حازم صاغية يروي سيرة «البعث السوري»
ياسين الحاج صالح
في الجو العائلي الذي نشأ فيه حازم صاغية، كان هناك كثير من العروبة. هذا ما يقوله في مقدمة كتابه الجديد «البعث السوري، تاريخ موجز»، وكان سبق أن قاله بتوسع أكبر في «هذه ليست سيرة«.
ينتقل حازم على نحو مفاجئ بعض الشيء من سرد جوانب من سيرة هذه العروبة المنزلية في سنوات طفولته إلى «إهانة» البعث «لنا كلبنانيين»، وإهانته لسوريا ذاتها، ويجعل من «قتل ذاك الماضي» مقتضى من مقتضيات النضج، الشخصي والفكري، وإن «اتخذ القتل شكل الدق بالحجر أو الطعن بالسكين». هذه عبارات قوية، تعطي انطباعا بأن حازم يصارع أطيافا من ماض شخصي وعائلي، بقدر ما يصارع تشكيلات سياسية وإيديولوجية «خارجية». هذا ليس استنتاجا في أية حال. بعد سطور من إعلان عزمه على «قتل ذاك الماضي» يرى مؤلف «البعث السوري» أنه «لا بد من تصفية حساب أخيرة مع البعث صونا للنفس». وكذلك «احتراما لسوريا«.
احتراما لسورية ولـ»لانتفاضة السورية» التي يبدو أن حازم ألف كتابه بعد تفجرها. «فحينما اندلعت الانتفاضة بدا لواحد مثلي أنه بات قادرا على التصالح مع طفولته والانسحاب الهادئ منها«.
كأنما يريد الناقد اللاذع إقامة ربط بين الانتفاضة كجهد لتصفية حساب سياسية مع نظام أهان كل من طالتهم أذرعه من الضعفاء، وبين كتابه كمسعى لتصفية حساب فكرية وإيديولوجية مع هذا النظام وأصوله الإيديولوجية. وهذا ما لا بد منه حتما. فلا يستقيم أمر الثورة السورية دون الثورة أيضا على تمثيلات فكرية وإيديولوجية للبلد، شرعت لنظام على هذه الدرجة من العداء لمحكوميه، ولم تؤسس يوما للاعتراض عليه. وهو ما يؤكده موقف سلبي لإيديولوجيين سوريين ولبنانيين يحصل أن يتفهموا بعض تطلعات الثورة، لكنهم يريدون الحفاظ على إيديولوجية النظام الممانعة. كأنما العلاقة عارضة بين تمثيل لسورية لا يأخذ في اعتباره السوريين العيانيين وبين معاملة هؤلاء السوريين المناكيد كعبيد في بلدهم.
حازم يقيم في أبعد نقطة عن ذلك.
عرف الرجل بشجاعته الفكرية التي جلبت له من الخصوم والأعداء أكثر من الأصدقاء، حتى ليكاد يكون الشاغل الرسمي لموقع الشيطان الرجيم في تفكير إيديولوجيي الممانعة في عموم المشرق. عُرف أيضا بميل ثابت إلى تقويض خرافات وأساطير سياسية كثيرة، وهذا أمر جالب بدوره للخصوم والأعداء. وعرف كذلك بأسلوب لاذع وجذاب في الوقت نفسه، يجعل من قراءة ما يكتبه متعة مستقلة عن التوافق مع ما يذهب إليه في مقالاته وكتبه. ومنها بامتياز «البعث السوري»، الكتاب الذي يقرأ بسلاسة وفي جلسة واحدة أو جلستين.
هناك ما يمكن المجادلة فيه من توجه الكتاب العام مع ذلك. منه بخاصة موقف سلبي شامل من العروبة. حازم يرفض إدخال شيء من التعدد إلى هذه الظاهرة الاجتماعية التاريخية الكبيرة، ويراها حجرا واحدا من السوء. هذا موقف إطلاقي لا يبدو لي قابلا للدفاع عنه معرفيا أو سياسيا، ويكاد يشكل الوجه الآخر لمواقف العروبيين المطلقين أو القوميين العرب.
يضغط هذا التصور على صفحات الكتاب، لكنه لا يختزله، ولا «يمثله«.
عبر 21 فصلا قصيرا، يروي «البعث السوري» قصة حزب البعث منذ أيامه الأولى. يرسم بضربات ريشة سريعة لوحة الحزب الذي اضطر إلى التخلي عن جسمه من أجل الوحدة مع مصر، وتطوع للتخلي عن زعامته المؤسسة من أجل السلطة، ثم امتثل للتخلي عن روحه والتحول إلى ملحق جهازي جسيم لحكم «القائد الخالد» حافظ الأسد.
الواقع أنه لم يبق لحزب البعث تاريخ ذاتي بعد عام 1963، وأكثر بعد 1970. ولقد كان الخطأ الأكبر لصلاح جديد، حسب حازم، أنه «بعد 23 شباط 1966 تخلى عن بزته العسكرية، ظانّا أن إمساكه بالحزب وتوليه الأمانة العامة القطرية، وسيطرته (…) على أبرز المناصب في الدولة، تكفل له التحكم بتوازن القوى وحركته». أما حافظ الأسد فقد أضاف وزارة الدفاع وقيادة القوات الجوية، ثم رئاسة المخابرات ورئاسة الأركان. وعلى هذا النحو جعل من الواقع حليفا له، تاركا الطوبى لرفيقه الساذج. بعد قليل، سيقضي هذا الرفيق كل ما بقي له من أيام في سجون رفيقه.
وما تطلع إليه وزير دفاع 5 حزيران ناله: حكم دائم لسورية، بمزيج من القوة العارية والتأطير السياسي الشامل الذي يبقي المجتمع المحكوم فاقدا لأي تماسك ذاتي، وبتحالفات محلية وإقليمية ودولية ملائمة. ولقد وفّرت له حرب تشرين ما هو أكثر من شرعية، ومن لقب «بطل الجولان« الذي بقي محتلا مع ذلك، ولا يزال: وفرت له «اقتصاد الريع القومي»، أي الدعم المالي من الدول النفطية العربية تحت راية «التضامن العربي». وهو ما كان اللبنة الأولى في تشكل شريحة من رجال الأعمال المقربين من النظام. وبعد قليل سيكون لبنان بديلا عن الجولان من جهة، ومصدر ريوع جديدة ذات طابع مافيوي.
بدءاً من عهد الأب أمسى الكلام على «البعث السوري» كلاما على نظام أحال حزب البعث إلى أداة حكم مكمّلة. لا يمنح حازم هذه الواقعة اهتماما خاصا، فيعطي انطباعا بأن كل شيء من نظام الأسدين كان مطويا كبذرة في تعاليم حزب البعث، ثم انبسط وبلغ مداه في عهد حافظ ووريثه. كان يستأهل الأمر وقوفا أطول عند خفض مرتبة «الحزب القائد للدولة والمجتمع» على مرحلتين: في مرحلة الأب لمصلحة الأب نفسه وأجهزة مخابراته، وفي مرحلة الابن لمصلحة العائلة وبرجوازية الحبايب والمحاسيب، والمخابرات طبعا. ولا ريب أن هناك ما يقال عن الصلة بين الطابع المجرد والعمومي للعروبة البعثية، أو صفتها الشعرية الخالصة، بتعبير حازم، وبين ضعف شخصية الحزب وسهولة استتباعه من قبل «النظام». على أن الأمر لم يمر دون مقاومات في الحالين، ولعله لم يجر تناولها على منظم أبدا.
في زمن ما بعد «الحركة التصحيحية»، كانت الأداة السياسية الفعلية هي الأجهزة الأمنية، والذات السياسية الوحيدة هي الرئيس. وإليه ستنسب سوريا. وفي مواجهة أقوى أزمة داخلية واجهها النظام سيكون البطش هو السيد داخليا، والبطل هو تلك الأجهزة.
لكن ليس حزب البعث وحده من سيقال من السياسة على يد أمينه العام «السيد الرئيس حافظ الأسد»، بل إن الداخل السوري بمجمله سيختفي عن عيون الناظرين. ستغدو السياسة كلها استراتيجيا ودوراً إقليمياً وصراعات دولية. وحرب. ولعل هذا التكوين هو ما ورثته إيديولوجية الممانعة اليوم واعتبرته شيئا مسلما به، حتى أن أتباعها يقاومون بضراوة أن تتغير سوريا. هذا ينعكس كثيرا في كتاب حازم. فصول الكتاب بعد حكم حافظ الأسد، بدءا من مطلع الثمانينات بخاصة، تحيل إلى الحرب اللبنانية والتسوية مع إسرائيل وقضايا الإرهاب والأوضاع الإقليمية. كان يبدو أنه لا يبقى من سوريا شيء إن حذفنا منها هذه القضايا الكبيرة.
على أن للأمر صلة أيضا بواقع أن تاريخ الداخل السوري في ظل حافظ الأسد لم يكتب بعد. لا تكاد تعرف منه غير عناوين عريضة خارج سوريا، فيما لم يستطع السوريون كتابة تاريخهم، ولعلنا لا نملك اليوم الوسائل الكافية لاستعادة تمثيل أنفسنا معرفيا.
هناك محطات في تاريخ سوريا البعثية في «البعث السوري» كانت تستحق توقفا أكبر، منها تحول السلطة من الأب حافظ إلى الابن بشار، إن لأهميتها الذاتية، أو لدلالتها على ما آل إليه حزب البعث والدولة السورية، والمجتمع السوري.
ولعل في ما يشير إليه الكتاب من «إعجاب منقطع النظير» للرئيس السوري «بحزب الله اللبناني وأمينه العام حسن نصر الله» ما يفسر أن الحزب صار يحكِّّم استراتيجيته وولاءاته الخاصة بالسياسة السورية، ويفتي اليوم بما يصح للسوريين أن يقوموا به وما لا يصح. جدير بالذكر أن رئيس حزب الله لم يزر سوريا أبدا في عهد الأب، ليس في العلن على الأقل. والأرجح أن العلاقة بالحزب اللبناني كنت تمر أساسا، وربما حصرا، عبر رئيس المخابرات السورية في لبنان.
لم تقم قيامة لسوريا بمحصلة قرابة نصف قرن من حكم البعث. ليس فقط لم تنبعث سوريا، بل يبدو أن «النظام»، الذات السياسية السورية اليوم، يتوعد بأن تكون نهايته نهايتها.
يختم حازم الكتاب الذي ألفه على نية «قتل» ماض ما بتوجيه «لعنة» إلى ما كان «عنوانا لكوارث وطنية متتالية وستارا لكذب كثير»: «حزب البعث العربي الاشتراكي«.
المستقبل