حازم صاغية و”البعث السوري ـ تاريخ موجز”: ما جاء به البعث سيذهب معه
حاوره يوسف بزي
يستمر حازم صاغية عبر كتابه الجديد «البعث السوري تاريخ موجز» (دار الساقي) في «مراجعة» تاريخ سياسي ثقافي تداخله الذاكرة الحميمة. وهو إذ يجمع الحوادث في سرد أقرب الى الرواية البوليسية وتشويقها، إلا أنه باستمرار لا يترك الوقائع من غير قراءة وتأويل.
هكذا، بين السرد (الأدبي) والتحليل (النقدي) يؤلف صاغية رواية لتاريخ سياسي، كنا نظنه باستمرار مستعصياً على السرد، وذلك لشدة تناقضاته واضطرابه وتقلّبه، عدا عن شعورنا أنه لا ينصرم ولا يصل الى خاتمة.
عن كتابه الجديد، وهو المتصل أيضاً بأحوال راهننا العربي، كان هذا الحوار:
[ كتابك الأخير «البعث السوري تاريخ موجز»، هل يصح وصفه بأنه التأبين الأخير لإيديولوجيا «العروبة»؟
ـ حقيقة، إن «البعث» أشياء عدة في وقت واحد. فهو كبير ممثلي العروبية المشرقية، وهو أيضاً كبير قاطرات الانتقال الطبقي والاجتماعي لفئات كانت مهمشة، وهو كذلك كبير معابر العسكريين الى السلطة في منطقة المشرق، وهو أخيراً كبير ممثلي الديماغوجية في اللغة السياسية العربية.
في هذا المعنى، لا يقتصر التأبين على العروبة وحدها، بل يطاول، في حالة «البعث»، ضحايا كثيرين آن الأوان لتأبينهم.
والحقيقة، أن «البعث» كان السبّاق الى عملية التأبين هذه بفعله ذاته وتحوّله الى مجرد طغمة عائلية وأمنية حاكمة، لا تعنيها الإيديولوجيا في شيء.
[ من كتاب «وداع العروبة» الى كتاب «قوميو المشرق العربي» وأيضاً كتاب «بعث العراق..» بل وحتى كتاب «هذه ليست سيرة»، يبدو وكأنك تقوم بتصفية حساب فكري وسياسي كبير.. لكن أيضاً كأنه حساب شخصي؟ ما تعليل ذلك؟
ـ لا أعتقد أن المسألة تصفية حسابات، لكنني أظن أن هذه الصلة الشخصية بأفكار العروبة وتنظيماتها أتاحت لي ما أزعم أنه إدراك أكبر لخطر هذه العروبة. فهي كانت دائماً الذريعة الأم التي استخدمت لمنع نشوء الدولة الوطنية في المشرق، كما كانت إحدى أهم الذرائع لاستثارة النزعات الأهلية والعصبية، ما كان يفضي الى حروب أهلية وتدميرية. وهذا ناهيك عن دورها في تبرير الطغيان والاستبداد على ما رأينا في مصر الناصرية، وبدرجة أكبر في العراق وسوريا البعثيَين.
[ أنت من القلائل الذين تقوم كتاباتهم على التداخل الحميم بين الثقافي والسياسي، لذلك أسألك: الى أي مدى كان الاستبداد العربي نتاجاً ثقافياً قبل أن يكون ممارسة سياسية؟
ـ أظن، بالمعنى الانتروبولوجي العريض للكلمة، أن الاستبداد هو دائماً ثقافة تعثر على فئة اجتماعية تستحضرها الى السياسة. والشيء نفسه يصح في الديموقراطية وفي شتى المنازع الإيديولوجية التي لا تلبث أن تغدو أحزاباً وأنظمة.
هكذا لا ينفصل الاستبداد عن خلفية يمكن العثور عليها في مفاهيم العصبية والتغلب، كما في الموقف من الغرب. فضلاً، بطبيعة الحال، عن ضعف التقليد السياسي في مجتمعاتنا وما وازاه من امتناع النقاش، نظراً الى عدم نشأة ساحة عامة مفتوحة لتداول الأفكار.
[ اليوم نحن نعيش «الربيع العربي»، وإذا افترضنا معه تحوّل في أشكال التعبير السياسي والاجتماعي، فمن هم هؤلاء الذين نسميهم اليوم «النشطاء»؟
ـ أعتقد أن المرحلة المقبلة ما أن تنتهي، وهي في اعتقادي ستطول وستكلف الكثير، ستتكشف عن طرفين رئيسيين، الأول هو الإسلاميون بقواهم وحركاتهم المختلفة، لا سيما «الاخوان المسلمين«، الذين سيتصدّرون الحياة السياسية بمعظم البلدان العربية، والثاني هم نشطاء حقوق الإنسان، حرية المرأة، ومسائل الأقليات، أي دعاة الحرية ورموزها، ممن سيكملون دورهم الأدائي بوصفهم «شياطين» التواصل الاجتماعي وأدواته.
وفي ظني أن هؤلاء سيكونون مدعوين الى إنشاء أشكال وأطر تنظيمية لا تشبه على الإطلاق الأحزاب التي نعرفها، إلا أنهم سيجدون أنه لا بد من درجة من التنظيم لكي يستطيعوا الصمود في المرحلة المقبلة.
هؤلاء هم الذين سيدافعون عن الحداثة، ويعملون على نصرتها، في ظل هجمة إسلامية قد يكون مستحيلاً تجنبها. وأعتقد أن أحد العناصر التي ستلعب دوراً مقرراً في هذه المعركة مدى الحجم الذي سيتاح للتأثير الغربي، أكان لجهة الضغط على الإسلاميين كي يحترموا العملية الديموقراطية، أم لجهة الوقوف وراء هؤلاء الشبان ودعم مبادراتهم.
[ قبل أيام، رفعت قرية سورية شعار «انتهى زمان ماركس وبدأ زمن فوكوياما»..
ـ لقد شاهدت هذه اليافطة ووجدتها غريبة جداً، فليس من المألوف في أبناء بلداتنا وقرانا أن يتعاطوا مع ماركس وفوكوياما، وأظن أن بعض مثقفيهم قد أقحموا هذه اليافطة في النشاط الانتفاضي. لكنني، وبغض النظر عن مدى فائدة هذا الكلام، في ظرف كهذا، أعتقد أن في ذلك ظلماً لماركس وتعاطياً معه تبعاً لتأويله السوفياتي ومن ثم العربي، كما أن فيه تكريماً لفوكوياما يفوق ما يستحقه قليلاً.
أعتقد أن ماركس لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد في ما يجري. لقد استعمله من قبل ماو تسي تونغ وكيم إيل سونغ وبول بوت لإنشاء أنظمة طغيانية، فيما ماركسية ماركس تقوم أصلاً على افتراض أن الصراع الطبقي العقلاني قد جبّ ما كان قبله، أي أن ماركس لم يتعامل مع مجتمعات تصوغ الأديان والعصبيات الأهلية تناقضاتها الحاكمة، فهو إذن بريء مما ينسب إليه سلباً كان أم إيجاباً.
المستقبل