جواز السفر
شيرين الحايك
في مطار فرانكفورت كانت المرّة الأولى التي أصدم ُ بها بالشبح الغير متوقع، جواز السفر السوري. كنت ُ مع صديق و كان يحمل الجواز السوري و بداخله فيزا دراسية في أميركا في يده عندما أوقفه ُ مسؤول في المطار و قال له ُ أنتظر .. إنتظرنا معا ً. وصل الدور إلينا و إنتقلنا نحو شبّاك التذاكر، كانت الطائرة المتجهة نحو لبنان قد طارت نظرا ً لتأخّر طائرتنا القادمة من شيكاغو. أعطينا الموظفة كلّ من جوازينا. نظرت إليّ بعد بحث ٍ طويل و قالت بلهجتها الإنكليزيّة الغير مفهومة تماما ً ما معناه ُ أنني أستطيع أن أجد رحلة ً أخرى بسهولة، و من ثمّ نظرت إلى صديقي و قالت له ُ أنّ عليه أن ينتظر حتى اليوم التالي لأنّ جوازه سوريّ و لا يمكنه ُ الإنتقال من مطار ٍ نحو الآخر ضمن القارة الأوربيّة العجوز لأنّه يـُخشى من أن لا يلتزم بالطيران و يتقدّم للجوء!
دار مشاحنة ً بيني و بين َ الموظفة و من ثمّ حديث أكثر هدوئا ً و من ثمّ إستطعنا حلّ المشكلة بطريقة ٍ معوجّة لكنها كانت تفي بالغرض. سينتقل صديقي من فرانفورت إلى لندن (التي تمنح السوريين فيزا لـ 24 ساعة) و منه إلى إسطنبول فلبنان.
شعرت ُ بالقرف، ليس َ فقط من الإجراءات بل من أنني أستطيع ُ أن أحمل جواز سفر ٍ أجنبيّ و أتجوّل بسوريتي نفسها دون َ أن يمسني أحد. “فلتسقطوا عنّي جواز السفر” قال صديقي ممازحا ً قبل أن نفترق. بقيت هذه العبارة ترنّ في إذني.
في مطار بيروت و عند المغادرة، كان هناك سيدة ً و معها فتاة في عمر الشباب، توقعت أنها إبنتها، و رجل نادته ُ الفتاة طوال الوقت “عمّي”. السيدة كانت لطيفة جدّا ً و كانت رائحتها تشبه دمشق. أمـّا الفتاة كانت خائفة جدّا ً. إقتربنا من الحاجز الأمنيّ الأوّل في المطار و كانت الفتاة تبدو أكثر خوفا ً حتّى أنها سألت الموظف المسؤول إن كان يسمح ُ لها بترتيب ِ حجابها و هي تتحدّث ُ إليه. العمّ أيضا ً كان مرتبكا ً. السيدة كانت الأكثر هدوئا ً و أقلّ من تحدّث.
أشار َ العمّ إليّ في حديث ٍ سريع ٍ متسائلا ً إن كانت الإجراءات نفسها تنطبق ُ على السوريين أمّ كان هناك َ أوراق خاصة. أجبت ُ بأنني لا أعرف و خجلت.
في تلك اللحظات كنت أشعر بالرغبة بالصراخ عاليا ً ما يكفي كي يستيقظ كلّ ذلك الموت في مفاصل الحياة اليوميّة لهؤولاء الناس العاديين، لموظفة التذاكر في فرانفورت، للدركيّ في مطار بيروت، لكلّ الذين لا يشعرون بحجم الألم هاهنا. من مطار فرانفورت إلى بيروت و صور الشباب السوري الذي نام َ أسابيع في مطار الإردن لمنع الحكومة الأردنيّة له ُ الدخول، خيالات مخيمات اللجوء التي تشبه قبور الحياة في تركيا و عمّان، دفاتر الوجع التي خلّفتها رحلة البحث عن الحياة عبر َ جواز السفر السوريّ.
أنهينا إجراءات الخروج و بعد َ أن مررنا من الحاجز الأمنيّ إقتربت من السيّدة و بدأت ُ معها حديث ٍعبثيّ لدرجة أنّي لا أذكرهُ. لم يكن يهمني الحديث نفسه كنت ُ فقط أودّ أن أسمع َ صوتها تتحدّث. كانت تقول شيئا ً عندما سمعت ُ نداء طائرتي و قررت ُ أن أضمـّها دونما سابق إنذار. ضممتها و بكيت، بكيت بنهم البكاء المؤلم، بكيت ُ و كأنني لم أبك منذ ُ دهر ٍ. أمـّا هي فكأنها كانت تعرف ُ كلّ شيء، مسحت بيدها على شعري و قالت بلهجتها الدمشقية: “معلش عيوني، معلش”. سمعت ُ نداء طائرتي مرّة أخرى، كان النداء الأخير. إبتعدت ُ و دون أن أقول شيئا ً حملت ُ حقيبتي الصغيرة و إتجهت ُ نحو البوابة.