جولة على جبهة جوبر: يوميات الوجع
دمشق ـ صبر درويش
القصف لم يهدأ منذ الصباح الباكر، المدينة خالية تماماً من السكان المدنيين، ولا شيء في الشوارع سوى الركام، الذي خلفه القصف العنيف والمستمر على المدينة منذ أكثر من خمسة عشر يوماً.
لا يسجل الثوار على الجبهة الغربية للمدينة كما باقي الجبهات- أي تقدم ملحوظ، وهذا ينطبق أيضاً على اعدائنا، رشقات رصاص متفرقة بين الحين والآخر، وبعض القنابل التي يرميها المقاتلون بشكل عشوائي. القيادات العسكرية ماتزال متخوفة من التقدم باتجاه ساحة العباسيين في العاصمة دمشق، بينما قوات الأسد تكتفي بإمطار المدينة بقذائف الهاون وراجمات الصواريخ.
أتجول على الجبهة، وأحاول أن أرصد مزاج الثوار، الجميع ممتعض، ومتشوق في الآن نفسه لدخول العاصمة، التي لا تبعد سوى بضعة أمتار عن متناول الثوار.
نقص كبير في الذخيرة، يقول الثوار المرابطون على الجبهات، والقيادات العسكرية للكتائب والألوية مشغولة بخلافاتها حول اقتسام غنائم مفترضة، بينما الانتظار الثقيل يخيم على الجميع.
على الجبهة الغربية في المنطقة التي يطلق عليها الثوار: (م) يقرر القادة الميدانيون اقتحام أحد المباني التي يسيطر عليها رجال النظام؛ الخطة كانت تقتضي تفجير سيارة مفخخة، ومن ثم المباشرة في اقتحام المبنى.
تجمع حوالي المائتي مقاتل، وشُرحت لهم الخطة، التي كانت تقتضي تقسيم الثوار إلى مجموعات، مؤلفة كل واحدة من ثلاثة أشخاص، يباشرون اقتحام المبنى عقب تفجير السيارة مباشرةً.
استغرق تجهيز السيارة المفخخة وقتاً طويلاً، أتاح لي التجول بين الثوار، الذي لم يكن يخفى حماسهم على الاطلاق. بيد أن الانتظار لغة ثقيلة، وخصوصاً على جبهات القتال.
بدأ الشعور بالضيق يتسلل إلى صفوف الشبان، وبدأت تصرفاتهم توحي بالقلق؛ في أحد البيوت العربية القريبة من المكان، قامت مجموعة من الشبان بالصلاة على عجل، بينما عمدت مجموعة أخرى إلى التكبير، بداية بصوت منخفض، ما لبث أن ارتفع بعد أن تلقفته حناجر باقي الشبان؛ لم يدم الأمر طويلاً، ثم ما لبث الجميع أن عادوا إلى صمتهم.
قمت بالتقاط الصور لهم، محاولاً رصد مشاعرهم في تلك اللحظات. في الحقيقة، الخوف كان واضحاً على الجميع.
أبو جهاد، وهو شاب لم يبلغ العشرين من عمره بعد، كان يمزح مع صديقه أبو ثائر، ويطلب منه أن يسامحه، بينما أبو ثائر فيجيب ضاحكاً أنهم سيلتقون بعد قليل في الجنة، وسيكون صديقهم أبو الحسن – الذي استشهد منذ مدة قريبة – في انتظارهم يهيئ لهم المكان هناك في الأعلى. كان التوتر بادياً على الجميع. وقف القائد الميداني، وهو شاب أشقر في منتصف العشرينيات، يتكلم بصوت مرتفع، ويوجه الملاحظات قبل الاقتحام، ويهدد من سينسحب بالقتل، وبسبب كثرة ما تكلم أصاب الجميع بالامتعاض الذي زاد من أجواء التوتر، حتى أنه توجه إلي بصوت مرتفع، وحدثني بلغة أقرب إلى التأنيب، حول كيف أنني سأشارك معهم في العملية وأنا لا أحمل سلاحاً معي، إذ كيف سأدافع عن نفسي إذا ما اضطررت إلى ذلك؟ في الحقيقة كان معه الحق في تخوفه، ولكنني عبرت له أنني شاركت سابقاً على جبهات عدة، وأنني ادرك المخاطر، وأنني سأعرف كيف أتعامل مع الأمر.
تبدو جوبر اليوم كأخواتها من المدن المحررة، مدينة مهدمة بالكامل، ولا شيء على حاله. بينما ما تبقى من مدنيين، فيتناقص أعدادهم باستمرار. المدينة مهجورة، ومن الصعب إيجاد متجر مفتوح، ولا يتوفر الحد الأدنى من الاحتياجات اليومية البسيطة. تحررت جوبر بالكامل، وهدمت المدينة بالكامل أيضاً، وهي العقوبة المعتادة التي بات يعاقب عليها كل من تسول له نفسه بالحرية.
“الأسد أو نحرق البلد”، في الحقيقة يطبق هذا الشعار بحذافيره، إذ بعد أن فشل أتباع الأسد في الحفاظ على بقاء “أسدهم” قرروا حرق “البلد”؛ المدن السورية اليوم أشبه بالجحيم، ولا شيء يشير إلى اقتراب “الفرج”.
اليوم أتيح لي الاقتراب من دمشق “المغتصبة”. كنت على مقربة، بحيث أنني رحت أشاهد السيارات التي تعبر بالقرب من كراج العباسيين، كان منظراً درامياً، فأنا من أشهر لم أرَ العاصمة، كانت الحياة تبدو طبيعية، بينما نحن واقفون خلف خطوط الجبهة. سألت أحد القادمين من العاصمة حول الوضع في “الداخل”، أجاب: الوضع طبيعي! كيف يمكن “للوضع” أن يكون طبيعياً في ظل هذه الحرب الدائرة على التخوم؟!
كل شيء بات طبيعياً، الموت المتربص في كل منعطف، بات طبيعياً، عشرون صاروخا تطلقه راجمة من مكان ما نحو اهداف مفترضة بات طبيعياً أيضاً، بيد ان صمت العالم المتمدن يبدو غير طبيعي على الإطلاق!
مررت اليوم بعد أن عدت من إحدى الجبهات، إلى المشفى الميداني، كان عليّ القيام بأمر ما، جلست أنتظر في الردهة، على مقربة مني، كان “كيس” أسود كبير، من الواضح أنه يحوي على جثة أحد الشهداء، ومن الواضح أن الجثة ممزقة بالكامل، وإلى جانبها جثة شاب لم يتجاوز العشرين عاماً، استشهد في معركة على إحدى الجبهات، كما قال لي صديقه، الذي كان بادياً عليه التوتر؛ في الغرفة القريبة، كان هناك عدد من الجثث الأخرى المكفنة بعناية، والجاهزة للمسير إلى مثواها الأخير، شاب في مقتبل العمر كان يبكي أحدهم، وبعض الرفاق يحاولون مواساته.. كل شيء طبيعي، فتفاصيل المشهد السوري باتت مكررة حتى السأم! والعالم كله شاهد اليوم على تفاصيل المجزرة، لا شيء يحدث، سوى إراقة المزيد من الدماء.
ما تبقى في المدينة يشير إلى نقص في كل شيء، نقص في الكوادر الطبية والمسعفين، ونقص في المواد الطبية والأدوية، نقص شبه كامل للمواد الغذائية وسبل البقاء الطبيعية، وأما من بقي صامداً في المدينة فيرزح تحت وطأة شروط من الصعب تخيلها، فكيف تحملها؟
اليوم تبدو العاصمة دمشق، أقرب ما تكون إلى أيدي الثوار السوريين. تدور معارك طاحنة على تخوم ساحة العباسيين شرقي العاصمة دمشق، ويقف الثوار بثبات في وجه هجمات قوات الأسد، التي راحت تعمل جاهدة من أجل إعادة سيطرتها على الأحياء التي كانت قد خسرتها سابقاً. يحكم الثوار السوريون اليوم سيطرتهم على أحياء شرقي العاصمة دمشق، ويعدون في استمرار العدة لدخول العاصمة وتحريرها من قبضة قوات الأسد. بينما فرضت الهجمات العنيفة التي شنتها قوات الأسد على الثوار توحيد جهودهم وتنسيق العمل فيما بينهم، وهو الشيء الذي أدى إلى بروز جبهة متماسكة ممتدة من برج المعلمين بالقرب من كراجات العباسيين شمالاً، وحتى المتحلق الجنوبي، تمنع أي تقدم لقوات الأسد نحو شرق العاصمة دمشق.
المستقبل