صفحات الثقافةغالية شاهين

حارس المعبر .. “الثوار الرقباء”/ غالية شاهين

 

 

“ممنوع” كلمة قاسية وحادة، تختصر، ببساطة، تاريخا كاملا من القمع الذي بدأ مع بداية الإنسان، وما زلنا، نحن العرب، نعيش تحت سقفه، وإن اختلفت أشكال “الرقيب” الممارس له وأساليبه في “المنع”.

تعدد الرقباء في حياتنا، ليصبح، للأسف، وجودهم في كل تفاصيلنا أمراً معتاداً، ولنتبادل جميعنا لعب أدوارهم على أنفسنا وعلى الآخرين، وهذا بالضبط أسوأ ما ورثناه، كمجتمع عربي. ولعل أجمل ما في ثوراتنا التي ملأت سنواتنا الخمس الماضية، هو التحدي الجميل المعلن للرقباء منا وعلينا، والذي هز، لأول مرة في تاريخنا، كل التابوهات التي شكلت شخصياتنا قروناً.

حرصت الأنظمة العربية، والنظام السوري خصوصاً، على الممارسة الشديدة لدور الرقيب على الفكر والإعلام، ليصبح القلم والرأي والفكرة ألد أعدائها. ولم يزل التاريخ، البعيد والقريب، حافلاً بالأمثلة على مصادرة منشورات أدبية وإعلامية عديدة، مع محاربة كتابها، والتي وصلت، في حالاتٍ كثيرة، إلى تصفية أصحاب الأقلام، خوفا مما يقولون أو يكتبون.

ففي سورية قائمة طويلة بأسماء كتب وجرائد ومجلات عربية وعالمية، كانت موزعة على كل “حراس المعابر” في المنافذ الحدودية، وكان تهريب السلاح والمخدرات جريمة أسهل وأخف عقوبة من تهريب مخطوط أو جريدة مغضوب عليها، أو على مقال مكتوب فيها. لم تكن تلك القائمة ثابتة، بل كانت تحدّث باستمرار، وفقا لمعايير تتغير تبعاً لتوجهات النظام، وتقارير يعدّها من يحملون مقص “الرقابة”.

انتفض السوريون منذ أربع سنوات ونصف، معلنين، بكسرهم حاجز الصمت، أن أصواتهم وكلماتهم لن تبقى طي صدورهم بعد ذلك اليوم، وأنهم سيكسرون مقصات الرقابة الموضوعة على ألسنتهم، كما سيكسرون أصنامهم كلها، لكيلا يكون هناك من هو منزّه عن النقد والحساب.

وما زال النظام السوري، حتى اليوم، يخشى تلك الأصوات، وما زالت أجهزته الأمنية تلاحق من يحمل سلاح الكلمة فقط، وتضعه أعلى قائمة مطلوبيها. لكن الأسوأ، أن من يحكمون اليوم في بعض مناطق سورية، بحجة أنهم من الثوار، لا يختلفون في ممارسات كثيرة عن نظام الأسد الذي يدّعون أنهم سيشكلون بديلا عنه، بل إنهم يعيدون صياغة الاستبداد والقمع، ولكن بلباس ولسان ومرجعيّة جديدة.

المشكلة إذا، مرة أخرى، هي الرقيب. تلك السلطة القمعية التي دفع السوريون ما دفعوا، حتى الآن، للتخلص منها، لكنها تأخذ اليوم أشكالا جديدة، لا تشبه ثورتهم في شيء، ومنها “حارس المعبر”.

ففي معبر باب الهوى الحدودي بين سورية وتركيا، والذي تدخل عبره النسخ الورقية لكل الصحف السورية المعارضة المطبوعة في تركيا، يقف حارس تابع لحركة أحرار الشام الإسلامية، إحدى أكبر الفصائل السورية المقاتلة على الأرض، والتي تسوق نفسها على أنها جهة معتدلة تأخذ على عاتقها حماية السوريين، وتقدم نفسها على أنها الأنسب لتكون بديلا للنظام بعد سقوطه.

وبنظرة هازئة أصلا من دور الإعلام وأهميته، يمسك هذا الحارس مقص الرقيب ويتقمص دور المقيّم لما يجب أن يُنشر أو يُمنع، وبالطبع، وفقا لمعايير جديدة قديمة، تتلخص في تناول شخصياتٍ، تم أخيراً تقديسها لدى بعضهم، أو انتقاد عمل وفكر وتصرفات أشخاص آخرين، أو مناقشة فكرة تخص مستقبل البلاد، لكنها تخالف رؤية الجهة التي يتبع لها الحارس، لهذا المستقبل. وبناء على هذه المعايير، يصادر الحارس نسخ الصحيفة المخالفة لأوامره، ويمنع دخولها وتوزيعها في المناطق المحررة.

حدث هذا “المنع” مرات، ولعدة جرائد وصحف سورية، كـ”عنب بلدي” و”طلعنا عالحرية” و”صدى الشام” التي منعت ثلاثة أعداد منها حتى الآن، مع تهديد بمنع تام من إدخال نسخها وتوزيعها، بناء على قرار “شرعي” من “الهيئة الشرعية في باب الهوى”.

ليس هذا ما خرج السوريون لأجله، وليس هؤلاء من يحق لهم أن يمثلوا ثورة الشعب السوري العظيمة التي أسقطت نظام طاغية دمشق، وستسقطهم من بعده. فالحرية لا تتجزأ، وعندما يطلق شعب صوته للريح لن تستطيع الجدران، مهما علت، أن تسجنه من جديد، حتى وإن وقف عليها مئات من “حراس المعابر”.

(كاتبة سورية)

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى