جين أوستن: احتفاء واغتصاب!/ صبحي حديدي
في بريطانيا، وأصقاع أخرى من عوالم القراءة الأنغلوفونية، انطلقت هذه السنة احتفالات شتى بالذكرى الـ200 لرحيل الروائية الإنكليزية الشهيرة جين أوستن (1775 ـ 1817)؛ لعلّ أبرزها، ثقافيا، المعرض الذي تحتضنه «المكتبة البريطانية» في لندن، ويستعيد عشرات الوثائق، والمخطوطات، والمقتنيات الشخصية؛ وفي طليعتها، على صعيد الحياة العملية، إصدار ورقة نقدية بقيمة 10 باوندات، وقطعة نقدية بقيمة جنيهَيْن، تحملان صورتها. والأرجح، كما للمرء أن ينتظر، أنّ السينما والتلفزيون والمسارح والمكتبات، فضلا عن أروقة الجامعات والمعاهد ومراكز البحث، سوف تشهد عشرات الأنشطة حول سيدة عُدّت، على نطاقات واسعة ومتشعبة، «أيقونة» الرواية الإنكليزية الحديثة.
من جانبي أتوقف، في هذه المناسبة، عند وجهتَيْ نظر حول أدب أوستن؛ الأولى قال بها إدوارد سعيد، والثانية جاءت من الروائي الترنيدادي ف. س. نايبول؛ دون أن أعني، بذلك، أيّ مستوى من المقارنة، بصدد الكفاءة أو النزاهة الفكرية أو الأخلاقية، بين الرجلين. الأمر، في مستوياته الأهمّ والأبسط، يخدم في استكشاف ذلك التعقيد (غير المنتظَر لدى غالبية لا بأس بها من محبّي أوستن) الذي اكتنف أدبها في مختلف قراءاته اللاحقة، وخاصة على ضوء مناهج التحليل والتأويل في النظرية النقدية المعاصرة.
ففي «الإمبريالية والثقافة»، 1993، في قسم بعنوان «جين أوستن والإمبراطورية»؛ يسعى سعيد إلى استكشاف الروابط ـ غير المباشرة للوهلة الأولى، والمباشرة أيضا في نماذج كثيرة ـ بين أدب أوستن والمشروع الاستعماري والإمبراطوري البريطاني، وتحديدا في رواية «روضة مانسفيلد»، 1814؛ كما يتجلى ذلك في نظرة الراوية فاني برايس (أوستن نفسها، في الواقع) تجاه مزارع قصب السكر التي يمتلكها السير توماس بيرترام ما وراء البحار، وكذلك مبدأ العبودية وتشغيل العبيد.
ومن خلال اتكاء على كتاب رايموند وليامز «الريف والمدينة»، وأفكار جون ستيوات مل حول «الواجبات المقدسة التي تقع على عاتق الأمم المتحضرة «تجاه الشعوب المستعمَرة أو المستعبَدة؛ يستخلص سعيد أنّ الإيديولوجيا الاستعمارية، التي أتاحت للقيم الإنسانوية البريطانية أن تترعرع جنبا إلى جنب مع تبخيس الثقافات المستعمَرة، واضحة أو حتى مركزية في الروايات ما قبل الإمبريالية، والتي لا تُصنّف عموما في خانة الأعمال ذات الموضوعات الاستعمارية الصريحة.
يومها قامت الدنيا ولم تقعد في أوساط بعض النقاد البريطانيين، وبينهم عدد من أبناء الثقافة الأنغلو ـ ساكسونية، وذهب البعض إلى درجة الحديث عن «اغتصاب» أوستن! هؤلاء، بالطبع لم يكونوا على عدائهم القديم لـ«الاستشراق»، كتاب سعيد الإشكالي الذي كان قد صدر قبل 15 سنة، فحسب؛ بل كذلك لأنّ أوستن رمز للمبدأ الاستعماري القديم حول «عبء الرجل الأبيض»، وأيقونة آداب التاج. ولقد أوضح سعيد، في ذلك النصّ ذاته، كما في تعقيبات لاحقة، أنه ليس من السخف العقلي بحيث «ينتظر من جين أوستن أن تعامل العبيد على أيّ نحو يشبه تعاطف أحد أنصار تحريم العبودية، أو أحد العبيد المحررين»، من جهة أولى؛ أو انه يرى الروائية البريطانية في صورة «امرأة بيضاء، فاقدة للحسّ، متواطئة» مع الاستعمار والنظام العبودي، من جهة ثانية. في المقابل، اعتبر عمل أوستن «غنيا»، و»تعقيده الجمالي والفكري» يقتضي تحليلا أعمق وأكثر تمهلا.
نايبول، حامل نوبل الآداب للعام 2001 وخلال لقاء مفتوح في «الجمعية الجغرافية الملكية» ـ وليس في أي مكان آخر! ـ سُئل إنْ كان يرى أي امرأة كاتبة تعادل أدبه، فقال، دون أدنى تردد: «لا أظنّ ذلك»! وماذا عن أوستن؟ أجاب نايبول: «لا أستطيع أن أتقبّل طموحاتها العاطفية، وحسّها العاطفي بالعالم»؛ خاصة أنّ المرأة، عموما، «مختلفة تماما». كيف؟ «أقرأ قطعة من كتابة ما، وخلال فقرة أو اثنتين أعرف إنْ كانت لامرأة أم لرجل. ولهذا فإنّ أوستن ليست مكافئة لي». ثمّ، أبعد من هذا وذاك، المرأة إجمالا تعاني من «المزاج العاطفي، والنظرة الضيقة إلى العالم. وما دامت، بالضرورة، ليست سيّد بيت ما، فإنّ هذا الإحساس يجتاحها في الكتابة أيضا».
والحال أنّ هذا الموقف من المرأة يستكمل سلسلة مواقف نايبول العنصرية والاستعمارية، رغم أنه سليل إحدى المستعمرات؛ الأمر الذي دفع سعيد، نفسه، إلى وصفه هكذا: كراهيته للشعوب، وللإسلام خاصة، «دفعته إلى الكفّ حتى عن التفكير، بمعنى ما، فأصبح عوضا عن ذلك حالة انتحار ذهني تجبره على تكرار الصيغة ذاتها مرّة بعد أخرى، وهذا ما أسمّيه مصيبة فكرية من الدرجة الأولى». وضمن سطور مراجعة لعمل نايبول الشهير «في أوساط المؤمنين: رحلة إسلامية»، 1981، أوضح سعيد أنّ هذا الرحالة يأتي إلى بلدان الشرق محمّلا بانحيازين مسبقَيْن: الأوّل ضدّ ثقافة أهل البلد، والثاني ضدّ تحرّر البلد ذاته من الاستعمار الغربي!
وبين احتفاء رسمي، يصنعه المتحف والورقة النقدية؛ ومقاربة فكرية وتحليلية فارقة، من طراز ما اقترحه سعيد؛ وإفقار نرجسي مريض، على شاكلة نايبول… تظلّ روايات أوستن مدعاة جاذبية عريضة لدى شرائح قراءة مختلفة، في أربع رياح الأرض، ولغاتها؛ كما تظلّ الأبعاد الرومانتيكية، والعاطفية تحديدا، في طليعة الخصال الأثيرة، صانعة الاحتفاء الأعظم والأبقى.
القدس العربي