صفحات الثقافة

جنود سالامينا لخافيير سيركاس.. تخيل الواقع

 

اسكندر حبش

عن منشورات “نوفل” (“أنطوان – هاشيت”) صدرت حديثاً الترجمة العربية لرواية الكاتب الإسباني خافيير سيركاس “جنود سالامينا” التي عرفت نجاحاً كبيراً يوم صدورها العام 2001، والتي تحولت في العام التالي إلى فيلم سينمائي عرف نجاحاً آخر بدوره. هنا قراءة لها.

منذ العام 1939 يعطينا تاريخ اسبانيا انطباعاً بأنه تاريخ ثابت، لا يتحرك، وفق المفهوم البروديلي (نسبة إلى بروديل). إذ بعد اختلاجات الحرب الأهلية العنيفة في العام 1936 التي أفضت في ما بعد إلى كتابة مئات الأعمال الأدبية والفنية، حلّ فوق تلك البلاد “زمن الصمت” (إذا استعرنا عنوان الرواية الرائعة والكبيرة التي كتبها لويس مارتن سانتوس): إنه زمن الخوف حيث كمنت الأعجوبة في أن المرء استطاع أن يعيش ويتخطى هذه المأساة التي كانت تمنع كل عمل غير موجه للحفاظ على وجود هذا البلد المنهك.

بعد موت فرانكو، تطلبت الفترة الانتقالية نحو الديموقراطية من الجميع، أن يقوموا بمحو هذا الماضي محواً كاملا. بيد أن الصُدف، تشاء في العام 2001، أن تصدر روايتان في الوقت نفسه، تستعيدان تلك الفترة لتكسرا بذلك زمن الصمت هذا، الذي أرخى حباله بقوة فوق العديد من التفاصيل. الرواية الأولى “لبطريرك” الروائيين الإسبان ميغيل ديليبيس (رحل عن الوجود في شهر آذار من العام 2010) بعنوان “قماشة الأبطال”، والثانية بعنوان “جنود سالامينا” للكاتب خافيير سيركاس (كان في الأربعين من عمره حين نشر روايته هذه). بيد أنه، على الرغم من أن كتاب سيركاس يندرج تحت خانة “الرواية”، إلا أن نصه هذا يمزج ما بين الأنواع الأدبية، إذ إنه ينتقل من السرد الأكثر قدرة على الأَسر حتى أقصى درجات المتخيل الأكثر إيهاماً وإبهاماً. إذ لا بدّ من أن نجد أنفسنا أمام مجموعة من الأسئلة: هل نحن أمام سرد تاريخي، مثلما نقرأ في بداية الكتاب؟ هل نحن أمام رواية “غير متخيَّلة” بحسب تعبير الكاتب الأميركي الراحل ترومان كابوت؟ أم هل نحن أمام بحث أم تحقيق صحافي ينحو إلى الكتابة الروائية؟ كلّ هذه الأسئلة تبدو أسئلة مشروعة، إلا أن الكاتب يطلق على كتابه تسمية “سرد واقعي”، من هنا ربما توجب علينا تصديق ذلك، إلا إذا وجدنا إمكانية لتسمية أخرى.

حين صدرت رواية “جنود سالامينا” العام 2001 في اسبانيا، وجد الكاتب البيروفي ماريو بارغاس يوسا – الذي يعتقد أن الأدب الكبير ليس في الواقع إلا “مقداراً كبيراً من الحقيقة أصابته جرعة عظيمة من الكذب” – في مقالة كتبها في صحيفة “الباييس” الإسبانية (1) أنّ الكتاب ليس سوى رائعة أدبية. ويتابع كلامه مذكراً بالقول إن سيركاس نفسه اعترف بأنه لم يكتب رواية بل روى “قصة حقيقية” (2). كلام الروائي البيروفي يبدو أساسياً في تناوله كتاب زميله الإسباني الشاب، لأننا على مرّ الصفحات نجد أن البعد التاريخي للكتاب يتلاشى لصالح البعد الروائي المتزايد. فسيركاس يتحدث إلينا عن قصة أخرى غير القصة الأساسية، التاريخية، بل يبني “شيئاً” أدبياً صافياً لا يرغب في تقديم الحساب لغير المتخيل. يقول الكاتب ذلك بصراحة: “إن العمل انطلاقاً من أحداث واقعية لا يمنع أبداً استعمال الخيال. بل على العكس من ذلك تماماً. لم أكتب تحقيقاً صحافياً، بل كتبت رواية تنطلق من وقائع صحيحة. إن الآلية الوحيدة القابلة لأن تصل إلى الحقيقة، برأيي، هي آلية الخيال” (4).

اقتراح سيركاس لهذا المقترب الروائي كان سيعجب بدون شك، الكاتب الأميركي إرنست همنغواي الذي غالبا ما ردد جملة كيبلينغ التالية (التي يعتبرها البعض جملة مؤسسة لنوع من الأدب): “تدبروا أولا وقائعكم، من ثم شوهوها بقدر ما ترغبون”. من هنا، ثمة سؤال أول يطرح نفسه: ما هي الواقعة التي شكلت نقطة البداية لسيركاس، في روايته هذه؟

في “جنود سالامينا”، نحن فعلا أمام “مأثرة” حقيقية: يضع خافيير سيركاس، فوق مجرى الأحداث، شخصاً آخر يدعى خافيير سيركاس، يعمل كصحافي، يشعر بنقص ما، إذ انه يحاول أن يتخلى عن مهنته هذه، عن كسب قوته، كي يخصص جلّ وقته لكتابة الروايات. بانتظار ذلك، يطلب منه أن يكتب مقالة حول موت الشاعر الجمهوري أنطونيو ماتشادو، العام 1939، في “كوليور”.

يلاحظ سيركاس الحقيقي أنه في اللحظة التي انطفأ فيها الشاعر أنطونيو ماتشادو في فرنسا، كانت هناك، وإلى الجانب الآخر من الحدود، واقعة “معزيّة” بعض الشيء: إذ إن رفاييل سانشيز مازاس (1894 – 1966)، المُنظر الأيديولوجي لليمين وأحد مؤسسي الكتائب الإسبانية وأحد الوجوه المنسيّة للأدب الإسباني، كاد يقتل في إقليم كاتالونيا من قبل المجموعات الجمهورية التي كانت تستقل درب الهروب نحو فرنسا. كان مازاس أحد المسؤولين عن حرب “الأخوة” هذه. حتى إن شعره الوطني تبدى أكثر مسؤولية عن انتصار السلاح الفرانكوي من كلّ الأعمال العسكرية الرعناء “لجنرال القرن التاسع عشر المدعو فرانشيسكو فرانكو”.

إذاً، نجا رفاييل سانشيز مازاس من الموت. نجا مرتين في شهر نيسان من العام 1939. المرة الأولى، بأعجوبة (بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى) من كتيبة إعدام، والثانية حين أسره احد الجنود الجمهوريين ويدعى أنطوني ميلاريس الذي عاد وأطلق سراحه سالماً.

في هذا القسم، وانطلاقاً من وصف هذه الواقعة، نجد أن سيركاس قد غيّر وجهة النظر التي يصوب عبرها رؤيته: إذ أنها تتجه نحو هذه الشخصية، التي هي أيضاً أبو الروائي التقدمي الكبير رفاييل سانشيز فيرلوزيو، الذي يصف له مشهد هروب والده: لقد اختبأ والده داخل إحدى الحفر، كان يستمع إلى الكلاب وهي تنبح، كما إلى رجال الميليشيا الجمهوريين وطلقاتهم. وفي لحظة معينة، وبينما كان مسمراً تحت كومة من النبات، يسمع خلفه تقصّف الأغصان، فيستدير ويرى أحد الجنود الجمهوريين يصوب بندقيته نحوه، فينظر إليه عدة لحظات ومن دون أن يبعد عنه عينيه يقول لقائده “لا أحد هنا”، قبل أن يبتعد عنه بنصف استدارة.

في هذه اللحظة يذكر الصحافي المحقق الشاعر جيل دو بيدما الذي يقول في إحدى قصائده: “من كل قصص التاريخ/ أتعس قصة من دون شك هي قصة اسبانيا/ لأنها تنتهي بشكل سيئ”. هل فعلا انتهت بشكل سيئ؟ يتساءل خافيير سيركاس (الحقيقي أم المزيف؟). إزاء ذلك تتملكه رغبة شديدة في معرفة هذا الميليشياوي الذي وهب الحياة لعدوه مرة أخرى، مثلما رغب في معرفة هذا الشعور الذي انتابهما حين نظرا إلى بعضهما البعض. ما يهم سيركاس أيضاً هو هذه الفترة الأخيرة التي اعتزل فيها هذا البطل المضاد والذي عُين وزيراً في أول حكومة بعد انتصار فرانكو والذي جُرد من منصبه بعد فترة، ليعتزل بعدها العمل السياسي المباشر، بعد أن يعتبر انه نجح في أن يزرع في قلب اسبانيا هذه السياسة التي عمل طويلا من أجلها ليقضي سنواته العشرين الأخيرة في الكتابة وفي تصفية الميراث العائلي ليصرفه على لهوه.

النظرة الإضافية

حائراً أمام هذه السنوات الثلاث التي قضاها مازاس في الحرب، يُقرر سيركاس ذات يوم أن الكتاب الذي سيكتبه لن يكون رواية بل سرد ذو لحمة ترتكز على الواقع وعلى شخصيات حقيقية. لذلك يجد أن هذه النظرة الإضافية قد تحمل بعض القطع الإضافية الموضحة للغز الحرب الاسبانية، لإشكالية البطل كما لإشكالية الهويتين: الهوية الشخصية والهوية الوطنية. من هنا ينطلق للبحث عن هذا الجندي المجهول الذي يمثل بنظره النبل المطلق، كي يجد في النهاية أثره في دار للعجزة في مدينة ديجون الفرنسية.

هذا اللقاء الأخير الذي يأتي في الصفحات الأخيرة يضعنا أمام مقاطع رائعة، تقدم تقريراً عن هذا الحوار الأخير لهذا التحقيق. لقاء يروى عبر صيغة الغائب ما ينجح في إضافة ازدواجية أخرى إذ يكتشف الراوي إحدى أفكار ماركس: “الرجال يصنعون التاريخ لكنهم لا يعرفون التاريخ الذي يصنعونه”، فالعجوز يرفض أن يجسد وحده كلّ نبل رفاقه المجهولين الذين اختفوا ورحلوا. كل ما يفعله تذكُّر الحرب بألم، لكنه تذكر بعيد عن كلّ “مانوية”.

نحن إذاً أمام رواية تقع في ثلاثة أقسام، الأول يسجل قصة الشفقة هذه التي تمنع الجندي الجمهوري من قتل عدوه، أما الثاني فيتحدث فيه الكاتب عن رحلته لاكتشاف هذا الوزير الإيديولوجي والمنظّر، في حين يكشف لنا الثالث عن قصة هذا العجوز النبيل المنسي.

ومع ذلك، هل نستطيع الحديث عن رواية تاريخية؟ كلا يقول لنا سيركاس، الذي يجد أن الرواية “ساهمت دائماً في سبر أغوار التاريخ. لكن في هذه الحالة المحددة، علينا ألا ننسى أن هذا الماضي القريب مليء بالضباب وبالنسيان الاختياري المقصود. بالتأكيد، إن ذلك ضروري، لكن الثمن الذي علينا أن ندفعه يحمل اسماً: “العيّ”. إن رفضنا محاولة فهم ماضينا فإننا لن نفهم أبداً ما نحن عليه”. من هنا، ثمة سؤال آخر يطرح نفسه: ما هي حقيقة القصة؟ لنعد قليلا إلى أصل الكلمات. الكلمة الفرنسية للقصة هي Histoire وتأتي من اللاتينية Historia التي تنحدر بدورها من الإغريقية Historiari والتي تفيد في الوقت عينه: البحث والمعرفة والسرد. كل شيء موجود إذاً في هذه الكلمة، في معناها! لا يقترح علينا هيرودوت أي شيء آخر. لذلك يعود سيركاس إلى الأصل، إلى أن القصة هي متخيل وواقع، أيّ أنه يدبر وقائعه ومن ثم يشوهها في ما بعد، يلائمها في ما بينها، يعيد اختراعها مثلما يعيد كتابتها. في أي حال، نجد أخيل، في مسرحه مثله مثل هيرودوت وهما يخلدان شجاعة حفنة من الجنود الإغريق الذين سحقوا جيش الفرس بأسره في العام 480 قبل الميلاد، في مكان يدعى… سالامينا. نحن بذلك أمام مرجع واضح وبديهي، لكن بشكل عكسي: إن جنود سالامينا في الحرب الأهلية الإسبانية هم الذين فقدوا الحرب.

إذاً، نجد أن سيركاس يتحدث عن الحرب الاسبانية بشكل خاص، ولكنه يتحدث أيضاً عن الحروب كلّها بشكل عام، وبكلّ ما تحمله من مواكب بطولة وقسوة، كما تحمل من أسئلة كبرى مرتبطة بالأخلاق، بالخير والشرّ. كما يتحدث أيضاً، وهذا ما يشكل نقطة القوة في كتابه عن اسبانيا الراهنة. إزاء هذه النقطة لم يتوقف عن الترداد، في مختلف المقابلات الصحافية التي أجريت معه بالقول: “إن اسبانيا رفضت دوماً أن تتواجه مع ماضيها”. من هنا يبدو الكتاب وكأنه يحاول أن يقوم بذلك لكن من دون استدارات “عواطفية”. إذ يظن عدد كبير من الأسبان أن الحرب الأهلية الاسبانية لم تعد تشكل جزءا من الواقع الاسباني الراهن. ربما كانوا على خطأ كبير إذ لربما تكون كامنة خلف أشياء عديدة، ولربما تكون محجوبة تحت ألف قناع إلا أنها لا تزال حاضرة بشكل قوي.

حدث عائلي

في حوار أجري معه العام 2001 قال الكاتب الاسباني إدواردو مندوسا، معلقاً على كتاب سيركاس، إن زميله يرى في الحرب الأهلية حدثاً تاريخياً وليس حدثاً عائلياً، بمثابة شيء من الماضي: “إنه أمر أساسي. يتحدث عنها كما لو انه يتحدث عن اجتياح اسبانيا من قبل جيوش نابليون!”.

بيد أن قراءة “جنود سالامينا” تجعلنا نتيقن من أن الحرب الاسبانية لم تكن واقعة تاريخية بل أنها تصبح عند الكاتب بمثابة شيء متخيل. ففي “تمرينه” هذا على التأمل فيها، يذهب خافيير سيركاس إلى أبعد مما يذهب إليه غالدوس في كتابه “حلقات وطنية” أو أيضاً مما يذهب إليه باروخا في كتابه “يوميات رجل حركة”، أو حتى فال إنكلان في “إيبيريا القاسية”. التاريخ هنا ليس سوى محترف تتنقل في داخله الشخصيات الواقعية والخيالية على حدّ سواء. ففي عملية تبدل مدهش للحالة نجد أن ما يهمنا ويثير انتباهنا ليس سانشيز ماخاس بل هو أنطوني ميراليس، الجريح، المهزوم الذي يجد نفسه في أحد مخيمات اللاجئين الهاربين بالقرب من “أرخيليس” وهم اللاجئون الذين سببوا عاراً لفرنسا في ما مضى على حدود منطقة النورماندي، قبل أن ينتقلوا إلى باريس ومن ثم إلى ستراسبورغ، قبل أن ينفجر لغم ألماني ويشوههم. يشكل أنطوني ميراليس البطل الحقيقي لهذا الكتاب، إنه بطل الحروب كلها، ذلك البطل الذي لا يتحدث عنه أحد، والذي لا يبقى من ذكراه أيّ شيء في الوعي الجماعي. لم يعرف أنطوني ميراليس من الحرب إلا الجوع والرتابة والتعايش اليومي القريب من الموت. لذلك علينا ألا نحدثه مطلقاً عن الأوسمة التي لم ينلها، ولا عن الإستراتيجيات، إذ أن الحرب بالنسبة إليه لا تملك أي شيء ملحمي ولا تتشح بأي وشاح من الفروسية. هذا هو الدرس الكبير الذي علينا أن نتعلمه من الكتاب: إلى أين تستطيع أن تقودنا الحماقة وعبثية الإنسان؟

من خلال حديثه عن الماضي، يحدثنا سيركاس عن الحاضر، عن هؤلاء الأطفال الذين يطرحون على أهلهم العديد من الأسئلة الخاصة بذلك التاريخ “المجيد”. لقد أصبحت أوروبا بمثابة كيان جديد، أصبحنا نجد فيه “ثوار الـ68” وقد اندلقت كروشهم أمامهم، كما أصبحوا يحيون في منازل جميلة ويعيشون في أوضاع يُحسدون عليها ويقودون السيارات الفاخرة. من هنا، ما هي الإجابات التي سيردون بها على أسئلة أطفالهم؟ انظروا إلى ما تركتموه وراءكم: تحدثتم عن الحرية الجنسية وتركتم وراءكم السيدا. تحدثتم عن صراع الطبقات وعن موت الرأسمالية ولم يبق من ذلك كله سوى البطالة. تحدثتم عن المساواة بين الجميع وقدمتم لنا جامعات توزع شهادات لا نفع فيها ولا تصلح لأي شيء. من هنا أي عالم وُهب إلينا نحن أحفاد جنود الحروب كلها والطوباويات كلها التي تنتمي إلى القرن الماضي؟

“جنود سالامينا” رواية تطلب من الواقع عبر المتخيَّل أن يقدم حساباته إزاء الجميع. وربما كان على الجميع أن يقرأ هذا الكتاب المدهش الذي يأتي في ترجمة جميلة.

 (1) “الباييس”، عدد 17 أيلول 2001.

(2) يستعمل يوسا التعبير التالي: elato real.

(3) صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية، عدد الخميس 5 أيلول 2001

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى