جيمس سالتر: الكتابة أو الهلاك/ أمير داود
“أنا أحب أن أفرك الكلمات بين أصابعي”. هكذا يصف الكاتب الأميركي جيمس سالتر، الذي رحل قبل أيام عن 90 عاماً، طريقته في الكتابة. وصْف قد يكون مفتاحاً مهماً من مفاتيح فهم أسباب إقلال الكاتب الذي أصدر في حياته كلها ست روايات فقط:
“أنا شخص أحب أن أقبض على كل كلمة أكتبها، ثم أقلّب هذه الكلمة بين أصابعي وأتحسسها، وأن أسال نفسي بعدها: هل هذه الكلمة هي المناسبة فعلاً هنا؟ ثم أبحث عن التيار الكهربائي الذي يسري داخل هذه الكلمة؛ ساعتها أعرف أثرها على القارئ”.
بهذا الوصف المكثف، يقدّم سالتر رؤيته السريعة عن أهم أساس من أساسيات الكتابة. الكاتب العائد من حروب أميركا في أقصى الشرق، يقول في مقابلة مطوّلة وكاشفة، أجرتها معه صحيفة The Paris Review لصالح طبعاتها القديمة: “لا أكتب كل يوم، لا أستطيع فعل ذلك، أو بالأحرى لست متأكداً أنني قادر على وضع نفسي في المكان المناسب الذي يمكنني من الكتابة”.
يكمل الكاتب المعروف بعزلته المطبقة: “أنا أكتب بعزلة تامة، صحيح أنني في مرات أسجّل بعض الأفكار والجمل في أماكن عامة كالقطار مثلاً، لكن الصنعة الحقيقية تكون ضمن عزلة تامة. ثم يسترسل حول ذلك: “السفر يساعد كثيراً في الكتابة، لا شيء أفضل من طريق مفتوح أمامك لتكتب، ورؤية أشياء طازجة وعلى طبيعتها، إن الأمر غير متعلق في الحصول على قصص جديدة أو التقاء وجوه جديدة، لكن الأمر متعلق برؤية الحياة من منظور جديد”.
لا تبدو التسعين عاماً التي عاشها سالتر منعكسة تماماً على منجزه الأدبي الذي اكتفى من خلالها بإنجاز ست روايات فقط. بدأ مشوراه في الكتابة أساساً في منتصف الثلاثينات من عمره، مستهلاً إيّاه برواياتي “القناصة” و”ذراع من لحم” أثناء عمله في البحرية الأميركية، إضافة إلى مجموعة قصصية واحدة.
كانت تجربة لافتة في الأدب الأميركي الحديث بشهادة الكثير من النقاد والروائيين المجايلين. لكنه، في الوقت نفسه، ينفي أن تكون الرواية محض خيال الكاتب وحده: “الكتابة ليست علماً. لكن كل الكتاب الذين أعرفهم أو أعجبت بهم، صنعوا أفضل الروايات التي عكست حياتهم وأفكارهم ونظرتهم للحياة”.
لا يتوقف صاحب “رجل العزلات العالية” عن توجيه سهام النقد للذين يضعون حدوداً وصفية وتنميطية للروايات؛ ما بين روايات الخيال وروايات الواقع: “هنالك حدود اعتباطية نضعها بين الأصناف الأدبية، كإطلاق أوصاف على الروايات مثل روايات الخيال وروايات الواقع. الرواية تحكي قصة كاتبها، وتحكي أيضاً معرفته العميقة في العالم من حوله؛ الرواية لا تتجاوز، وهنالك استثناءات طبعاً، حدود معرفة كاتبها، أو حدود الواقع الذي يعيش فيه الكاتب”.
ويقول أيضاً: “أكثر ما يدفع إلى الكتابة هو الرغبة في الخلود، كل شيء إلى زوال، ولولا الكتب والروايات والشعر، لمات كل شيء”.
لا يخفي، من اختار لنفسه طريقين لا ثالث لهما؛ “أن أكتب أو أن أهلك”، إعجابه بأعمال هنري ميلر: “إنه كاتب لا يقاوم، لا أقول إن كل أعماله تفعل ذلك، هنالك بعض التكرار في أعمال مثل ربيع أسود، والضفيرة وغيرها، لكن عمل مثل مدار السرطان تستطيع أن تقول إنه عمل عظيم”.
ويعترف: “لم أكتب شيئاً يشبه ذلك، حتى إنك حين تقرأ له تستطيع سماع صوته داخل الرواية”. وعلى صعيد الشعر، يعلن الرجل الذي قيل إنه أفضل من كتب اللغة الأميركية، تأثره بأندريه جيد وهنري دي مونتثيرلان وفورد مادوكس فورد، وبالكتاب الفرنسيين عموماً في مرحلة ما من مراحله الكتابية. وينصح بقراءة أعمال كل من لوركا ولاركين، وإزرا باوند؛ وخصوصاً كتابه الشهير “كانتوس”.
وبعد ما أثير من ضجة وجدل حول روايته “رياضة وترف”، تلقّى سالتر كثير من العروض لتحويلها إلى فيلم، ورفضها جميعاً: “الرواية واضحة ولا تحتاج إلى محاولات جديدة لتوضيحها، فهي تقوم على جانب أيروتيكي، وأنا أردتها أن تكون كذلك، بل واستخدمت كلمة “فسق” التي استخدمها لوركا في أكثر من موضع لتتكلم عن الأمور التي لم يتكلم عنها أحد”.
يُلاحظ في أعمال سالتر تأكيده الدائم أهمية الاعتراف بالنوازع الجنسية، وحول هذا يقول: “أنا سعيد بهويتي الجنسية، لكن ادّعاء الذكورة النقية هو أمر ممل وغير كاف. جميل أن تستمع إلى رجل يتحدث عن القتال والصيد والحرب والرياضة، لكن من المهم أيضاً ألا يتم تجاهل الجوانب الجمالية الأنثوية الأخرى في شخصية الرجل”.
في رواياته أيضاً، هنالك تركيز دائم على مفهوم الاختبار أو المحنة (تخص الرجال غالباً). لأن الحياة كلها، بحسب وصفه، “في محنة أصلاً؛ إنها وسيلة لسرد القصص ولتأكيد أن الشجاعة موجودة دائماً في مكان ما”.
يستعرض سالتر تجربة من تجاربه المبكرة مع صحيفة The NewYorker الأميركية الشهيرة حين عرض عليها نشر قصته Via Negativa. يقول: “استدعاني محرر الجريدة وأخبرني قرار رفض نشر القصة. ولما استعلمت عن السبب قالوا له: إن لديهم خطين أحمرين لا يتجاوزوهما: الفحش في الأدب والحديث عن الكتّاب والكتابة”، ويتابع: “التقيت بعد عامين بالكاتب ساول بيلو، وكان له تجربة مشابهة مع الصحيفة نفسها، حين رفضوا نشر قصته وأبلغوه إن لديهم خطين أحمرين أيضاً؛ أولاً ألا يكتب هذا الكم من الفحش، وأنهم لا ينشرون أي شيء عن الموت”.
العربي الجديد