جَدلٌ سوري خارج العقل الأيديولوجي/ مضر رياض الدبس
هو صوتٌ إنسانيٌ حديثُ الصَحوةِ، مُتقد الطَرحِ، نبيلُ الغاية والمصالح، ذاك الذي يُمليهِ الفكرُ الأصيل على المحاربين، بعد أن يختمرَ ويتعبوا. هو مشروعُ السلام والبناء والاتفاق حول المستقبل، نقيضُ الحرب والخراب والشجار على حيازة كتاب الوجود. ولن يُملي الفكرُ في حالة الحرب السورية سلامًا، إلا عند تَشبُّعِه بجدلية العلاقة التي تربطه مع الواقع، وعند تحرره من قيد المؤدلج والمقدس والماورائي، فضلًا عن تَفاقم مأساة الجهل، والتي عند اكتمال فصولها تجعلُ المتحاربين أكثر امتثالًا لإملاءات الفكر، ما يتيح لحامله الانسجامَ معه، بعد أن خَبِرَ نتائج نقصه؛ فلا يعود المشهدُ محض تنازع عواطف وتنافر أعمال، ويصبح الإجماع السياسي الممكنُ ضرورةً، والاختلاف الثقافي الطبيعي حقًا أصيلاً، كأصالة الفكر الذي يصونه في إطار المجتمع المدني، ويجمعه، على اختلافه، في إطار المجتمع السياسي في دولة وطنية حديثة.
ومن أجل مقاربة سليمة لمنهجية هذا الفكر، وشكله العام، لا بد من تحديد مجموعة وضبط مفاهيم وسلوكيات، تبدأ من معرفة دقيقة بعمق المسؤولية التي يحملها من يتطوع لتقديم الفكر في هذه اللحظات الحساسة والتاريخية في سورية والمنطقة، لأن الفكر الذي سيقدّم الحل سيكون بديلًا عن التجريبية في السياسة، وهذا الفكر ليس صفة فطرية إلا بالأهلية له، وإن لم تخضع هذه الأهلية للتطوير والتثقيف بدافع المسؤولية تحولت إلى “فوقية”، لا سبيل لصاحبها إلا التعالي والمزاودة وتضخيم الأنا، والأمثلة على ذلك كثيرة في المشهد السوري الراهن. ويَنتُج الفكرُ المفيد عن معرفةٍ دقيقةٍ بالواقع، وهي معرفة لا تتكون عن طريق كشف مباشر لبنية هذا الواقع فحسب، بل يجب تحديدها وفهمها على أنها نشاط إنساني، أولاً وأخيرًا، من حيث هي رابطة خاصة بين الذات والموضوع، يتداخلان وينفصلان في مجالها. هذا يعني أن النشاط المعرفي يُحوِّل ويغيّر الواقع، وفي الوقت نفسه يُحوّل ويغير الناس والمفكرين أنفسهم، وكذلك هو يُشتق من الواقع. وتلك ثاني المفاهيم التي تحتاج لفهم وتحديد، هي جدلية العلاقة التي تربط بين الفكر والواقع وتاريخية المعرفة.
ومن هذا المنطق، تصبح مسألة تاريخ الحراك السوري، الآن، ليست مفيدة للحل، بقدر الفائدة من تاريخ فهمنا هذا الحراك وتاريخ وعينا الذي تشكل بسبب هذا الحراك، وبالتالي، تحديد منهجية نقدية تاريخية لخلق الفكر السوري الجديد. ومن هذا المنطق، أيضًا، يصبح ضرورياً أن ينكبَّ الفكر السياسي السوري على فهم ظاهرة تعايش الأضداد ضمن العقل الثوري السوري منذ بداية الحراك، من الغناء للحرية إلى التغني بالقتل، ومن ألحان القاشوش إلى أزيز الرصاص.
“يصبح ضرورياً أن ينكبَّ الفكر السياسي السوري على فهم ظاهرة تعايش الأضداد ضمن العقل الثوري السوري منذ بداية الحراك”
ومن أهم ما سيقتضيه هذا المنهج إنجاز فهمٍ دقيقٍ لمسألة الوطنية والدولة الوطنية، ووضعها قبل أي مصلحة فوق وطنية، سواء كانت هذه أيديولوجية، أو مقدسة، أو ذات هاجس ماورائي يبحث في ما يتعالى على سنن التطور والتاريخ والواقع. ويصبح من البديهي أن ينكبَّ الفكرُ على إنشاء دولة وطنية حديثة، تكون لسورية، كالفيزياء بالنسبة للطبيعة؛ فنزداد معرفة بسوريتنا بقدر اهتمامنا بتطوير مفهوم دولتها الوطنية الحديثة، والتشبع بها، وبناء أسسها، وتكون سورية كالطبيعة تُسخَّر في خدمتِنا، وتعلمنا أن نُسخِّر أنفسنا في الحفاظ عليها من مبدأ الاستدامة. والأمر المهم الآخر يتعلق بضرورة التمسك بنسبية المعرفية، وبمبدأ القابلية للمراجعة، وبإنجاز الانتقال الضروري من العمل على الكشف عن الحقيقة المطلقة، التي تُولِّد الأوهام وتبعدنا عن الحياة أكثر مما تقربنا منها، إلى العمل على الكشف عن جوانب النقص والخطأ والفشل. هو، إذن، منهج التفكير “التاريخي _ النقدي”، أو ما يسمى “الديالكتيك العلمي” الذي يتحرر من جميع الأنساق، ولا يستغني عن أحد منها. والواقع إن الدراسة النقدية للثورة السورية أصبحت خيارًا وطنيًا أكثر من أي وقت مضى، فالثورة جبّت ما قبلها، وهي تعيش، الآن، مع فوضى المفاهيم والدلالات وانفتاح البلاد على أسوأ الاحتمالات والتدخلات. ولكي تكون هذه الدراسة النقدية دقيقة وشاملة، يجب أن تعود إلى ماضي الثورة وتدرسه، لا لذاته كما يفعل المؤرخون، بل من أجل فهم المشكلات المطروحة في الحاضر، وتفادي تفاقمها في المستقبل، ومن أجل تكوين الانسجام في الخطاب الثوري الوطني، وتكوين الفهم السياسي العميق للتعامل مع الظرف الإقليمي والدولي المحيط، ضمن الحاجة والإمكانات. وكذلك تَعقد الدراسة النقدية مقارنات بين الأسس والمفاهيم القديمة والأسس والمفاهيم الجديدة، فتحدد مواطن التطور والنكوص. وضمن هذا المنطق الذي ينطلق من الوعي المقارب بديلًا للوعي الأيديولوجي، تصبح مفاهيم الدولة الوطنية الحديثة والأمة والشعب والمجتمع المدني والديمقراطية…إلخ، تصبح مفاهيم غير مكتملة، وفي حالة تطور وتجديد مستمرين. وهذا ما يثبّت على اليقين صفة المؤقت، وما يثبّت على المعرفة صفة النقص، وهذا الذي يبقي البابَ مفتوحًا أمام الكرامة والحرية والسعادة والرفاهية، لتزداد أكثر، وتلك كانت أسمى أهداف الثورة السورية عند البداية.
العربي الجديد