أحمد عمرصفحات الناس

جنيف برط برط/ أحمد عمر

 

صفقة طلائعية..

زفَّ الدكتور نصر الحريري بشرى إلى ملايين النازحين السوريين والمشردين في المنافي وفي الرقاب.. أنّ النظام “المنضم” إلى الغرب قبل بمناقشة ملف الانتقال السياسي بعد ضغوط من حليفه الروسي.

لقد قبل بمناقشته بَعْدَ اللَّتَيَّا وَالَّتِي، والمناقشة يمكن أن تمتد أحقاباً مثل اتفاقيات أوسلو. رضي الحليف الروسي أن يضغط عليه، وبهذه الضغطة العاطفية السعيدة، اتصلت العربية بأحد مستشاري المعارضة إعلامياً في جنيف، وهو السيد أسامة أبا زيد، فذكر أن الخبر مبالغ به، وحاول أن يجهض البشارة: فالنظام مصمت، ولا أمل يرتجى منه، وعلامة ذلك أنه بدأ يرسل هدايا قاتلة لشعب المعارضة على شكل غارات جوية على المناطق المحاصرة، فجمع بين التجويع والنار والقصف بالكيماوي بين يدي مباحثات جنيف، لكن المذيع ختم اللقاء بالمسك عبر الأثير بأن هناك خطوة إلى الإمام أخيراً. حتى الفضائية لم تُخفِ حبها للنظام، وهي متفائلة جداً، لها سماحة المسيح عليه السلام، عندما رأى كلباً ميتاً، فقال: ما أجمل أنيابه البيضاء، بدلاً من يغلق أنفه من رائحة الكلب الفاطس النتنة.

تذكّر بشارة نصر الحريري من أرض الشوكولا والبنوك والثلوج بقصة “البرطمة” لعزيز نسين، وتروي قصة تاجر ثري، التاجر لا يرتجى منه خير،  “لا يمكن زيادته بقطرة ماء واحدة”، يعني لا يبول على يد المجروح بالتعبير السوري، وله خادم مثله تماماً، ميؤوس من نفعه وهدايته، أرسله سيده لشراء عسل، ولأن الخادم يماثل سيده في النذالة، قصد البازار، وساوم وفاوض، وقبل البائع بمناقشة قضية انتقال البضاعة، فاشترى طاساً من العسل بأبخس ثمن، تمكّن أن يشتريه بأقل من رأسماله، وعاد سعيداً بخوزقة البائع الفقير، وربَّح سيده، وفي طريق العودة، وجد امرأة نازحة فقيرة، وجائعة، تضرعت إليه قائلة: أرجوك لحسة عسل من أجل ابني، ابني مريض، وأوصى الأطباء بلحسة عسل، لحسة عسل واحدة ستشفيه.

الخادم ابن حرام، ولا يمكن إضافة قطرة ماء إليه، تلا عليها بيتاً من شعر نزار القباني، ووضع يديه على أذنيه محاكياً الحمار، وقال لها ساخراً: برط برط.

فدعتْ عليه المرأة، وقالت له: رُح، إلهي يجعلك تبرطم طوال عمرك، إلهي يجعل كل من يذوق هذا العسل مبرمطين مثلك، اللهم ابتلهم بالبرطمة إلى أبد الأبدين.

مضى الخادم بغنيمته التي اشتراها بأقل من رأسمالها، وفي الطريق حدثته نفسه بتذوق العسل الأصلي، فسرق لحسة كبيرة، ووصل إلى القصر، فسأله سيده عن العسل، فردَّ وقال: برط، اشتريت برط، العسل برط، بأحسن برط سعر برط..

فقال له سيده: كنت فصيحاً وتترنم بأشعار نزار قباني، قسماً بالله لم أرَ أشطر منك، حولت منبر مجلس الأمن إلى عكاظ ومربد وأمسيات شعرية، فماذا جرى لك يا بخش القلب؟

قال بخش القلب الذي لا يمكن إضافة قطرة ماء إليه: العسل برط.. أخذت برط لحسة برط.. فصرت أبرطم

تناول صاحب القصر الجمهوري لحسة، وقال سأجرب، وما إن تذوق العسل حتى صار يبرطم:

عسل برط طيب برط، إنه عسل برط يجعل حضن برط الوطن برط طيباً..

وهكذا تمضي الحكاية الظريفة، فيلحس الجميع مؤخرة الطاس ويبرطمون: رئيس البلدية، والقاضي، والعمدة، ورئيس الوزراء والملك أيضاً، وأخيراً بعد لجنة تقصٍ للحقائق، وصلوا إلى أن دعاء المرأة هو سبب كل هذا البلاء والطاعون الخطابي والعجمة التي ابتلوا بها، فيذهبون إليها، وحتى يشفوا من وباء البرطمة، عرفوا أن الوصفة السحرية هي إعطاءها لحسة عسل، لكنهم بخلاء، “والشعب لا يُعطى وجهاً”، لم يفعلوا لأن المثل يقول الدنيا تؤخذ غلابا”، وينال العسل من يصبر على قرص النحل، فظلوا يبرطمون حتى هذا الوقت: أيها المواطنون.. برط.. ستعود برط البلاد برط حضن برط الوطن برط، المرأة برط إرهابية..

عندما ذهب الزعيم الفيتنامي “هو شي منه” إلى جنيف سنة 1954، أبى أن ينزل في فنادق خمس نجوم، خوفاً من برطمة لحسات العسل، وسكن والوفد المرافق عند طالب فيتنامي من المعارضة في ضواحي جنيف.

أحياناً تواجهنا الحياة بخيارات صعبة، وقد نفهم قبول قيادات المعارضة المحشورة في خانة “اليك” بالمفاوضات بعد وعود شفاهية، والوعود الكتابية الغربية لا يلتزم بها الواعد فهو عرقوب، وكان رياض نعسان آغا قد زفَّ إلينا وعداً أمريكياً من الرياض قبل سنتين، والمعارضة تدرك أن النظام “عشرة عمر” مع الغرب والشرق، خمسون سنة من المساكنة معاً في فراش وثير، الغرب لا يتحمل رئيسه مهما كان محبوباً أكثر من دورتين، لكنه عاش مع الرئيس السوري، ومن ثم ابنه نصف قرن في تبات ونبات، سوى من بعض مشاكسات ملح الحياة، فقد حافظ على ثلاث خصائل: لم يؤذِ إسرائيل سوى بمصافحة بروتوكولية، ويحارب الإرهاب بلا هوادة، ويدافع عن الأقليات ويولّيهم ويصدّرهم في السياسة والفن والأدب والمعارضة أيضاً!.. إنه نظام يفهم في اللوغاريتمات والنسبية والذرة.

والمعارضة جديدة وطارئة وملتحية وإن كانت حليقة فمن أجل الكاميرا، وهي غير منتخبة، والمنتخبة تثير غضب الغرب أكثر، عبث بها الروس حتى شكلوا فريقاً جديداً، جعلوا فيه حارس المرمى مهاجماً، والمهاجم مدافعاً، وغيروا تشكيلة الفريق، بأن بدّلوه بفريق للسيرك ولعيبة الكشتابانات والثلاث ورقات، وأذاقهم وبال أنواع من العسل الروسي والسويسري والعربي المغشوش، وباتت المعارضة تشبه برغل القرج (وهو برغل مشحود من بيوت شتى: بعضه قاس وبعضه محروق وبعضه نيّء).

كنت أتمنى من أحد المعارضين، من واحد فقط، واحد رضع حليباً حلالاً، واحد فقط يجهل المراسيم وآداب الحديث، أن يفعل مثل أم الطبيب  عباس خان، التي كانت تتكلف مشاق السفر، فقط لتشتم ممثلي النظام انتقاما لمقتل ابنها، كأنْ ينام  في الشارع، أن يقتدي بهوشي منه، أن ينصب لنفسه خيمة، أن ينام مثل الفيلسوف ديوجين في برميل، أن يقدم عرضاً مسرحياً صامتاً، كأن يضع على فمه لصاقة سوداء، كأن يضع كمامة من الكيماوي، أن يضع على رأسه خوذة بيضاء، أن يضع زفتاً أسود، أن يرتدي زي امرأة ويضع نقابا، أنْ يلبس الجاكيت بالمقلوب، فكل شخصيات المعارضة وقورة، لا تحب التمثيل، تأتي إلى المواعيد، وليس لها مهارات بشار الجعفري في إلقاء الشعر، أو اصطحاب صور طبيب من الخوذ البيض يقصف الطائرات!

كنت أريد من هذا المعارض، مأكلول الدود، أن يصطحب أمُّاً من أمهات الشهداء، أو يصحب معه طفلاً مشوهاً مقطوع الساقين، أن يحمله معه إلى كل الاجتماعات، في حضنه، على كتفيه، وإذا لم يجد طفلاً مناسباً من بين ملايين الأطفال المشوهين، أن يصطحب ابن المرأة العجوز الذي يحتاج إلى عسل غير مبرطم، أن يستورد طفلاً من حوادث القطارات في الهند الشقيقة.

من غير إلقاء كلمة واحدة..

ولا كلمة..

فقط أن يخرس..

أن يربط لسانه الأعوج بميثاق غليظ

بدلاً من أن يمدح أنياب الكلب الفاطس البيضاء..

ويردد نشيد الجعفري العسلي: برط برط برط.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى