جيش الإسلام في دوما: من المظلومية إلى الحرب الأهلية/ ياسين الحاج صالح
تسنّى لي خلال إقامة لنحو 100 يوم في دوما بين ربيع وصيف 2013 أن أرصد سردية مظلومية دومانية مقترنة بسردية تفوّق، ويشكل المُركّب المتكون منهما معاً عقيدةَ أحقيّة يستثمرُ فيها ويستندُ إليها بقدرٍ كبير «جيش الإسلام»، التشكيل العسكري السلفي، الدوماني القيادة والمقر، المكوَّن أساساً من منحدرين من المدينة.
تسند المظلومية الدومانية نفسها إلى شكوى نوعية تميزها عن غيرها، تتمثل في أن المدينة دفعت أكبر عدد من الضحايا والمعتقلين في مطلع ثمانينات القرن الماضي بعد حماة، على ما يتواتر سماعه في دوما. قد لا يكون ذلك حقيقةً واقعة، فالمدينة لم تقع فيها مجزرة معلومة خلافاً لمدن وبلدات سورية كثيرة في شمال البلد، مثل جسر الشغور، فضلاً عما عانته حلب وحماة من مجازر متكررة وقتها. لكن المظلومية سرديةٌ تُبنى من مرويات وتذكرات ومبالغات مُقرَّرَة كحقائق، دون أن تكون كذلك تماماً. في كل مظلومية عنصر خيالي يقوم على تحويل مظالم أو ممارسات تمييزية فعلية إلى نسق من التمييز والظلم، ويبحث عن سند جمعي له، ويعثر عليه.
ويراد من إثبات تمييز قديم ضد المدينة التي كان يسكنها نحو نصف مليون تقريرُ مظلوميةٍ دومانيةٍ تنفع كل النفع في بناء هوية جهوية متماسكة. من شأن بناء هوية مميزة كهذه أن يلائم طامحين سياسيين وفق مبدأ: وحِّد، تصل! «جيش الإسلام» هو الطامح الأبرز الذي فاز منذ عام 2013 بالصراع المحلي على السلطة في سياق صراع الثورة السورية المتعثر. وأحد منابع فوزه هو أنه استثمر أكثر من غيره في المظلومية الدومانية، واستطاعت نخبته وصل الشكوى الأقدم مع شكاوى أحدث، منها مثلاً أن زهران علوش، قائد التشكيل، كان في سجن صيدنايا وقت تفجر الثورة، وفي وقت سابق كان سمير الكعكة، شرعيه اللاحق، في السجن نفسه.
«جيش الإسلام» أيضاً متشكل حول خطاب سلفي، صار تدريجياً الشكل الأنسب لعسكرة التعبير عن المظلومية السنية العامة في شروط حرب النظام ضد الثورة. وهو بعدُ خطابٌ أنسب للتعبئة الهوياتية من احتجاج شعبي عام لا خطاب له، على ما تمثَّلَ في لواء شهداء دوما، أقدم التشكيلات المقاتلة في المدينة. هذا تشكيل محلي شعبي، لا يصدر عن مظلومية جهوية خاصة، ولا عن عقيدة مميزة، وغير قليل من مقاتليه «زكُرتيّة» محليون، حفزتهم «النخوة» إلى مقاومة «الظلم»، وهو ما لا يكفي للتعبئة في شروط تطاول الثورة والحاجة إلى عتاد خطابي أكثر تركيباً، كما إلى موارد متجددة والسقوط اليومي للضحايا، وهي بمجملها شروط كانت ترفع الطلب على العقيدة والهوية.
لواء شهداء دوما يقاتل بشجاعة، وله الفضل في تحرير دوما أكثر من غيره، لكن افتقاره إلى خطاب مميز، جعله غير قادر على الاستثمار فيما حقق، بل على مجرد الاستمرار. ورغم أنه يحمل المدينة في اسمه، فإن من استطاع إثارة عصب دوماني عبر إثارة المظلومية، ومن وضع يده على هذا العصب، هو «جيش الإسلام» الذي شغل مواقع قيادية فيه منحدرون من أسر تجارية ودينية دومانية معروفة، وهذا بالضبط لأنه أدرج العصبية الدومانية إن جاز التعبير في خطاب معلوم مكرس من قبل، الخطاب السلفي (في عمومها، السلفية المعاصرة تجمع بين لغة ورمزيات قديمة وبين عنصر غير سلفي على الإطلاق: المظلومية الإسلامية السنية الحديثة). في جيش الإسلام كثيرٌ من دوما وكثيرٌ من الإسلام، أكثر من لواء شهداء دوما المكون من أبناء المدينة، لكنه لا يتميز بشيء عن مقاتلين محليين آخرين أخذوا بالظهور في العديد من المناطق السورية في عام 2012.
وبينما استقبل لواء شهداء دوما في صفوفه مقاتلين متنوعين، ومنهم من لم يكونوا فوق مستوى الشبهات من أكثر من وجه، ومنهم أيضاً منشقون عن جيش النظام، فقد كانت سرية الإسلام/ لواء الإسلام تشكيلاً نخبوياً، يحرص على اختيار عناصره وقادته من بين أصحاب «العقيدة الصحيحة»، مولياً عقيدتهم اهتماماً أكبر من كفاءتهم العسكرية. ولم يكن يُجيز انضمام ضباط منشقين عن جيش النظام. قد يجري تسويغ ذلك بأن «الرجل الملتزم بدينه والمتمسك بعقيدته» أشرس في المعارك وأثبت من الضابط العسكري المتلقي لجميع أنواع التدريبات، لكن في جذر ذلك أولوية الانضباط والطاعة، والتمايز الشديد عن المحيط، وهو ما يقتضي تفضيل من لا تاريخ لهم قبل الانضمام إلى التشكيل السلفي. كانت هذه هي الحال بخاصة وقت ظهور سرية الإسلام ثم نموها إلى لواء الإسلام، وقبل التحول إلى جيش الإسلام في أيلول 2013. التحول الأخير جرى في زمن انحدار لواء شهداء دوما وضياع الزخم التحريري، بينما كانت السرية واللواء مزامنين لظهور وصعود لواء شهداء دوما وتحرير المدينة والغوطة الشرقية. والقصد أن «العقيدة الصحيحة» كانت عنصر تمايز في وضع تنافسي، ظهرت فيه تشكيلات أخرى زال بعضها واستوعِبَ بعضها لاحقاً في سرية/ لواء/ جيش الإسلام.
اقترن تاريخ «الجيش»، زمن ما بعد المجزرة الكيماوية، بميل صاعد إلى التصرف كحزب واحد أو سلطة أمر واقع، وبعد مرحلة «الطهر الثوري» النخبوية المستندة إلى المعتقد السلفي، بدأت مرحلة الاستبداد بالأمر وأدواتها من اختطاف واغتيال، ومن احتكار مواد المعيشة في منطقة محاصرة، وخصوصاً من حرب أهلية في دوما والغوطة الشرقية، كان من أبرز وقائعها الحرب ضد «جيش الأمة» الذي كان قد استوعب ما بقي من لواء شهداء دوما. زهران علوش، قائد جيش الإسلام حتى مقتله قبل نهاية عام 2015، برَّرَ هذه الحرب بأنه لا يجوز أن يكون هناك رأسان لجسد واحد. وكما هو ظاهر، هذا مجاز عضواني، من صنف مألوف في تراثنا القديم، وقد كان دوماً شديد الصلاحية لتسويغ الاستبداد وحكم الواحد.
وينبني إفراد دوما ضمن محيطها في الغوطة الشرقية على عنصر تمايز هوياتي أقدم، كان من قبل خاملاً سياسياً، ويتمثل في واقع أن أكثر سكان المدينة الأصليين حنابلة. الحنابلة أقلية في سورية، قياساً إلى المذهبين الحنفي والشافعي (المذهب الفقهي السني الرابع، المالكي، نادرٌ في سورية)، وينتشرون في ثلاث بلدات هي دوما والضمير والرحيبة، وعدد قليل في دمشق. دوما هي الأكبر من هذه الجهة، وهو ما يعطي المدينة الواقعة على طرف الغوطة الشرقية الشمالي الشرقي شعوراً بالتميز عن محيطها كعاصمة للحنبلية السورية. ثم أن دوما هي الأكبر بين بلدات الغوطة الشرقية، ما أهَّلَها لأن تكون مركز محافظة ريف دمشق، وما يعطيها حسَّ المركز أو العاصمة. التقاء هذه العناصر الثلاث، المظلومية والمذهب الحنبلي والعاصمة، هي العناصر الأبرز في سردية تفوّقٍ دومانية، تتظاهر في شكل اقتحامي من توكيد الذات، يعترف به الدوامنة أنفسهم. ثم أن المدينة لم تشهد إقطاعاً من قبل، وسكانها حرفيون ومزارعون ورجال دين، الفوارق الاجتماعية القديمة بينهم محدودة. ورغم انتشار التطلع إلى الزعامة بين الدوامنة «الجِئرين» (مشاكسون وعنيدون)، إلا أنهم لا ينالونها بسبب التنافس فيما بينهم، على ما سمعتُ وقتها في المدينة. لزم الاستثمارُ في المظلومية وخطابٌ سلفيٌ من أجل إنتاج زعامة، عملت مع ذلك على فرض نفسها بالعنف، أعني زعامة جيش الإسلام، الذي لم يعد له هو ذاته رأسٌ واحدٌ منذ رحيل زهران.
يعزّزُ من حسّ التميز في المدينة أنه سقط الألوف من أبنائها في مسار الثورة، مئات منهم في الاقتتال الداخلي، لكن أكثرهم على يد النظام وحلفائه، وأن دوما كانت أولى بلدات الغوطة الشرقية المحررة من حكم النظام، وهي من أشعلت فتيل تحرير الغوطة بكاملها.
الثورة وفَّرَت للتشكيل السلفي بيئة تعبئة ونشاط في دوما، وقضية عامة على نطاق أوسع. حين ظهرت «سرية الإسلام» في أيلول 2011، نحو ثلاثة شهور بعد إطلاق سراح زهران علوش من سجن صيدنايا، لم يكن صعباً عليها أن تقيم استمراراً بين ثورية الدوامنة التي عبرت عن نفسها منذ وقت مبكر (دوما شهدت اعتصاماً كبيراً يوم 25 آذار بعد أيام من بداية الثورة، وسقط فيها شهداء منذ وقت مبكر أيضاً، وجرى لثمانية منهم تشييع حافل أول نيسان 2011)، وبين دور السرية الخاص في وقت مبكر من تعسكر الثورة. في مقابلة مصورة معه، قال زهران إنه أُفرِجَ عنه لأنه في مظاهرات دوما رُفِعَت لافتات تطالب به. قد لا تكون الواقعة مختلقة تماماً، لكن الرجل أُفرِجَ عنه في شروط الثورة العامة، التي كانت دوما من مهودها النشطة. الاستمرارية، وهي من الثوابت المتواترة في سرديات المظلومية، ميسورة الإثبات بين ما قبل الثورة وقت حبس زهران وشرعيّه اللاحق الكعكة، وبين الثورة التي أُفرج عن علوش بعد انطلاقها بثلاثة أشهر، ثم بينهما وبين سرية الإسلام التي شكلها زهران بعد ثلاثة أشهر إضافية.
حنبلية دوما سهلت لسرية الإسلام إقامة روابط إقليمية، مع السعودية بخاصة، الدولة الحنبلية بدورها، التي يقيم فيها عبد الله علوش، والد زهران. زهران علوش نفسه ولد في المدينة المنورة، ونال شهادته في الشريعة الإسلامية من جامعتها، وولادته هذه، إلى جانب اسمه، محمد زهران، واسم أبيه عبد الله، مؤهلات تُرجِّحُ أن يكون هو… «المهدي المنتظر». هذه النبوءة كانت متداولة في أوساط «لواء الإسلام» وقتَ كنتُ في دوما في ربيع وصيف 2013.
في عام 2013 وما بعد، أخذ لواء الإسلام يستثمر في سردية المظلومية/التفوّق الدومانية لتعزيز شرعيته الخاصة ونزع الشرعية عن غيره، من فصائل دومانية أخرى. «نحن ماسكين الجبهات [ضد النظام]، ونحن اللي نحمي دوما». هذه السردية خطابٌ عن التضحيات، مصاغٌ بلغة دينية ويدغدغ العصبية الجهوية للمدينة.
تصادم هذا التكوين العقدي الجهوي الخاص مع القضية العامة للثورة، وهو تصادمٌ تعزَّزَ أيضاً بالتكوين العائلي المذهبي الضيق للتشكيل العسكري السلفي الذي نما بسرعة. خلال عامين (أيلول 2011 – أيلول 2013) جرى التحول من مجموعة دينية مسلحة نخبوية إلى تشكيل عسكري محارب متوسع المراتب، يتراخى في معايير الانتساب إليه كي يتوسع (يتساهل مع التدخين مثلاً بعد تشدد مبكر)، إلى تشكيل سياسي عسكري ديني محافظ ومتطلع إلى الانفراد بالسلطة في منطقة نفوذه. قيادات جيش الإسلام تنحدر مثلما تقدَّم القول من أسر دينية تجارية نافذة في دوما، على نحو يتجسد في أبي همام البويضاني، القائد الحالي لجيش الإسلام.
الثورة والحرب وعدوانية الدولة الأسدية هي ما دفعت نحو مواقع السيطرة التيارَ السلفي، وقد كان أقلياً في دوما (بالكاد 10% حسب مصادر محلية)، ولم يكن أقوى شعبياً من «الاشتراكيين» (اسم التيار الناصري في دوما). وهو من جانبه توسل الحرب والاغتيال والخطف لتحقيق السيطرة على نحو يحاكي تماماً الحكم الأسدي. خطاب المظلومية مشترك بين التيارين الأقليين أيضاً. سجن الباطون الجيش-إسلامي يماثل في سيرته سجن تدمر، واليوم سجن صيدنايا الأسدي.
وسهَّلَ أمرَ انفراد أقلية بالسلطة في الحالين حالة البارنويا العامة التي استطاعا نشرها، في سورية مرة بفعل التقاء العدوانية الإسرائيلية مع حاجة طاقم حكم متواضع القدرات إلى الاستئثار بالسلطة، وفي دوما مرة بفعل التقاء العدوانية الأسدية مع حاجات طاقم متواضع بدوه إلى الانفراد بالسلطة في منطقة نفوذه. نَشرُ أجواء من الارتياب العام تسهّلُ السيطرة على العموم، وإظهارُ التعطش الأناني إلى السلطة في مظهر حماية غيرية للجماعة يسهّلُ خاصةً تحطيم الخصوم بتصويرهم كأعداء أو عملاء لهم.
تقاطع الحرب الأسدية ونزف الدماء الذي عانت منه دوما أكثر من غيرها في الغوطة الشرقية، مع مطامح زهران علوش الشخصية، ومع هيمنة الباراديغم السلفي الجهادي في أوساط السلفيين الحركيين، وبخاصة بعد 11 أيلول 2001، ثم احتلال العراق، وَضَعَنا أمام تشكيل سلفي مجاهد إن جاز التعبير (العلاقة بين السلفية والجهاد أقل جوهرية هنا مما هي عند التيار السلفي الجهادي، ومع غياب الصفة الأممية للسلفيين الجهاديين). مقاتلو جيش الإسلام محليون، وكانت للتشكيل روابط قوية بدولة محددة، السعودية، لكن مخيلته ورمزياته سلفية جهادية، ونظام الحياة في ظله لا يعرض فارقاً مهماً عن نظام الحياة في ظل جبهة النصرة مثلاً: النساء منقبات، وللرجال مظهر قياسي، والحيطان تعرض الخطاب السلفي الجهادي وتبرز النبوءات الأخروية الخاصة بالغوطة بالذات بوصفها «فسطاط المسلمين»، وهناك جهاز حسبة، ومكون أمني شديد القوة (في التداول كلام على 14 جهاز أمني عند جيش الإسلام). ويبدو أن عناصر «الحراك الشعبي» الذين هاجموا مركز توثيق الانتهاكات ومقرات أنشطة مدنية أخرى في دوما يوم 13 آب 2016 مرتبطون بجهاز الحسبة، أي بالمركب الأمني الشرعي (نسبة إلى شريعة وشرعيين) لجيش الإسلام، بالتمايز عن المركب السياسي الذي يحاول أن يظهر وجهاً عاماً أكثر. «الحراك الشعبي» هو بمثابة «منظمة شعبية» تابعة لحكم الحزب الواحد في دوما، ومُعزِّزَة لواحديته.
لا يعرض هذه الضرب السلفي المجاهد من الإسلامية أي تعارض مع ضيق الأفق المحلي. جيش الإسلام بالذات قد يكون حالة قصوى على هذا المستوى، لكن ما عدا الأمميين الإسلاميين من جوابي الآفاق، تبدو هذه سمة غالبة على الإسلاميين السوريين، بمن فيهم الإخوان المسلمون، الذين يستثمرون في سردية مظلومية سنيّة عامة، لكن في أوساطهم بالذات انقسامات جهوية.
جيش الإسلام الذي ربما تجاوز عدد منتسبيه عام 2014 الخمسة عشر ألفاً (المقاتلون أقل من النصف بحسب تقديرات متاحة، إذ الباقي أمنيون وإداريون)، تشكيلٌ دومانيٌ بقدر كبير، أي له إقليم ومقرّ وعاصمة. وهذا ليس حال جبهة النصرة أو داعش أو حتى أحرار الشام (هذه منتشرة على نطاق أوسع). ويجد قطاع من الدوامنة، محافظ وحِرفي، في جيش الإسلام عِزوتهم، وفي زمن صعوده حتى عام 2014 كانت المظلومية توسع دائرة التماهي بالتشكيل السلفي المجاهد، على نحو نجد نظيراً له في علاقة الدولة الأسدية بالبيئة العلوية، يحاكي أيضاً علاقة الشيعة اللبنانيين بحزب الله. بالمناسبة، يُنسَب إلى زهران علوش قوله عام 2012 إنه إما أن يحكم سورية أو أنه سيكون حسن نصر الله سورية. هذا أيضاً كان متداولاً في دوما عام 2013، وليس في دوائر مُخاصمة لزهران وجيشه. سردية المظلومية (كما حاولتُ أن أظهر في الضمير الخارجي: المظلومية وأصول الشر السياسي) تحولُ دون مساءلة النفس والحوار مع النفس، ودون تقمص الغير أيضاً، فتُسهِّلُ إيقاع الظلم على الغير. والتكوين الفكري الخاص لجيش الإسلام، أعني المعتقد السلفي النصي، يُحِلُّ المفتي والفقيه محل الضمير. وهناك عناصر أخروية وغيبية خاصة ينبغي ألا تُنسى، منها أحاديث تُنسب إلى الرسول تتكلم على الغوطة بوصفها فسطاط المسلمين، ومنها مروية المهدي المنتظر التي تقدمت الإشارة إليها، ومنها عقيدة فتح روما التي استظهرها زهران أيضاً في أيامه. عناصر الامتياز هذه تفصل الجماعة الموعودة عن غيرها، وتضعها فوق غيرها وتبيح لها العدوان على غيرها.
هذه العناصر تلاقت في خلفية الجرائم التي ارتكبها جيش الإسلام. لدينا تشكيل محلي متواضع المؤهلات، تلاقت ظروف الثورة العامة والعلاقة القديمة لوجهائه مع السعودية لتكبيره، قبل أن تتغلب غرائزه المحلية الضيقة ويرتكب جرائم كبيرة تعيده صغيراً. التشكيل الأقلوي الدوماني الذي تضخم وانتشر خارج مهده إلى القلمون وإلى الشمال السوري، وبلغ الذروة في الشهور التالية لتحوله إلى جيش في أواخر أيلول 2013، يعود اليوم دومانياً، محارباً دومانيين قبل غيرهم. اعتقال أبو صبحي طه، قائد جيش الأمة، منذ ثلاث سنوات ونيف، والقتل الاستعراضي الداعشي لأبو علي خبية، واغتيال محمد فليطاني، وقبله الشيخ أبو أحمد عيون، ومحاولة اغتيال الشيخ أبو سليمان طفور…، كلها تندرج في إطار فرض نظام الحزب الواحد في دوما. وقبل ذلك كله اختطاف سميرة الخليل ورزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادي في 9/12/2013.
القصد المجمل هو أننا حيال تشكيل أقلّي، عمل على فرض حكمه الواحدي بالقوة على نحو يستعيد بنية الدولة الأسدية. لا نحتاج إلى الذهاب بعيداً في البحث عن نموذج لسلطة حزب الإسلام في دوما، النموذج الأسدي هو النسخة الأصلية.
الإسلام يُستخدم هنا تماماً مثلما استُخدمت العروبة بعثياً. كل شيء يُطلى بلون إسلامي في دولة جيش الإسلام مثلما طُلي كل شيء بلون عربي في دولة البعث. لكن المحتوى في الحالين هو السلطة. وقتَ كنتُ في دوما رأيت مراراً شعارات مثل: الأسد أو لا أحد! أو: رجال الأسد مروا من هنا! وقد تحولت إلى: الأسلام أو لا أحد! (شعار الإسلام أو لا أحد ورد على لسان زهران علوش في تسجيل صوتي سمعته في دوما)، و: رجال الأسلام مروا من هنا! البنيةُ واحدة (تنظر من أجل تفاصيل أكثر مقالتي: صورة، علمان، وراية).
جمع جيش الإسلام أسلحة كثيرة، وعمل على حمايتها بدل أن يستخدمها في مواجهة النظام أو في حماية السكان منه (هنا أيضاً مثل الدولة الأسدية بالتمام والكمال). وهو بعد اغتيال مؤسسه وقائده زهران علوش لم يستطع أن يردَّ على هذا الضربة بصورة تردع النظام المستمر في قصف دوما والغوطة الشرقية متى عنّ له (مثلما تفعل إسرائيل في سورية متى راق لها). والتشكيل السلفي العسكري يبدو اليوم فاقداً لكل إرادة سياسية على مواجهة النظام أو تغيير شيء من مساره، تماماً مثلما دولة الأسديين في مواجهة إسرائيل. وهو اليوم في هدنة مع النظام توسط فيها الروس و… المصريون، يجري تبريرها بـ «حقن دماء المسلمين» أو بـ «استراحة مجاهد»، بعد أن كانت في وقت سابق «حراماً»، وكان «قتال النصريين والشيعة» واجباً شرعياً. هذا التذبذب الذي تخصَّصَ شرعيو جيش الإسلام في تلفيق المبررات له، هو واحد من أسباب انحدار الحالة الشعبية في دوما والغوطة الشرقية. من الأسباب المهمة الأخرى التضحيةُ بألوف المقاتلين، الدوامنة في معظمهم، في معارك غير أساسية، بما فيها معركة عدرا العمالية في ربيع 2014، وكان من أكبر المتضررين منها اللاجئون الدوامنة الذين اعتقل النظام المئات منهم بجريرة جيش الإسلام. ومنها التحكم بالموارد المهربة من دمشق عبر الأنفاق، من غذاء ومحروقات ودواء، وتسويغ ذلك شرعياً بتأمين مستلزمات المجاهدين على الجبهات. ومن أهمها الممارسات الأمنية التي تضيق على الناس بذرائع الاختلاط أو عرض ملابس نسائية على واجهة محلاتهم، أو سماع الموسيقا، أو حتى كتابة بوست على فيسبوك! الحصار بحد ذاته لم يكن من أسباب انحدار الحالة الشعبية، لولا أنه شُفِعَ بحصار داخلي من قبل سلطة الأمر الواقع.
اليوم يبدو هذا التشكيل الأقلّي راضياً بأقل بكثير من حكم سورية أو جعل دوما ضاحية جنوبية، يبدو أيضاً مرشحاً لتسوية مع النظام، قد تُقَرُّ الشريحة النافذة الجديدة في دوما على ما جنت من نفوذ محلي وثروة، وتؤمن لها قناة مع مراكز السلطة الفعلية بمرجعية روسية، وهذا ربما مقابل تسليم السلاح الثقيل. قد تتحقق لجيش الإسلام، ربما بعد تغيير اسمه إلى اسم «وطني»، مكانةٌ خاصةٌ في دوما، في إطار ما يبدو من تناهش مافيات متنوعة البلد من وراء استمرار الاسم الأسدي.
الحزب الواحد الأسدي آلَ إلى حكم الشخص الواحد ثم الأسرة الواحدة، وهو اليوم في سبيل التحول إلى مظلة لعصابات وعصبيات متنوعة، توسع هوامش مناورتها حيال عصابات وعصبيات أخرى بالاستناد إلى هذا المحتل الأجنبي أو ذاك. ولا يبعد أن جيش الإسلام، بعد التعديل الوطني المحتمل، يتحول في الاتجاه نفسه، ليصير مظلة لمافيات عائلية نافذة، تستظل بالمظلة الأسدية، أو تتقرب من المحتلين الروس أو حتى الإيرانيين.
موقع الجمهورية