جردة حساب… ماذا بعد الشعارات المغدورة
خيري الذهبي
الآن وبعد ثمان وأربعين سنة ومئة يوم وبضعة أيام على حركة الثامن من آذار والتي قضت على فترة الانفصال، ما بين عهد الوحدة مع مصر وعهد تسنم البعث قيادة المجتمع والدولة، كما رسخ في الدستور السوري عبر المادة الثامنة.
الآن بعد ثمان وأربعين سنة ومئة يوم وبضعة أيام على ذلك المفصل التاريخي العجيب في تاريخ سوريا، ألا يحق لنا أن نطلب جردة حساب نتساءل فيها عما قدم هذا الحزب ذو الشعارات النبيلة والتي أتفق معها بشكل كامل من الناحية النظرية، وأختلف مع تنفيذها كثيراً، مع العلم بأني لم أكن يوماً عضواً لا في حزب البعث العربي الاشتراكي ولا في أي حزب، سورياً كان أم غير سوري، فأنا مجرد مواطن عادي لا أسعى إلى منصب أو مركز قيادي، فما يهمني حقاً هم هؤلاء البسطاء حولي الذين يشكلون هذا الشعب.
ولنناقش شعارات هذا الحزب بدءاً من الوحدة….
فمن المعروف تاريخياً أن سوريا كانت دائماً الدولة الوحدوية الأولى في العالم العربي فهي قد حاولت الوحدة مع كثير من الأقطار العربية ولكن القائمين على القرار كانوا موزعين بين شهوة الحكم، وشهوة الوحدة ، فكانوا يضعون العراقيل في طريق هذه الوحدة.
ولنذكر مقالة محمد حيدر الشهيرة حزبان لا حزب واحد إبان محاولة الوحدة مع العراق.
مطلب السوريين للوحدة ليس بعجيب، فسوريا وبسب تشكيلها الجغرافي القائم على عدد من الجبال والوديان والبوادي البعيدة، وهي التي لم تحظ بنهر النيل الموحد للشعب والأرض، وهي التي لم تحظ بالسهول الكبرى المفتوحة على بعضها فتجبر أصحاب القرار على صنع الوحدة، وأنا لا أتكلم الآن عن الجمهورية العربية السورية الحالية، بل عن سوريا الطبيعية، فهذا العامل الجغرافي الممزق أدى إلى تمزق الديموغرافيا الثقافية أيضاً، ولا أريد أن أوغل في الحديث عن هذا أكثر.
وإذن ما نتيجة هذا التمزق الجغرافي، كانت النتيجة دائماً الخضوع لقانونين متنافرين دائماً…قانون دويلات المدن، وقانون الوحدة الكبرى، ولكن عبر الغريب البعيد عن صراع الضرائر، ولنذكر دويلات المدن الآرامية ودويلات المدن بعد انهيار الإمبراطورية السلجوقية، ودولة سيف الدولة الحمداني في حلب ودولة بني مرداس في اللاذقية ومحيطها، ودولة بقايا السلاجقة في دمشق الخ…
ولنذكر الدولة الكبرى الخاضعة لمصر المملوكية أو الفاطمية أو العباسية، وربما كان الاستثناء الوحيد في تاريخ سوريا في صنع دولة كبرى كانت الفترة الأموية، التي احتقن التاريخ العربي بالشتائم والكراهية لها.
هذه الشتائم والكراهية غير المفهومة والتي غطيت أحياناً بتفسيرات مذهبية، ولكن الحقيقة حسب رأيي المتواضع أن الخلاف المذهبي لم يكن السبب في هذا النفور منها، وليس ظلم الخلفاء الأمويين، فالخلفاء الفاطميون كانوا أكثر ظلماً، ولكن رفضها كان لتنطح دمشق للقيام بدور لا تستحقه، وأعني عاصمة لإمبراطورية كبرى في دمشق الضرة….يا للهول ولم يصرحوا بعداوة الضرائر فغلفوه بادّعاء الطهارة المذهبية.
قانونان
المهم أن سوريا كانت إذن خاضعة لواحدة من قانونين مشتهيين ومرفوضين، قانون التفتت إلى دويلات المدن والتي لا أتمنى لها إلا الإخفاق، وقانون الوحدة ولكن عبر الخضوع لعاصمة بعيدة ليست واحدة من دويلات المدن الشامية.
وهكذا رأينا خيبة الأقنوم البعثي الأول وخيبة إثر خيبة مع كل محاولة مخففة للاتحاد مع المحيط العربي، هذه الخيبات ضخمت الجرح الشعبي ورغبته في الهروب من الخضوع لدويلة – مدينة – ضرة إلى الحل الأكثر شراً وهو دويلات المدن مع عدم تناسي اليد الباطشة للنظام التي لم تقدم لهم مجتمع الفرح السويسري المكون من اتحاد دويلات مدن تتعايش في ديموقراطية ورغبة حقيقية في العيش المشترك، اذ اختار النظام الإخضاع القسري للمركز بديلاً عن سعادة التعايش الديموقراطي.
أما الحرية…وهو شعار البعث الثاني، فربما لم تحظ سوريا السياسية بفترة من ضياع الحرية الفردية قدر الفترة التي تسلم بها البعث المنصب الذي اختاره لنفسه، أعني قيادة المجتمع والدولة، وأنا اذكر أني حين زرت مصر للمرة الأولى بعد حوالى ثلاثين عاماً من تخرجي منها سألني الناقد الكبير فاروق عبد القادر وهو صديق قديم: كنت فين؟ دنا كنت فاكر انك هاجرت.ولم استطع أن أحدثه أني عبر عشرين سنة لم استطع مغادرة سوريا لأن الحصول على تأشيرة خروج كان يستهلك ستة أشهر ما بين موافقة الأمن وموافقة شؤون الضباط، الأمر الذي يضيع كل فرصة للمشاركة في اي مؤتمر أو ندوة أدبية.
ولم استطع أن أخبره أني كنت أستعجل الوصول إلى سن الخمسين حتى يفرج عن السماح لي بالسفر، علماً بأن مدللي الاتحاد من المقربين إلى رئيس اتحاد الكتاب ( الجهة المعنية الوحيدة بشؤون الكتاب في سوريا) كانوا يسافرون شهريا ويحصلون على تأشيرة الخروج خلال ساعات، وهذا ما قدم للعالم العربي صوراً فظيعة عن الأدب في سوريا، فالمرضي عنهم كانوا دائماً الأسوأ أدبياً.
أما الاشتراكية وهو الشعار الثالث للحزب الحاكم، فقد شهدت مع تسنم البعث القيادة في سوريا اختفاء الطبقة الوسطى اختفاء تاماً وانقسام المجتمع إلى أقلية عريضة بعض الشيء شديدة الثراء وشديدة الإسراف حتى الألف ليلية وشعب يعيش على حافة الجوع أقل أو أكثر بقليل.
ماذا حققتم
وتعالوا…الآن بعد ثمان وأربعين سنة ومئة يوم وبضعة أيام، نقم الجردة ونساءل القائمين على قيادة المجتمع والدولة: ماذا حققتم لشعبكم من هذه الشعارات، ماذا حققتم من شعاراتكم النبيلة التي جعلت الناس يتحملون ويؤمنون ويصبرون خلال ما يقارب الخمسين سنة؟.
أعتقد أن الأمر أصبح يحتاج الآن إلى فترة راحة لهذا الحزب وترك أمر إدارة الدولة والمجتمع للحزب الذي سيحصل على الأصوات الأكثر في البلاد، إلى دماء جديدة، الأمر الذي يحصل في كل بلاد الدنيا.
والشعب لن ينكر على هذا الحزب، حزب البعث..محاولته لجعل مبادئه مبادئ فاعلة في المجتمع ولذا فإن استمر في الحياة السياسية حزباً مثل بقية الأحزاب من دون تنطع للقيادة الأبدية، فربما كان هذا خيراً للحزب وللبلد، وأنا أعرف كما يعرف القائمون على الحزب أن كثيرين من أعضاء الحزب سيتخلون عنه حين يعرفون أنه لم يعد صاحب النعم والمكافآت لأعضائه، وأعتقد أن هذا خير كبير لحزب صاحب مبادئ ننتظر منه أن يكافح لنشرها في مجتمع ديموقراطي نصبو إليه جميعاً بعد حذف المادة الثامنة من الدستور السوري.
السفير