جهاد الممانعة والغيبيّات.. المقاتلون الأجانب مع النظام السوري/ حمزة المصطفى
دأبت الرواية الرسميّة والشعبوية (الإعلام الخاص القريب من النظام) السوريّة، ومنذ بداية عام 2013، على توصيف الصراع الجاري في البلاد بأنه “حرب الدولة السوريّة على جماعات تكفيرية قادمة من خارج الحدود، وينتمي أفرادها إلى أكثر من 80 دولة”. لا يتسع المقال لاستعراض الاستراتيجية الإعلامية للنظام السوري، على مدار أعوام الثورة، وملامح تطورها وتبدّلها المستمر: مندسّون، سلفيون، فتنة طائفية، مؤامرة خارجية، إخوان، جماعات مسلحة، مؤامرة كونية، مجموعات إرهابية، جماعات تكفيريّة. أو حتى أهدافها، والتي يصفها الدكتور عزمي بشارة، بدقة، في كتابه “سورية.. درب الآلام نحو الحرية”، كالآتي “أولاً: تصديق الكذب، حتى لو كان تصديقاً مفتعلاً، أي تظاهر بالتصديق هو علامة على الولاء. فعلى المواطن أن يتظاهر بتصديق ما يُكتب، أو يُبثّ في وسائل الإعلام الرسمية، حتى لو لم يصدقه، فحتى التظاهر بالتصديق، لا سيما الجماعي منه، هو علامةُ ولاءٍ مهمّة، أو علامة خوف. والأمر سيان بالنسبة لنظام استبداد. وثانياً، لأن هدف الدعاية الرسمية في مثل هذه الحالات هو أن تختلط على الناس الحقيقة والكذب، كأنهما روايتان متساويتا القيمة. مع الفرق أن إحداهما تخدم الوطن والثانية تخدم الأعداء. وثالثاً، ليس الهدف من الكذب الإعلامي في هذه الحالة إقناع الناس بصحة الرواية الرسمية، بل جعل الناس تشكّك بروايات الآخرين”.
خلط الروايات
لا تقوم الرواية الإعلامية الرسمية، برمّتها، على اختلاق الأكاذيب، بل تنطلق من وقائع وجزئيات صحيحة، وتعمل على تضخيمها، وتعميمها لتختلط الروايات وتتشعّب. فعلى سبيل المثال، لا ينكر أحد وجود جماعات جهاديّة في سورية، تأسست بعد أكثر من عام على انطلاق الثورة، من دون أن تتقاطع مع مبادئ الثورة وأهدافها إلا بجزئية “إسقاط النظام”، وبأن مقاتلين أجانب من جنسيات مختلفة انضموا إليها. لكن وجود هذه الجماعات، التي سهّل النظام نشأتها، ومدّها بما يلزمها من مقومات البقاء والفاعلية، تشكل جزئية صغيرة من مشهد الصراع القائم. كما أنها ليست ظاهرة أصلية، بل نشأت على هامش الثورة، وخارج سياقها، سواءً في المرحلة السلمية أو في مرحلة الكفاح المسلح. وأثبتت المعطيات والوقائع المتتابعة أن دخولها ونشاطها أضرّ الثورة، وأفاد النظام خارجياً، إذ مكنته من تصدير وقائع ومعطيات إعلامية “تؤكد” روايته التي أطلقها منذ بداية الثورة.
المفارقة، هنا، أن النظام الذي ركّز على العنصر الخارجي والمقاتلين الأجانب، في روايته المضادة للثورة، يرتكز بشكل رئيس على العنصر ذاته، سواء لجهة الدعم المادي واللوجستيّ الذي يقدمه حلفاؤه، كإيران، وحكومة المالكي، وروسيا، أو الدعم البشريّ القتاليّ والمباشر. لم يكن النظام السوريّ بحاجة إلى العنصر الخارجيّ في السنة الأولى من الثورة، فبعد انهيار “المؤسسة الأمنية” المدعومة بمتطوعين مدنيين (“الشبيحة”) أمام حجم التظاهرات، وانتشارها في عموم الجغرافيا السورية، زجّ بالجيش في المعركة، ونجح مؤقتاً في احتواء الاحتجاجات وإخماد بعضها. لكن الانتقال الواسع إلى العمل المسلح، وبروز ظاهرة “المناطق المحررة” استنزف قدرات الجيش، ولا سيما بعد انشقاقات أفقية كبيرة (على مستوى المجنّدين)، وامتناع شرائح واسعة في المدن الملتبهة بالاحتجاجات عن إرسال أبنائها إلى التجنيد الإجباريّ.
مأسسة “الشبيحة”
وعلى الرغم من مأسسة النظام منتصف عام 2012 جهاز “الشبيحة”، في ما عُرف بـ”جيش الدفاع الوطني”، إلا أن هذا الجيش المصطنع من دون أسس تنظيمية متينة، ولا عقيدة عسكرية واضحة، لم يؤدّ المهام المرجوّة لقلّة خبرة مقاتليه، ما جعله “صيداً سهلاً” لفصائل المعارضة المسلحة، ولا سيما في محافظة حمص. وأمام هذا الواقع، تراجع النظام عسكرياً في عموم سورية، في مقابل تقدم فصائل المعارضة وتمددها. فقد سيطرت فصائل المعارضة، في مطلع عام 2013، على أحياء دمشق الطرفية، وتقدمت، في مناسباتٍ عدة، باتجاه ساحة العباسيين، وأوتوستراد العدوي في قلب العاصمة، وشكلت تهديداً كبيراً للنظام. والجدير بالذكر أن نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، وفي لقاء صحافيّ مع جريدة الحياة (21 يوليو/ تموز 2013)، نقل عن الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، قوله: “التدخل في سورية تقرّر بعدما وصل المقاتلون المعارضون إلى دمشق، وكادوا يحتفلون بالنصر”.
إذاً، ومنذ الربع الثاني من عام 2013، فتح النظام الباب أمام الميليشيات العربية والأجنبية، لتقاتل إلى جانبه بذرائع مختلفة. وقد لعبت هذه الميليشيات دوراً كبيراً في تغيير موازين القوى لصالح النظام، واتّسع نشاطها ونفوذها إلى درجة أصبحت تتحكّم بمناطق جغرافية كبيرة. ويذهب كثيرون من قادة المعارضة المسلحة إلى أن دور الحركات والميليشيات الخارجية أصبح جوهرياً في المعارك الأخيرة، وأن دور قوات النظام اقتصر على تزويدها بالسلاح، والدعم اللوجستي، والتغطية الجوية، والقصف التمهيدي.
تتقاطع روايات المعارضة عن فاعلية العنصر الخارجي، بشكل غير مباشر، مع روايات وسائل الإعلام اللبنانية والعربية والأجنبية (المنار، الميادين، العالم) المؤيدة للنظام. وتجدر الإشارة إلى أن نسبة وسائل إعلامية الانتصارات الأخيرة في القلمون لحزب الله وحده، والتركيز على دوره الرئيس في منع إسقاط النظام، تسبّب في إحراج كبير للنظام السوريّ، ما اضطر مسؤوليه إلى انتقاد هذا الخطاب. كما منعت وزارة الإعلام السورية قناتي المنار والميادين من التغطية الإعلامية الميدانية، إلا بموافقة مسبقة.
37 فصيلاً ومجموعة
يتراوح عدد المقاتلين الأجانب، بحسب مصادر بحثية غربية، بين 30 إلى 40 ألف مقاتل. ما يمثّل ضعفا عدد المنتسبين (سوريين وأجانب) إلى تنظيمات جهادية مرتبطة بالقاعدة، أو مستقلة، ويتوزع هؤلاء على أكثر من 37 فصيلاً ومجموعة، نرتّبها وفق الآتي:
الحرس الثوري الإيراني: لا توجد فرق عسكريّة تتبعه وتعمل في سورية علناً، بل عناصر موزعون على مناطق عدة كما في برزة، ونجها، والزبداني في دمشق، وحلب وريف إدلب. يضاف إلى ذلك وجود عدد كبير (1000 شخص) من الخبراء العسكريين الإيرانيين، والذين يشرفون على تدريب الجيش السوري وقوات الدفاع الوطني. ولم يظهر الوجود العسكري الإيراني بشكل ملحوظ في عام 2011، لكنه برز واضحاً وعياناً في دمشق، بعد تفجيرات مكتب الأمن القومي في دمشق، في يوليو/ تموز 2012؛ إذ فوجئ سكان العاصمة بانتشار عناصر الحرس الثوري الإيراني علناً في محاور كفرسوسة والمزّة وجبل قاسيون لضمان الأمن، ومنع حصول اضطرابات، ولا سيما أن التفجير أثار حالة من الهلع داخل النظام، ولدى السكان، بعد انتشار شائعات وروايات في الساعات الأولى، تتحدث عن مقتل بشار الأسد أو إصابته خلال التفجير، وإبان هجوم المعارضة على مطار دمشق الدولي أواخر عام 2012، إذ تدخلت وحدات إيرانية، وحسمت الموقف بشكل سريع لصالح قوات النظام. ومنذ ذلك الحين، اعتاد السوريون على رؤية العناصر الإيرانية، ولا سيما في دمشق وريفها.
حزب الله: يرجع تدخله في الأزمة السوريّة إلى أواخر عام 2011، إلا أنه كان محدوداً، ويتركز في قرى شيعية، في حمص وريف حلب، والمراقد الدينية في ريف دمشق والرقة، والمراكز العسكرية الحيوية للحزب في سورية، والموجودة في الزبداني وعدرا ونهجا في ريف دمشق. وعلى الرغم من تقارير وصور متتابعة في عام 2012، والتي توضح اشتراك الحزب في المعارك، إلا أن قيادته لم تؤكد ذلك، حتى معركة القصير، منتصف عام 2013، وتذرّعت، بدايةً، بحماية القرى الشيعية والمراقد الدينية، قبل أن تبرّره بمواجهة المشروع الصهيوني ـ التكفيري، ومنع إسقاط النظام. ويقدّر عدد عناصر حزب الله العاملين في سورية، بشكل دائم، بنحو خمسة آلاف، ويتضاعف عددهم في أثناء المواجهات الصعبة، كما جرى في يبرود أخيراً.
الميلشيات العراقية: هم الأكبر عدداً ويقدّرون بأكثر من 10 آلاف مقاتل، ويتوزعون على فصائل عدة، أبرزها: لواء أبو الفضل العباس، لواء ذو الفقار، جيش الإمام المهدي، لواء عمار بن ياسر، لواء الحمد، عصائب أهل الحق، لواء أسد الله الغالب، حزب الله العراقي، لواء الإمام الحسن المجتبى، عصائب شعلة الصدرين، لواء كفيل زينب، فيلق الوعد الصادق، سرايا طليعة الخراساني. بدأ النظام باستقدام الميليشيات العراقية، منذ مطلع عام 2013، من خلال حملة تجييش طائفي، آنذاك، عن الخطر المحدق بمقام السيدة زينب، ونيّة “التفكيريين” تفجير الأضرحة والمقامات، وقادت هذه الحملة مجموعة من رجال الدين العراقيين الشيعة الذين لجأوا إلى سورية، بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، واستخدموا، في حملاتهم، الدعائية خطاباً طائفياً شعبويّاً، كمواجهة ثورة “بني أمية”، ظهور “خصم الإمام المهدي”، بروز أولى علامات ظهور الإمام المهدي في مدينة حرستا بريف دمشق.. إلخ. وصول عدد كبير من المقاتلين العراقيين أفاد النظام كثيراً، إذ استطاع هؤلاء، والذين خبروا حرب العصابات لسنوات، إيقاف تقدم المعارضة في دمشق وريفها، ونجحوا في تغيير موازين القوى لصالح النظام، بعد تطويق الغوطتين وفرض حصار مشدّد عليهما. تضاف إلى ذلك مساهمتهم الحاسمة في معارك القلمون (النبك، قارة، دير عطية)، وفي الريف الحلبي. والجدير بالذكر أن الميليشيات العراقية تضم في صفوفها مجموعات أفغانية وباكستانية قدمت إلى سورية بذرائع “حماية” الحسينيات التابعة لها، الموجودة في منطقة السيدة زينب، كما أنها مطعّمة بمقاتلين من جماعة أنصار الله (الحوثي).
مليشيات حزبية لبنانية: عددها صغير مقارنة بقوات حزب الله، والميلشيات العراقية. لا تمتلك كفاءة قتالية عالية، لكنها تنشط على الحواجز في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، أو التي يسيطر عليها حديثاً، وتؤدي دوراً أمنياً شبيهاً بدورها في الحرب الأهلية اللبنانية. ومن أبرز هذه الميليشيات: الحرس القومي العربي، حزب البعث (عاصم قانصوه)، التيار العربي (شاكر برجاوي)، الحزب العربي الديمقراطي (رفعت عيد)، حزب التوحيد العربي التابع لوئام وهاب (انضم إليه متطوعون دروز قادمون من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948). ولا يبرز اسم هذه الميليشات في التداول الإعلامي، لهامشية الدور الذي تقوم به، وقلة عدد القتلى في صفوفها، باستثناء الحزب القومي السوري الاجتماعي (سورية ـ لبنان) الذي يشارك في العمليات القتاليّة بصورة أوسع.
ميلشيات فلسطينية: على الرغم من نزوع الفلسطينيين المقيمين في سورية إلى الحياد، على اختلاف توجهاتهم وفصائلهم، فإن النظام حاول، ومنذ الأشهر الأولى للثورة، زجهم في الأزمة، وتوظيف قضيتهم. بدا ذلك واضحاً في ذكرى النكسة، 5 يونيو/ حزيران 2011، عندما سمح لشبان فلسطينين (أشرفت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين -القيادة العامة على تجميعهم) بتجاوز خطوط الهدنة في الجولان المحتل، فسقط قتلى برصاص الجيش الإسرائيلي. الأمر الذي أدى إلى مواجهات داخل مخيم اليرموك بين مقاتلي جبريل وشباب فلسطينيين رفضوا التوظيف “المهين” لقضيتهم العادلة. تنبّه النظام إلى حالة الاحتقان الشعبي في المخيمات، ولا سيما أن المزاج الشعبي الفلسطيني كان مؤيداً بمعظمه للحراك الاحتجاجي في سورية، فسعى إلى ضبطها بتكليف فصائل محددة (الجبهة الشعبية، فتح الانتفاضة، جبهة النضال الشعبي، لواء القدس في حلب) بإدراتها، ومنحها صلاحيات أمنية وعسكرية واسعة، ما أدى إلى صدام مسلح داخل المخيمات الفلسطينية، على خلفية الانتهاكات المرتكبة من هذه المجموعات. ولم يقتصر الدور المناط بالفصائل الفلسطينية على المخيمات، بل امتدّ إلى مناطق أخرى، كأحياء دمشق الجنوبية، والنيرب في حلب.. إلخ.
ميلشيات أجنبية: يمكن تقسيمها إلى قسمين، بحسب أهدافها. الأول، يقاتل في سورية، لهدف تجاري، كشركات الحماية الأمنية، ومن أبرزها الزنبق الأسود (اليونان) والفيالق السلافية؛ وهي شركة أمنية، أسسها ضباط روس وأوكرانيون متقاعدون، وتقدم خدمات أمنية كحماية السفارات والبعثات الدبلوماسية، حماية المطارات والموانئ البحرية، الشركات الخاصة. كما تضطلع بمهام عسكرية نوعية، كالاقتحامات السريعة، وعمليات إنقاذ الرهائن وغيرها. والثاني، يقاتل لغايات سياسية، وأبرز هذه الميلشيات: الجبهة الشعبية لتحرير لواء اسكندرون، والتي يتزعمها علي كيالي؛ وهي مجموعة يسارية راديكالية، تنشط في الساحل السوري، تحت شعار “مواجهة الاحتلال التركي، واستعادة الأراضي المغتصبة”، وقد ارتكبت عناصر الجبهة مجازر فظيعة في الساحل السوري، في قرية البيضا وبانياس وجبلة، وتتهم الحكومة التركية كيالي بالوقوف وراء تفجيرات في قرية الريحاينة على الحدود. الجبهة الأوروبية للتضامن مع سورية؛ وهي تجمعات أنشأها النظام في دول أوروبية عدة، للقيام بنشاط مؤيدة له، كالتظاهرات والحملات الإعلامية، وبدأت، أخيراً، بممارسة نشاط عسكري، من خلال إرسال عناصر ومقاتلين، لتصويرهم متضامنين عسكريين مع الجيش السوري في حربه على الإرهاب والجماعات التفكيرية. جماعة صيادي الغزلان؛ وهي ميليشيات أرمنية قدمت إلى سورية بذريعة “حماية” الأرمن في سورية.
وتجدر الإشارة إلى أن نحو 300 مقاتل من هذه الجماعة وصلت إلى جبهة الساحل، لمساعدة قوات النظام والدفاع الوطني، لاستعادة بلدة كسب، والتي تقطنها أغلبية أرمنية سورية.
العربي الجديد