزءاً من ماضي البلد.
جدارٌ واحد
100 مصوّر، 100 فنان، 20 مقالة، وثلاث سنوات من عمر مصر نسّق توليفها في الكتاب كلّ من الفنانة والباحثة المصرية بسمة حمدي والناشط الثقافي والكاتب دون كارل (المعروف بـ”ستون”)، بتقديمٍ من الكاتبة المصرية – العالمية أهداف سويف. عبر ذلك كله، يلفت الكتاب العين إلى أنها باتت تحتوي أيقونات كثيرة وإن لم تعترف بعدُ بذلك: صورة وجه خالد سعيد على الجدران منفّذة بأساليب مختلفة، فصورة مينا دانيال بالأجنحة وقد أضيفت إليها لاحقاً صورة الشيخ عماد عفت بالأجنحة أيضاً، فجيكا فاتحاً يديه بـ”تي شيرت” سوبرمان..
ولكن، هناك أيقونات أخرى أيضاً يظهّرها الكتاب: هذا الجدار الذي أحاطت “الداخلية” نفسها به في شارع محمد محمود، رُسم مرةً كطريق مفتوحة، فمحته السلطة. ثم أصبح قوس قزحٍ ومُحي. راقصا باليه، ومُحيا. تجريدٌ يحيّي الشهداء، ومُحي. شاطئ بحر ومصريات يتحدثن، فمحين… جدارٌ واحد، محو واحد، ولوحات بعدد الأيام والأذهان، منها المرتبط مباشرةً بسياق الثورة، ومنها ما يحكي عن عالمٍ ترتجيه الثورة، ومنها ما يستيقظ حرّاً في ذهن الفنان/ة. وما يستيقظ حرّاً في أذهان الفنانين هو ما سينام طويلاً في صدر مصر.
مع توالي الرسوم، مع توالي الطيور المحلّقة، والفراعنة الراقصين، وغطاء علبة الكهرباء الصغيرة حيث يتلقى معتقلٌ مقيد التعذيب ولا يلين، فجدار عمارةٍ كبيرة بوجه فتى ياباني غاضب عيناه في عينيّ المارة، … تستيقظ في العين السريالية والواقعية، في آن، في كل مكان، في الزاوية المهملة الصغيرة كما في جدارية بحجم الدنيا. هكذا حصل، بفرديةٍ خالية من التوجيه وبمبادرةٍ جامعة لذاتيات كثيرة (أسبوع الغرافيتي الغاضب)، أجسامٌ زحفت إلى الجدران، والجدران اتسعت لشعبٍ من الرسامين وثق حياة شعبٍ من المواطنين، وثّق وساهم في صناعة الحاضر معاً. وإذا كان قدامى المصريين قد رسموا على جدرانهم سير الإله وكهنته والأميرات والجنود أساساً، ثم ما جاورها من قصص الناس، فإن نظرة مصريي الثورة الراهنة انطلقت أساساً من الناس، خبز الأرض، باتجاه السلطة، ممارستها، ووجوه ناسها. ولذلك، لم تكن جدرانٌ للتاريخ فحسب، بل جدران الحرية أيضاً.
لا استقر ولا زال
الغرافيتي يُمحى. بقرارٍ من السلطة أو بفعل الزمن، يُمحى. فلا هو توثيق فعليّ، ولا هو رمي للمياه في البحر. فيه مرحلةٌ من الوجود تشبه الإنسان في الحياة، حضورٌ سطحيّ وعابر لكنه محور القصّة، يصنع الدنيا. فيظهر الغرافيتي للعين، ويختفي. لا هو استقر، ولا هو زال. وبينما يخطّ الرسّام بيده الزائل الجوهريّ، تراه يمدّ يداً نحو الماضي، يستند إلى دعائمه. يستند إلى وجوه الحبيبات، من سعاد حسني إلى شادية مروراً بتحيّة وداليدا وهند رستم (هنجيبك من شرم يا سونة يا خاين). ويستند إلى أشعار، أقوال، وأعزاء، كوجه باسم يوسف بهيئة المهرج مذيلاً برباعية لصلاح جاهين: “قومتوا ليه؟ خفتوا ليه؟ لا ف إيدي سيف، ولا تحت مني فرس”. وأيضاً، لصلاح جاهين، “غمض عينيك وارقص بثقة ودلع، الدنيا هي الشابة وإنت الجدع”، بينما يظهر في الصورة ملثّم يرمي الشرطة بقنبلة غاز أتته منها لا بد أنه الجدع الذي يراقص الدنيا. أو، مثلاً، لوحةٌ بوجوه كثيرة كأنها مرسومة بقلم رصاص، وهي على مساحة جدارٍ ارتفاعه كما عرضه يتجاوزان العشرة أمتار، تقول بلسان فريديريك نيتشه: “كن حذراً عند محاسبة الوحوش لئلا تصبح واحداً منهم”.
لقد بدا جلياً أن بعض الغرافيتي استند إلى الثقافة الشعبية ليصنع دوره في الثورة الشعبية، وهو بذلك استعاد فعل الناس الذين أخرجوا من دفاترهم ما يحبونه في بلادهم وأنفسهم، وواجهوا به من منعوا الحياة عنهم. ومن هذه الذاكرة ومن أولاد حاضرها، راح قول الراهن يستمد عمقه. ولذلك، ظهرت هتافات هي في الواقع أقرب إلى الفكر الجامع منها إلى صراخ الحناجر، مثل: “عمر السجن ما غيّر فكرة، عمر القهر ما أخّر بكرا”..
بعد مراجعة ما رسمته هذه الثورة من مشاهد على مرّ صفحات الكتاب، يجد المرء نفسه واقفاً عند سطح الغرافيتي، يشهد على حالة انصهارٍ تمّت ما بين المواطن والوطن. تمّت وزالت، كوجهٍ بفم مفتوح لصرخةٍ حفرها الفنان وشعبه في صوت المدينة. تمّت وزالت وستعود، كسمات شهيدٍ لها رسمٌ يبقيها هنا، في وجه المدينة، ولو تحت طبقات الزمن.
السفير