جغرافية المبادئ/ ممدوح عزام
اعتاد تاريخ الأفكار على التباهي بوجود المفكّرين الذين يعترضون على الظلم والجريمة والحروب وغيرها من الأفعال التي تسبّب للبشرية أعراضاً مرضية خطيرة. ثمّة من يواجهنا على الدوام بـإميل زولا الذي رفض أن يدان الضابط دريفوس وهو بريء، وقد أشاد الكاتب الروائي مجداً موازياً لمجده في كتابة الرواية من خلال الدفاع عن فرد واحد تعرّض للعدوان على كرامته الإنسانية.
وكان افتخار التاريخ بهذا الموقف محطّ إعجاب المئات ممن درسوا حرية الفكر. ولا تزال الثقافات الإنسانية تتغنّى بموقف زولا الشجاع الذي رفض المشي مطأطئاً وراء نزعة العنصرية المتعصّبة.
رجل واحد إذن تمّت تبرئته من التهمة الظالمة، يمكن أن يصنع مجداً لروائي لا يحتاج المجد. عاشت العدالة بفضل التدخل الشجاع لإميل زولا، وسوف يعيش تاريخ الأفكار معتزّاً بهذا المنجز.
سبق لسقراط منذ زمن اليونان أن تجرّع السم ولم يقبل أن يتراجع عن أفكاره، وقُتل الحلّاج والسهروردي بسبب أفكارهما، وثمة من يفخر بـ ألبير كامو الذي تصدّى لقضايا العصر، ويمكن لمن شاء أن يجمع أسماء العشرات من الكتاب والفنانين والمفكّرين الذين رفعوا الصوت في وجه الظلم أو الاستبداد. ويمكن التذكير بفيلسوف مثل برتراند راسل كمثال على دور المثقف في مناهضة الحروب.
ولكن ما الذي يحدث اليوم؟ تضيع أصواتنا، التي تنادي بالكفّ عن قتل المدنيين السوريين الأبرياء، هباءً. ويدافع كتّاب، باسم المبادئ الإنسانية، عن سحق الإنسان. كأن ضمان حياة إنسان في حارة كذا (إذ بتنا ندافع عن الحياة في الشوارع، أو نهاجم الحياة في الحارات والأحياء السكنية)، يكفي التاريخ والحاضر والمستقبل للقول، إن المثقف يدافع عن القيم. إذ قد رضي بعض البشر أن تكون القيم الإنسانية والمبادئ مقسّمة بحسب المناطق الجغرافية، والغريب أن تكون هذه الحال هي مما اشتكى منه جون لوك حرفياً حين تحدّث عن اختلاف المذاهب وقال: “إن الذين وُلدوا في هذه الناحية سيذهبون إلى السماء في حين قضي على من ولدوا في الناحية الأخرى أن يذهبوا إلى جهنم”. وبهذه الطريقة “يتقرّر مصير الإنسان ونجاته”، والكلام لجون لوك أيضاً، “حسب البقعة الجغرافية التي اتفق ميلاده فيها”.
يسكت مثقّفو العالم كلّه عن الحرب الدائرة في منطقتنا، كأنّ الناس هنا مجرّد زيادات مخلوقة لتجريب الأسلحة، أو لتقليب الأفكار. وتستغل الأفكار هنا بحسب ما يشاء الكاتب، لا بحسب ما تقوله هي. ومن المفارقات أن يستخدم كتّاب من طرفين متنازعين ومتقاتلين إلى حدود التصفية الجسدية، الأفكار ذاتها لنفي الآخر ومحوه. خذوا مسألة التنوير مثلاً، والعقل، والعلمانية، والحداثة وغيرها من المفاهيم المعاصرة، وتأملوا ما يحدث بين الكتاب في شأنها، والمفاجأة هي أن كاتبين متباغضين يدّعي كل منهما أن التنوير خلق لأجله، وأن العقل من بنات أفكاره، وأن الحداثة ابنة عمّه اللزم. ويطلب أحد الكتّاب الموالين للنظام السوري من جميع الكتّاب الذين يعارضون النظام التوبة (حرفياً لا مجازياً) كي يُقبلوا من جديد في عداد المواطنة، فيما هو يتحدّث عن التنوير.
العربي الجديد