صفحات العالم

جرينوار السوري ..عن محاكم التفتيش والتعذيب للسوريين


مروان العياصرة

أساطير الموت، هي الأكثر خلودا من أي أساطير أخرى، ودائما في كل عصر، يعاد إنتاج أحد أبطال هذا النموذج من مخترعي الموت الأسطوري، تماما كما فعل البابا جرينوار التاسع حين أنشأ في أوائل القرن الثالث عشر عام 1233 محاكم التفتيش، لتخلق الموت بما لا يشبه أي موت آخر، فالمهرطقون الذين خالفوا التعاليم وانحرفوا عن العقيدة الرسمية كانوا يساقون بالشبهة أو الوشاية إلى محاكم التفتيش التي ضاقت بها البلاد والأمصار..

التهمة مهياة لكل أحد، والاعتراف بالجريمة التي ربما لم تُقترف، أو الذنب الذي لم يرتكب حتمي، وليس سوى التوبة من طريق، والذين لم يتوبوا كانت لأجسادهم أن تنال نصيبها من الموت البطيء، بالمحرقة أو بأي بطئ كان.

جرينوار السوري الجديد، الذي انشأ محاكم التفتيش والتعذيب للسوريين تجاوز منحة التوبة، فكل الشعب السوري مدان، والتوبة لا تعفي أحدا من العذاب أو الموت، لهذا تبدو كلمة ( لا عودة للوراء )، أكثر تفسيرا وتوضيحا، لأن خلف أبواب هذا الوراء ابواب محاكم التفتيش التي لا تهب التوبة ولا تقبل بالعفو عما سلف، والذين يبرأون إلى الأسد بخطيئتهم إنما يقرأون شهادة موتهم، فكيف لهذا الشعب أن يعود للوراء لتغلق عليهم أبواب الجحيم، وأبواب محاكم التفتيش التي تجاوزت بضراوتها محاكم جرينوار، والذي يفسر هذه الإرادة للشعب السوري على مواصلة طريق الموت هو أنه ليس لهم ما يخسرونه بعد أربعة عقود ونيف من القمع والاستبداد وتغييب الحرية والسطو على كرامة الناس، حتى الموت ليس خسارة ما دام الموت الحاضر يصنع مستقبلا مختلفا.

الذي يحدث في سوريا أكبر من مجرد مواجهة متظاهرين، وأعنف مما حدث في ليبيا، إنها حرب، والذين قالوا إن بشار الاسد يذهب بسوريا إلى الحرب تأخروا، فالحرب وقعت والموت بالمجان على أرصفة الحارات وفي أزقة المدن وفي المدارس التي تحولت إلى سجون ومحاكم تفتيش ومقاصل كبيرة.

سوريا والسوريون بين مؤامرتين، الاولى ما لفقها النظام باسم المؤامرة الخارجية، والثانية المؤامرة الداخلية التي لفقها أيضا النظام باسم الإرهاب والمجموعات الإرهابية، وكأن قتل الآلاف ليس مؤامرة دموية، او ان تحويل سوريا إلى سجن مغلق ليس مؤامرة، وكان التعذيب واستهداف الأطفال واغتصاب النساء، واستخدام الشيوخ والعجزة رهائن وأدوات ضغط ليست مؤامرة.

على أقل تقدير كي نفهم ان كل الذي يحدث في سوريا مؤامرة عليها كان حري بهذا ( الأسد ) الذي ناضل عقودا بأفكار القوميه والعروبية ضد الليبرالية المتوحشة أن يناضل أيضا بمركزه كرئيس من أجل أن يستبقي بعض الدم للسوريين ليعيشوا به ويدافعوا عن أفكار القومية العربية المزعومة في سوريا.

ماذا لو كان بشار الاسد صادقا في عروبته وقوميته وأعلن قبل كل هذا الدم المسفوح أنه وانتصارا للشعب ولسيادة سوريا وقوميتها وبعثيتها يعلن تنحيه عن السلطة، وتشكيل مجلس وطني للحكم مثلا حينها سنقول بملء أفواهنا ان سنوات الصدح بالقويمة لم تكن مزورة، وأن النضالات السياسية لم تكن ديكورات لحواشي النظام. فات الأوان.. والدم فضح كل شيء، وسرعة جريانه تعلن انه ليس كافيا إعلان التضامن مع سوريا، إن هذا يشبه التضامن مع المتوفى واهله بإكليل من الزهور يوضع على قبره، وكأننا بمثل هذا المعنى التضامني نقول للضحية نحن متضامنون معك، سنقيم لك المسيرات والمظاهرات ونقرأ الفاتحة على الروح أمام السفارات.. أيها الشعب السوري موتوا بهدوء.. فنحن العرب وهذا العالم الذي يعلن الشجب والاستنكار متضامنون معكم للحد الذي تبح به أصواتنا.. الذي يفرض كل هذه القسوة في سوريا ليس النظام وحده، بما تتخلَّق أمامه النهايات المأساوية لنظامه، بل إن ثمة لاعب آخر، يشكل النظام الإيراني عموده الفقري، من حيث ما يواجهه في داخله من ارتفاع منسوب النقد والتنديد ومجاوزة قدسية الدولة الدينية، وما سيواجهه من خارجه من هدر لمصالحه وضعف لمكانته إذا ما سقط النظام السوري، مما يغلق الباب السوري الجنوبي لإيران.. ويفتح الباب السوري الشمالي لتركيا.

هذا الذي يختلف فيه الراهن السوري عن أي راهن عربي آخر على صعيد الثورات، شعب واحد يواجه عسكرة دولتين وشبه دوله أخرى، فلا غروا إذن ان يكون كل هذا الدم والقتل، ولا غروا ان تكون الحرب في سوريا مفتاح لاشتعال حرائق أخرى.

إذا كانت محاكم التفتيش علامة على العصور الوسطى، وجرينوار التاسع علامة على أسطرة صناعة الموت، فإن محاكم سوريا التي تنتج الموت علامة على العصر العربي الراهن، وجرينوار سوريا الذي تهرطق مريدوه وألهوه وجعلوه في مقام الربوبية سيكون علامة على عصر الرؤساء المخلوعين، وسأغامر بالقول بأنه بعد عقود من الآن سنبقى نذكر الربيع العربي عبر عنوان سوريا أولا، لأنه ما زال في جعبة سوريا الكثير من الموت وفائض من الدم.

‘ كاتب أردني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى