جهاديو أوروبا من أبناء الطبقة الوسطى والشابات/ فرهد خوسروخافار
منذ التسعينات، برز في فرنسا نموذج إرهابي «كلاسيكي»: شباب الأحياء من أمثال محمد مراح ومهدي نموش، أو عدد من إرهابيي هجمات 13 تشرين الثاني (نوفمبر) من أمثال عمر مصطفى. وتجمع بين شباب هذا النموذج، الحياة على حدة والانحراف ورحلة الى الجزائر أو سورية وأفغانستان أو الى اليمن، ولفظ قيم المجتمع الأوسع ورفض الانخراط في سوق العمل وتحمّل المسؤوليات العائلية وغيرها. وحين يشعر الشباب بأن المجتمع يصليهم الكراهية أو ينبذهم يتمسكون أكثر بدور «فارس العقيدة». وكأن بثّ الخوف في أوصال المجتمع، يبدّد الازدراء الذي يشعر به، إذ يهدر دم نفسه وغيره. ويغرق في خطاب ما بعد كولونيالي متخيّل: «استعمرونا في البدء، ثم استغلوا أهالينا، لكنني لن أقبل الاستغلال».
ما طرأ على النموذج الكلاسيكي هذا، هو انضمام شابات وشباب من الطبقات الوسطى الى الحركة الجهادية.
ونسبة أبناء الطبقات الوسطى من 5 آلاف أوروبي قصدوا سورية منذ بدء الحرب الأهلية، تبلغ 40 في المئة. وسير هؤلاء أكثر تنوعاً من سير الإرهابيين من أبناء «الضواحي»: شباب في سن بين العشرين والثلاثين سنة آصرتهم بالإسلام ضعيفة، ويصلون المجتمع العداء. فبين جهاديي الطبقات الوسطى، مراهقون في سن بين الثانية عشرة والخامسة عشرة، ونسبتهم تصل الى 20 في المئة من الأوروبيين الذين يلتحقون بـ «داعش». وهذه نسبة ضخمة ولا نظير لها في السابق.
وإلى وقت قريب، كان عدد النساء في الحركة الجهادية لا يزيد على أصابع اليدين. لكنهنّ اليوم، ثلث الملتحقين بالجهاد في سورية. وقلما تحمل النساء السلاح أو تقاتل، لكنهن يشدّن أزر الجهاديين ويتولين وظائف بارزة، منها ترسيخ القيم الجهادية لدى الإنجاب والعناية بالأطفال وإنشاء أسر داعشية. وربع الملتحقين بـ «داعش» من الأوروبيين، هم من الذين اعتنقوا الإسلام أخيراً. وهؤلاء يشعرون بأن السوريين يُظلَمون، ويرون أن التزامهم (مد اليد لهم) إنساني على قدر ما هو جهادي. وأبناء الطبقات الوسطى الملتحقون بـ «داعش» ليسوا مهمّشين في المجتمع وهم مندمجون في اجتماعه. وتفسير هذه الظاهرة متعدّد الجوانب، ومنها تغير النموذج العائلي الغربي. ففي العائلات «المركبة»، لم تقوّض سلطة الوالدين بل توسّعت لتشمل عدداً أكبر من الأشخاص (زوج الأم، زوجة الأب…). فلم تعد السلطة الأبوية حكراً على ممثل واحد لها. ويسعى الشباب الى امتحان حدود سلطة الأهل، وإذ يتكيفون مع الاضطراب العاطفي الذي يلمّ بهم، يشعرون بالضيق. ويسعون الى نواة «متماسكة» متخيلة يستندون إليها ويولونها مرتبة المرجع. وأسرت إليّ فتاة يافعة حيل بينها وبين السفر الى سورية، بأن من ينتظرها هو «شاب جامد (قوي) وجدي، لا يهاب الموت». وكأن الرجل العادي خسر مكانته. وترى الشابات الملتحقات بـ «داعش» في سورية، أن مظاهر الفحولة أساسية ويعتد بها، وينظرن بعين السأم الى الحركات النسوية ومطالبها.
وتساهم القطيعة بين الأجيال في الأسر المعاصرة، في ضعف أبناء الطبقات الوسطى أمام العقيدة الجهادية. فالآباء كما الأبناء، يعيشون في عوالم متباينة. فمعرفة الراشدين بعالم الإنترنت ضئيلة، وهم أميون لا يجيدون فك حروفه (العالم هذا)، في وقت لا يخفى الأولاد جهل الآباء، فيمخرون أمواج منطقة الاستقلال الرقمي حيث تنتشر البروباغندا الجهادية. وقدرة الراشدين على فهم الأبناء صارت أضعف مما كانت عليه في نموذج الأسرة البطريركية، يوم كانت المعايير تسمو على الأشخاص وتمدّ جسور «العيش المشترك». وطعن جيل أيار (مايو) 1968 في هذه المعايير وهذا النموذج. ويبدو أن الشباب الملتحق بـ «داعش» يجذبه نموذج ينهى عن أشياء وأفعال. فهو يحتاج الى محظور جمعي: «الرجل لا يفعل هذا… المرأة لا يجدر بها التصرف على هذا المنوال». وظاهرة التحاق أبناء الطبقة الوسطى بـ «داعش»، مرآة سعي الى تحديد الأدوار بين الجنسين وبين المراهقين والراشدين وبين الأهل والأولاد… والظاهرة هذه هي كذلك وثيقة الصلة بما يعجز النموذج السياسي عنه: فك رموز العالم وإسباغ معنى ماورائي عليه.
وأمثال هؤلاء الشباب قد يلتحقون بحزب «الجبهة الوطنية» المتطرف، أو بـ «الجهاديين». وهذا ما خلصتُ إليه إثر إجرائي سلسلة مقابلات مع شباب «بيض» من الضواحي. فهم في حاجة ماسة الى معايير وسلطة وحدود قمعية. وفي فرنسا، لا وزن للدين في خيار الانضمام الى «داعش»، على خلاف ما هو الأمر في بريطانيا. فهناك النظام لم يفكك الجماعات والطوائف، وحافظ على المنطق العائلي – الطائفي أو الجماعي. وعلى سبيل المثل، التحقت عائلة ممتدة بالجهاديين (الجد والجدة والأولاد والأحفاد). والمتحدرون من أسر متدينة في فرنسا هم أقلية في أوساط الملتحقين بـ «داعش». وشباب الأحياء لا يعرفون الإسلام، ويعودون إليه من طريق الأصحاب والأقران.
* دارس اجتماعيات، محلل، عن «لوبس» الفرنسية، 16/12/2015، إعداد م. ن.
الحياة