ديمة ونوسصفحات الثقافة

جرأة الكتابة تكفي؟/ ديمة ونوس

 “… ولكن الجدة في الكتابة تتناقض مع احتراف الكتابة. الاحتراف يحيل الكتابة إلى متواليات متصلة متشابهة ويدخلها في العادية. وبذلك ينتفي الإبداع بما هو جدة وإدهاش. والكتابة كإبداع تحتاج دائماً إلى تهيّب وتردّد وخفر كأنها الكتابة الأولى دائماً. وعندما تصير عادة ينتفي إبداعها. الكتابة لا تتكرّر كاحتراف وإنما تمارس كتمرين، وكل جملة فيها فإنما هي تمرين جديد ومسألة جديدة (…) في جميع مجالات الفن نجد أن التلعثم وقلة الثقة والمعرفة جزء من الفن، فأنا أحتاج إلى الجهل بنهاية الرحلة”. غونترغراس.

تضع هذه الفقرة المهتم بالشأنين الثقافي والإبداعي، أمام تساؤلات موجعة حول مصير الكتابة بعد انطلاق الثورات العربية قبل ثلاثة أعوام. الكتابة التي فقدت جزءاً يسيراً من هيبتها وألقها بعدما غزت الصحف والمكتبات ومواقع الإنترنت كتابات تستسهل القول وإطلاق الأحكام والتحليل. غير أن جهداً أكبر بات مطلوباً من الكتّاب المكرّسين الذين عايشوا أنظمة الاستبداد وحاولوا كسر حاجز الخوف، وبعضهم أودت به كتاباته إلى المعتقل أو المنفى. الجهد هنا يحيلنا إلى فكرة الإبداع والجدّة التي تحدث عنها الكاتب الألماني الحائز نوبل 1999. الإحساس بالدهشة الأولى لدى الإمساك بالقلم أو لمس لوحة المفاتيح. اختراع كلمات وجمل وربط بعضها ببعض، التحايل على المفردات وتطويعها، اللعب على مساحة الخيال من دون الاستخفاف به. لم تعد الجرأة وحدها تكفي للإمساك بالقارئ، لتقديم بديل عن خراب يومي يعيشه. رحلت تلك الأنظمة التي كانت مواجهتها هي المعركة الأهم والأصعب، مما وضع الكاتب أمام مهمّة جديدة.

 ليس الأمر بهذه البساطة. المواطن السوري، مثلاً، عاش خلال سنتين ما عاشته شعوب أخرى على مدى سنوات طويلة. وتلك الأحداث التي تدمي القلب وتنهك الروح، تجعل من الكتابة أمراً يشبه العبث. الكلمات تفقد قدرتها على الإدهاش وسط دهشة يومية لم تتوقف منذ سنتين ونصف. ذلك اللهاث الحثيث وراء ما يحدث، يجعل الكتابة فعلاً منفصلاً عن الواقع. فإما أن تكتب وصفاً لما يحدث ولن تستطيع مهما تعمّقت به وفلفشت أفكاره، وإما أن تلتقط لحظة واحدة مما يعيشه الناس على الأرض من دمار نفسي ومادي.

 ثمة فرق كبير بين آلة القتل وآلة القمع. الكتّاب، علّمتهم السنوات الأربعين الماضية اختبار وتجريب حيل لمواجهة آلة القمع وفضحها ومحاولة تعطيلها ولو لفترة قصيرة من الزمن.

 اليوم، يجد الشعب نفسه أمام آلة قتل، لا تكفي آلاف الكتب والمقالات والمواقف لمواجهتها. مع فرق جوهري لا يمكن تجاهله. آلة القمع تلك كانت تشمل شريحة المثقفين و”النخبة” والمفكرين والفنانين، لكنها لا تشمل معظم الناس كون العمل السياسي ممنوعاً وعمل النقابات والمؤسسات معطّلاً والمبادرات الفردية أو الجماعية ممنوعة والأحزاب مغيّبة. فكان المثقف الذي يعيش في سوريا مثلاً مطالباً بالدفاع عن حقوقه كمواطن وبتوعية الغالبية العظمى المشغولة بتأمين حياتها للتعرف على حقوقها وللمطالبة بها.

اليوم، رحل ذلك المثقف وذلك المبدع وذلك الفنان وبقيت الغالبية العظمى وحيدة تواجه مصيرها مع آلة القتل. فتصبح الكلمات الموجهة من الخارج، باهتة، غير منصفة، تفتقر إلى الواقعية والمسؤولية.

 الواقع الاستثنائي هذا، فرض على الكتابة معايير جديدة.هل فقدت الرواية، مثلاً، ألقها باعتبار الانفصال عن الواقع بات أمراً مستحيلاً، مما ضيّق فسحة التخييل وفتح المجال أمام كمّ هائل من الكتابات اليومية التي تفتقر إلى الحدّ الأدنى من المعايير الأدبية، لكنها تحكي وتقول وتعبّر وتثرثر وتحتجّ وتتمرّد وكل الأفعال الأخرى التي كان المواطن محروماً منها طوال عقود؟

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى