جمعة ابن بلدتنا، البار
دلور ميقري
” نصف طول القزم موجود تحت الأرض “. هذا القولُ، المَأثور، يُحيل إلى الاعتقاد الشائع عند الخلق، عن مكر وخبث أصحاب القامة القصيرة. ولقد بالغ ولاة الشام في الإيمان بذلك المعتقد، حدّ أنهم أمروا انكشارييهم باحتجاز كلّ شخص قصير القامة خلال يوم الجمعة، تحديداً: لأنه في هذا اليوم، المبارك، يستغلّ سفلة القوم العطلة لكي يتفرغوا لنشر الموبقات والشرور. وبالرغم من الحقيقة، البديهية، المُبرهنة على كون أولئك السفلة من مختلف الأشكال والأطوال والأعمار وو.. إلا أنّ ذلك لم يشفع لأصحابنا؛ من المبتلين بضآلة الطول.
في بلدة صغيرة، منسية، من أقصى شمال الولاية الشامية، كان أحد ساكنيها يُعاني مثل غيره من قانون ” الجمعة “، المَوْصوف. ” عبد الباسط ” هذا، ولأنه كان يجد في نفسه مؤهلاتٍ لا تقلّ عما يملكه أصحاب القامة المناسبة، المَحظوظة، فإنه فكّرَ ذات يوم مَكروباً: ” إذا كان ذلك القانون، الجائر، لا يفرّق بين الإنسان الصالح والإنسان السيء؛ فلا بأس، إذن، من أن يضرُبَ المرءُ صَفحاً عن أيّ اعتبار، أخلاقيّ “. عندئذٍ، تهيأ من فوره للإنتقال إلى مركز الولاية، بعدما اقتنع بأن بلدة صغيرة ونائية ليست هيَ المكان الملائم لتحقيق طموحاته. ولكن، ماذا كان نوع تلك الطموحات؟.. هذا الأمرُ، على أغلب تقدير، لم يكُ يهمّ راوي الحكاية.
***
قلنا، أنّ الرّجلَ استقرّ ثمّة في الشام الشريف. وبما أنّ المؤهلات، في آخر المطاف، هيَ شهادة علمية موثوق فيها وليست فطرة، حَسْب؛ فلا غرو أن يضع ” عبد الباسط ” نفسه رهن أولئك العلماء، المَشهود لهم بغزارة المعرفة. وكونه من سلالة ” سادة “، فقد سهّل ذلك عليه أن ينال ثقة أساتذته. ومن النافل التنويه، بأنّ ذلك الانتساب، السلاليّ، لم يَعْفِهِ هناك أيضاً من ضريبة ” الجمعة “، الجائرة. بضعة أعوام، على الأثر، ثمّ قرّرَ صاحبنا، المَلول، العودة إلى بلدته الأولى لكي يَعرفَ الدنيا، وفي آن واحد، يُعرّف أهاليها شيئاً مما اكتسبه من علم ومعرفة وأدب و فلسفة.
ما أن حط ” عبد الباسط ” رحله، بعدما طال الفراق عن الأهل والقوم، حتى رأى نفسه في المقهى. مكانُ التسلية هذا، الحافل، المُدار من لدن أحد أقاربه، كان يقوم على يسار نهر البلدة، بمقابل آخر يقع على يمينه ويملكه شخص من عشيرة معادية لعشيرتهم. هناك، إذن، سرعان ما أعاد المغتربُ علاقاته بمعظم روّاد المقهى، وفي المقابل، خرّبَ صلته بمديره. هذا الأخير، صارَ يُراقب قلقاً، مَهموماً، تناقص زبائنه مذ حلول قريبه ذاك، العائد من الدراسة. فما مَضى عهدٌ طويل، حتى أفاق أهالي البلدة على نداء مؤذن المسجد، الوحيد، يَنعي فيه صاحب ذلك المقهى، اليساريّ الجهة. ولكن استلام ” عبد الباسط ” للإدارة، عقب وفاة قريبه، لم يَحُل دون تناقص الروّاد. مع افلاس المقهى، أخيراً، قرّرَ مديرُهُ أن الوقتَ آن لكي يُجرّبَ علومه ومعارفه في طريق آخر، مختلفٍ تماماً عن الأول: ” لدينا جامع واحدٌ، لحسن الحظ، هنا في البلدة. وبما أنني من سلالة السادة، فلا مَراء في حقي بإدارته بدلاً عن ذلك الشيخ الهرم؛ الذي لا يعرف أحدٌ مصدَرَ قرعة أبيه “، قالَ يُحدّث نفسه بكثير من الرضا.
***
بعد عام ونيّف، عندما طرِدَ ” عبدُ الباسط ” من وظيفته في المسجد، فإنه ما عتمَ أن وَجَدَ نفسه مَنبوذاً من الجميع: ” انظر، هو ذا دَعيّ السادة قادمٌ.. “، يخاطبُ أحدهم جارَهُ، مومئاً برأسه إلى ناحية الطريق، فيردّ هذا بالقول ” المنافق، الملحد.. بقيَ يُؤمّ الصلاة فينا أكثر من سنة، ودونما أن يتوضأ مرّة قط “. وبما أن أمورَ الدّعي، المَغضوب، بقيتْ على ذلك المنوال، فإنه لزمَ منزله مُحبَطاً وتعِسَاً. غير أنّ فكرة، أكثر جدّة، راودت ذهنه ذات يوم فحقّ لها أن تنعِشَ آماله: ” في العادة، فإنّ علماء الغرب الاسلامي وصوفييه، من أمثال العظيم ابن عربي، هم من يهاجرون إلى البلاد الشامية ويستقرون فيها. وإذن، لِمَ لا أخالف القاعدة، فأكون أولَ عالم، مَشرقيّ، يهاجر إلى تلك الأقاصي كي يَنقل معارفه لأهاليها..؟ “.
آه.. حتى ثمّة، في مغارب الأرض، الاسلامية، فإنّ قانون ” الجمعة “، المَنحوس، عليه كان أن يلاحقَ صاحبُنا؛ دَعيّ السادة. فإنّ ولاية برقة، الليبية، كما هوَ معروف، كان على رأسها والٍ محليّ من صنيعة آل عثمان. إلا أنّ الوالي، كان فوق ذلك شبهَ مَجنونٍ ويتميّز بكراهيته الشديدة للفرنجة، وخصوصاً من جيرانه اللدودين، الصقالبة والبنادقة. يُقال، في هذا الشأن، أنّ معاداة أولئك الكفار صادفتْ هوىً في نفس ” عبد الباسط “. ويبدو أنه أشادَ، في إحدى حواشيه، بعبقرية والي البلاد الليبية؛ الذي أمرَ ذات مرّة، و كَيْداً بالتجار الفرنجة الجشعين، أن يقوم بزراعة المعكرونة في الولاية بدلاً عن استيرادها منهم. ولكن، ما لم يكُ يخطر ببال عالمنا، المُتغرّب، أنه سيَجدُ نفسه ذات يوم في تلك القارّة، الكافرَة.
***
ما أن استقرّ ” عبد الباسط ” في أحد الأقاليم، الافرنجية، حتى فاض فيه السرور لمعرفة أنّ شيمَة مواطنيه لا تعرف ذلك التقليد العثمانيّ، البغيض؛ المُبيح اعتقال أبناء الناس في يوم الجمعة لمجرّد كونهم قصار القامة. بيْدَ أنّ حُسْن الفأل، ما أسرع أن حادَ إلى مُنقلبِهِ، حينما عرَفَ المغتربُ حقيقة أخرى، وهيَ أنه ذهبَ ليبيع الماء في حارَة سقائين: ” اللعنة. ما فائدة دراساتي العلمية، التي جهدتُ أعواماً بتحصيلها، لدى قومٍ ليسَ فيهم جاهلٌ واحد..؟ “. ولكن ما فاقمَ من دهشته، من ناحية أخرى، هوَ سعيُ بعض أولئك الكفار لمعرفة لغات أهل المسلمين وآدابهم وأعرافهم. على ذلك، ما لبثت أموره المعيشية أن تحسنت بشكل لافت، خاصّة وأن أساتذة اللغة العربية كانوا قلة ولا غرو في هذه البلاد. ولأنه كان قد سمع كثيراً باسم ” لندرة “، فلم يفوّت سانحة إحدى عطلات الصيف لكي يزورها. ثمّة، شاء المَقدورُ أن يغيّر حياته عندما التقى بأحد وجوه بلده؛ المَدعو ” بابانوني “. هذا، كان معروفاً من قبل بعدائه لوالي البلاد الشامية، والذي بادله البغضاء واضطره للهرب إلى الخارج. ان دعوة ” ابن وهّاب “، المتشددة في أمور العقيدة، كانت ترى في ولاة أمور البلاد الاسلامية ( وعلى رأسهم الخليفة المعظم، والعياذ بالله )، ملاحدة ملاعين يتوجّب خلعهم لإقامة حدّ الله على الأرض.
” أخي، أبشرّك بأنّ سلطاننا المُعظم، الجديد، قد قرّر خلع حاكم ولايتنا الشامية، الباغي “، قال له ذلك الرّجل، المُسن نوعاً، صاحب اللحية البيضاء المُضفية لمسة من الاشراق على سحنته. وبما أنّ ” عبد الباسط “، كما سبق القول، كان متهماً بإقامة الصلاة دونما وضوء، فلم يَجِدَ حاجةٍ لسؤال هذا الرّجل عن مَيْلِهِ الوديّ، المُفاجيء، لمقام جلالة السلطان. وعلى أيّ حال، فما مضى وقتٌ ليس بالطويل على زيارته ” لندرة “، حتى تسلّم رسالة من أخيه ” بابانوني ” تدعوه لموافاته إلى تخت السلطنة: نحن أسسنا هنا، في الآستانة العليّة، مجلساً من وجهاء البلاد الشامية، المعارضين للوالي الغشوم. ونظراً لكونك محلّ ثقة أهالي بلدتك ومحط محبتهم، فقد قررنا ضمك للمجلس “. عند وصوله لعاصمة الاسلام، المظفرة، لاحظ ” عبد الباسط ” أن موقع المبنى، الذي يضمّ المجلس ذاك، كان محاطاً بمقهيَيْن؛ أحدهما إلى يساره والآخر إلى يمينه. عام، على الأثر، على إقامة صاحبنا المتواصلة في الآستانة، وكان والي البلاد الشامية، الظالم، ما يفتأ متشبثاً بكرسيه. إلا أنّ أهالي تلك البلدة البعيدة، المنسية، الكائنة في أقصى الشمال، كانوا قد جعلوا من يوم الجمعة، التالي، عيداً للاحتفال بتنصيب ابنهم البار، ” عبد الباسط “، على رأس المجلس الذي عليه واجب الاطاحة بذلك الوالي.