صفحات الحوار

حازم نهار:مسار هيئة التنسيق إنحداري..ولا أحد يحتكر الثورة

 

 

حاورته: سارة عبد الحي

الثورة تحتاج إلى عقل جديد يجمع بين جذرية الموقف السياسي وعقلانية الخطاب والأداء السياسيين

قبيل دخولها عامها الخامس، وفي ظل ما مرّ عليها من تجاذبات سياسية عاصفة، وانزياحات ميدانية حادة، وصراعات إقليمية وتصفية نزاعات على حسابها، تبقى الثورة السورية بحضورها الأثقل عالمياً، موضوع خلاف واختلاف حاد.

وفي قراءة مجريات الثورة ومفردات حياتها وتفصيلاتها، وعن عناوينها العريضة، كان لـ”المدن” هذا الحوار المطول مع الكاتب السوري حازم نهار، عضو حزب الجمهورية.

غادر حازم نهار شارع الثورة الداخلي باكراً، وقد كان من أكثر السياسيين السوريين انسجاماً مع ناشطيها، فطرح رحيله المبكر أقاويل كثيرة، منها انتهازه لفرصة خارج البلد؟

كنت مقتنعاً منذ انطلاق الثورة بمركزية دور الشباب المدني فيها، وكنت أخبر من ألتقيهم من الشباب آنذاك بضرورة إنشاء تجمعاتهم وتكتلاتهم الخاصة بعيداً من المعارضة التقليدية، بحكم معرفتي بأمراضها وعيوبها التي تعود إلى أسباب موضوعية وأخرى ذاتية. ومع ذلك، كان رأيي بضرورة العمل على مسارات ثلاثة؛ هي المعارضة التقليدية والمثقفين والشباب، وأن هذه المسارات ستتقاطع وتلتقي في المآل الأخير. وقد حاولت العمل فيها جميعاً، لكنني كنت حذراً ودقيقاً بالتعاطي مع الشباب خوفاً من قطع الطريق على حركتهم ونشاطهم. إضافة إلى ذلك، كنت من بين عدد من الأشخاص تواصلت معهم جهات عديدة من السلطة بدءاً من شباط/فبراير 2011، وحتى لحظة مغادرتي للبلد في آب/أغسطس 2011.

شخصياً، لا أحبذ الأسئلة الخاصة، لأن الإجابة عليها، مهما كان المرء حذراً، توحي غالباً بالذاتية أو الدفاع عن النفس، وكلاهما مرفوض بالنسبة لي. مع ذلك، يمكن القول باختصار ومن دون تفاصيل، على الرغم من أهميتها في هذا السياق، أن سفري خارج البلد كان من أجل المشاركة في ندوة فكرية لمدة ثلاثة أيام حول الثورة السورية بدعوة من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وقد شاركت في هذه الندوة مجموعة من المثقفين السوريين من داخل وخارج سوريا؛ الطيب تيزيني وحسين العودات وعارف دليلة وبرهان غليون وهيثم مناع وسلام الكواكبي. ولم يكن سفري بقصد مغادرة البلد نهائياً، فلا أحد يغادر ويترك زوجته وأولاده خلفه. في اليوم الثاني لمغادرتي وصلني خبر اعتقال مجموعة من الشباب الذين كانوا على تواصل وثيق معي، وبعدها بأيام بدأ السؤال عن زوجتي. مع العلم أنني بعد أسبوع من الثورة، كنت قد تركت منزلي واستأجرت منزلاً لزوجتي وأولادي، ومنزلاً آخر لي، وذلك بحكم معرفتي بطبيعة السلطة وسلوكها، فقد تعرض منزلي في العام 2005 للاعتداء في أثناء غيابي. لم يكن لدي أية حاجة للسفر خارج البلد، لا دراسياً ولا مالياً، عملي ووضعي المهني والمادي داخل سوريا أفضل بأضعاف من وضعي اليوم. ثمة تفاصيل أكثر من ذلك متروكة للمستقبل.

ذكرت في مقال لك على موقع حزب الجمهورية: “المكونات السياسية المعارضة تلجأ إلى زيادة قاماتها القصيرة سياسياً عن طريق الإعلام والعلاقات الخارجية، ما يجعلها بالضرورة لعبة بيد القوى الخارجية ووسائل الإعلام”. هل هذا أحد أسباب انسحابك من “هيئة التنسيق” وقد كنت المسؤول الإعلامي فيها؟

في أواسط تشرين أول/أكتوبر 2011، بعد أسبوعين من تشكيل “المجلس الوطني السوري”، تقدمت باستقالتي إلى المكتب التنفيذي في “هيئة التنسيق الوطنية” الذي كنت أحد أعضائه. وكانت الاستقالة بحسب الأصول والتقاليد السياسية والأخلاقية، لكنني لم أتلقّ أي رد عليها من الهيئة، ولم تنشر هذه الاستقالة في الإعلام من جانبي إلا بعد عام ونصف. ويمكن تلخيص أسباب استقالتي بالتالي: التصريحات الإعلامية المتضاربة لشخصيات الهيئة إزاء ما يحدث في سوريا، وهذه فوضى إعلامية. كما أن بيانات هيئة التنسيق وتصريحات بعض شخصياتها أصبحت صادمة للرأي العام، على الرغم من تأكيدي المتكرر قبل الاستقالة على ضرورة إنتاج خطاب سياسي يجمع بين ما يطرحه الناس في الشارع، وما نعتقد أنه صحيح سياسياً في لحظة ما. بعض الشخصيات في الهيئة كانت، ولا تزال، تتحدث حول ما يحدث في سوريا وكأنه يحدث في سنغافورة. الخطاب السياسي والإعلامي للهيئة ينبغي ألا يكون انعكاساً سطحياً ومباشراً للمزاج الشعبي، لكن بالمقابل ينبغي ألا يكون صادماً ومنفراً له، وألا يشكل أيضاً مرتكزاً للنظام في محاربة الخارج والمزاج الشعبي عموماً.

هناك فهم سطحي لوجود جزء من المعارضة في الخارج، ويجري التقليل من ذلك بتكرار “نحن معارضة الداخل” في بيانات هيئة التنسيق، وكأن هذا الأمر بحد ذاته يمنح الهيئة الحصانة والأولوية. كما أن قبول شخصيات من هيئة التنسيق آنذاك اللقاء مع شخصيات هيئة الحوار الحكومية مرات عديدة، في الوقت الذي جرى الاتفاق على عكس ذلك عندما كنت داخل سوريا. وقبول بعض شخصيات الهيئة آنذاك إجراء لقاءات مع وسائل إعلام سورية فارغة ومشاركة في التحريض على القتل، على الرغم من أننا كنا قد حسمنا هذا الأمر منذ بدايات عمل الهيئة. كما تعاملت الهيئة آنذاك مع ممثلي الحراك الشعبي بوصفهم زينة لها، وليس بوصفهم فاعلين ومقررين ومؤثرين في مسار عملها.

وفي البيان الغريب الذي أطلقته هيئة التنسيق آنذاك مرحبة ببيان “الائتلاف الوطني السوري” الذي شاركت فيه في الدوحة بين 4-7 أيلول 2011 إلى جانب إعلان دمشق والإخوان المسلمين وعدد من المستقلين، هذا الترحيب تقوم به أطراف لم تشارك في صوغ بيان الائتلاف الوطني، أما أن تصدر الهيئة ذلك البيان فلم يكن يعني إلا تنصلها منه واعتبار نفسها خارجه. وقد تأكد ذلك عندما صرح أحد أعضاء المكتب التنفيذي للهيئة بعد يومين من لقاء الدوحة “إسقاط النظام ليس من أولوياتنا”، على الرغم من أنه وافق قبل ذلك على بيان الائتلاف. كما أن إنكار أعضاء الهيئة تسلمهم لدعوة المشاركة في تشكيل المجلس الوطني السوري آنذاك، وهذا غير صحيح، فقد سلمتهم الدعوة، وكان لديهم علم باللقاء قبل أسبوع على الأقل، وكان هناك اتصال تلفوني منهم معي قبل يوم واحد، لكن ببساطة لم يريدوا المشاركة في اللقاء لأسباب عديدة.

على العموم، جاء تشكيل هيئة التنسيق الوطنية بعد جهد مضنٍ قمنا به على مدار ثلاثة أشهر، لكن حتى عندما أعلنا عنها في 30 حزيران/يونيو 2011 لم أكن مرتاحاً، بحكم معرفتي الدقيقة بمشكلات المعارضة الذاتية والشخصية والموضوعية، وبحكم أن الهيئة لم تجمع بقية أطراف المعارضة في الداخل السوري. أعتقد أن المكتب التنفيذي لم يكن مخلصاً للوثيقة التأسيسية للهيئة التي وضعت الشروط المطلوب توفرها في أي “حوار” مع السلطة، ولا للبيان الأول الذي أصدره بعنوان “خيارنا هو خيار الشعب السوري”، ولا للتوافقات في آلية العمل وطرق التعاطي مع الإعلام، خصوصاً أن لي تجارب سابقة مع الشخصبات ذاتها في عام 2002 و2005 كنت أضع فيها يدي على قلبي كلما قام أحدهم بالتصريح لوسائل الإعلام وشرح الموقف السياسي إزاء قضية ما. أعتقد أخيراً أن مسيرة هيئة التنسيق، منذ ذلك الوقت، وحتى اللحظة، كانت انحدارية.

يرى حازم نهار أن الملف السوري بالنسبة إلى دول الإقليم ملف أمني بالدرجة الأولى، تديره أجهزة مخابراته، وليس ملفاً سياسياً. كيف يمكن تحويل الملف السوري إلى قضية سياسية برأيك؟

هذا يتطلب، بالدرجة الأولى، وجود قيادة سياسية وطنية، تقر بها أغلبية القوى والشخصيات العاملة في حقل السياسة، وهذه القيادة ينبغي أن تتحلى بعدد من الصفات الرئيسية: أن تحمل مشروعاً وطنياً خالصاً، بمعزل عن الأيديولوجيات والمعتقدات المختلفة، وأن تلفظ جميع أصحاب المشاريع المدمرة، أي الطائفية والمذهبية والعرقية، وأن تجعل بوصلتها تتحرك استناداً إلى المصالح الوطنية السورية ومصلحة الشعب السوري فحسب، لا المصالح الذاتية والشخصية والفئوية.

وعلى هذه القيادة السياسية الوطنية أن تصارح شعبها بحقيقة الأوضاع بين فينة وأخرى، وتضعه في صورة سياسات الدول وأدوارها وخططها ومشاريعها. من المهم أن تتحلى أيضاً بالثقة بالذات، وتؤمن أنه من دون السوريين لا يوجد أي حل، وهم في الحصيلة من سيحدِّدون طبيعة الحل، وهذا الإيمان يجعلها لا تلهث وراء الدول وتندرج في سياساتها، وعندها ستحترمها الدول وتأخذ رؤيتها وتطلعاتها في الاعتبار. وفي ضوء ذلك، ترفض مثل هذه القيادة اللقاء مع أجهزة الاستخبارات وتلقي الأوامر والتوجيهات منها.

واحدة من النقاط المهمة هي الإعلام، وقد فشلنا فيها فشلاً ذريعاً، أي إيصال الصوت السوري الوطني، ومطالب السوريين المحقة، إلى الرأي العام العالمي، حتى تم اختزال القضية السورية في مكافحة الإرهاب، ولا يمكن أن ننجح في خطابنا الإعلامي من دون وجود تلك القيادة الوطنية.

كذلك، لا شك أن انتشار السلاح بشكل فوضوي، بعد أن تم جر السوريين نحو العسكرة بحكم عوامل عديدة أهمها السلطة الحاكمة، قد عمل على سيطرة البعد العسكري الأمني لدى الدول لدى مقاربتهم في كل مرة للوضع السوري، إلى جانب تشجيع الجميع، بشكل مباشر أو غير مباشر، لهيمنة جهات إسلامية متطرفة على الأرض السورية. الشرط اللازم والضروري للتخلص من فوضى السلاح وهيمنة الجهات الإسلامية المتطرفة هو إنتاج قيادة سياسية وطنية تنزع الغطاء عن كل حالة أو سلوك لا يصبان في إطار المصلحة الوطنية.

كنت ممن دعوا إلى ضبط إيقاع حركة المعارضة الخارجية بنشاطاتها كافة مع حركة وسرعة المعارضة في الداخل السوري. كيف ترى اختلاف السرعات بين “المعارضتين” في الوقت الحالي؟ وهل تعتقد أنه ما زال بالإمكان ضبط هذا الإيقاع الآن؟

كتبت ذلك في الأشهر الأولى من الثورة، استناداً إلى تجربة سابقة بين 2000-2006 عندما كنت ألمس شطحات المعارضين في الخارج وجهلهم بالنظام السوري وبحقائق الوضع في سوريا، لكنني بعد الأشهر الأولى من الثورة رفضت الخطاب السياسي للمعارضين في الداخل والخارج، فمن هم في الداخل ظلوا يتصرفون كمعارضة، ولم يدركوا أن هناك ثورة تهز سوريا، بل أصبح الخطاب السياسي والإعلامي لبعضهم أدنى وأقل وضوحاً مما كنا نقوله في التجمع الوطني الديمقراطي قبل الثورة، بينما لم يتغير رأيي في الخطاب السطحي المسيطر على أغلب المعارضين في الخارج.

أنا أقدر وضع المعارضين في الداخل وحجم الملاحقة والتهديد المحيط بهم، ولا أحد يطلب من أحد أن يلقي بنفسه إلى التهلكة، لكن بإمكان من لا يستطيع توصيف الواقع بشكل حقيقي أو اتخاذ الموقف السياسي الملائم، أن يصمت، لا أن يطالب الآخرين بالتوافق مع خطابه السياسي المنتج تحت الضغط والتهديد. كذلك، كان ينبغي على المعارضين الموجودين في الخارج التخلص من المزاودة على أولئك الموجودين داخل سوريا، فكلامهم لا يندرج بالتأكيد تحت مسمى الشجاعة، وعليهم أيضاً التحلي بالتواضع، فليس من حق أحد ادعاء تمثيل ثورة لم تقم باختيارهم.

بعد الأشهر الأولى من الثورة، اختلف الأمر، فما عاد هناك داخل وخارج، والمتمسكون بهذا التصنيف إنما يفكرون بطريقة ضيقة الأفق أو من أجل المحافظة على وجودهم، فترديد البعض لمقولة “نحن معارضة الداخل” لا ينم إلا عن دفاع لا واعٍ أو ماكرٍ عن الذات، وعن محاولة دائمة لحجز مقعد لهم في أي قطار، وهذا الفعل لا يصب إلا في طاحونة ما تريده السلطة الحاكمة.

إنها ثورة، وهي ثورة تحتاج إلى عقل جديد يجمع بين جذرية الموقف السياسي وعقلانية الخطاب والأداء السياسيين، وهو ما لم يتوافر حتى اليوم، وهذا العقل ينبغي أن تعبر عنه قيادة سياسية وطنية واحدة، تحسن توزيع الأدوار بين أعضائها بحسب إمكانياتهم ومهاراتهم وأحوالهم وأماكن إقامتهم.

بعد عضويتك في التجمع الوطني الديمقراطي عن حزب العمال الثوري العربي، ما الجديد المختلف في حزب الجمهورية؟

على الرغم من كوني عضواً في هيئات قيادية معارضة عديدة (التجمع الوطني الديمقراطي وإعلان دمشق ولجان إحياء المجتمع المدني) خلال فترة العقد الأخير على الأقل قبل الثورة 2000-2011، إلا أنني لم أترك ما يمكن تسميته مهنة النقد، وهناك عشرات الدراسات الداخلية والمنشورة في الصحف والمجلات حول المعارضة، وهناك كتاب لي في هذا الشأن نشره مركز القاهرة للدراسات في عام 2009 “مسارات السلطة والمعارضة في سوريا”، وأيضاً هناك كتيب نشرته في عام 1999 قبل وفاة حافظ الأسد بعام واحد تقريباً “نحو إعادة ترتيب بيت الوطن الداخلي”، وهذا الكتيب استفادت منه السلطة، على ما يبدو، أكثر من المعارضة.

حزب العمال الثوري العربي كان بالنسبة لي مدرسة فكرية سياسية حقيقية تربيت فيها، بحكم اهتمامه الكبير بالفكر، على العكس من كثير من الأحزاب والقوى السياسية الأخرى، والفضل في ذلك يعود إلى ياسين الحافظ والياس مرقص، إضافة إلى عدد من شخصيات الحزب كالأستاذ جاد الكريم الجباعي. لم يكن حزب العمال حزباً أيديولوجياً كسائر الأحزاب العقائدية المغلقة، بل كان حزباً يرفع لواء الفكر النقدي في وجه الأيديولوجية، وهذه نقطة حاسمة في تربية كائنات مفكرة بدلاً من الكائنات الأيديولوجية الدينية التي تنتجها ما كان يسمى “الأحزاب اليسارية”.

لكن آليات عمل الحزب التنظيمية لم تكن تخرج عن الأداء المعتاد لبقية أحزاب المعارضة، بحكم العمل في ظل الاستبداد من جهة، وابتعاد هذه الأحزاب (أو إبعادها) عن العمل السياسي. بعد الثورة كان لا بد من خلق أنماط عمل سياسي جديدة، فكان حزب الجمهورية. لا يبتعد حزب الجمهورية فكرياً من حزب العمال الثوري العربي، لكن بالمقابل لا يمكن اعتباره بالتأكيد استمراراً له، فهناك تطوير لعدد من الأفكار الجديدة المتعلقة بفهمنا للدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة. نحن اليوم في حالة متحركة بشكل كثيف، ولن تستقر جميع الأحزاب من دون حدوث استقرار نسبي في الوضع السوري، لكن مع ذلك، فلهذه الأحزاب أهمية كبرى، فمصيبتنا الأولى كانت في عدم وجود قوى سياسية حقيقية، وهنا أتحدث بالطبع عن الأحزاب الحقيقية، وليس عن تلك الفقاعات التي تنشأ فجأة ومصيرها الموت.

قسّم حازم نهار الأحزاب السورية إلى قسمين، تقليدية قبل الثورة وصفها بالمتكلسة تضم بعض المناضلين وتفتقد إلى السياسيين، وأحزاب جديدة تشكلت بعد الثورة اعتبرتَ معظمها فقاعات ليس أكثر، وقلت إنها كالورود التي تتفتح صباحاً وتموت مساءاً، وأطلقت سؤالاً: أين هو الحزب الثالث الذي يشبه سوريا؟ ما موقع حزب الجمهورية من تصنيفك هذا؟

أي تصنيف يحتوي نسبة ما من الخطأ، لكننا نلجأ إليه أحياناً لأسباب دراسية وبحثية. حزب الجمهورية لا ينتمي زمنياً إلى المعارضة التقليدية، فقد أعلن عن تأسيسه في 17 نيسان/ابريل 2014، ولا ينتمي إليها من حيث الارتكاز إلى أيديولوجية محدّدة، قومية أو إسلامية أو اشتراكية، ولا حتى من الناحية التنظيمية، فهناك تغييرات جوهرية في نظامه الداخلي قياساً بما اعتادته الأحزاب التقليدية.

ابتعاد حزب الجمهورية من الأيديولوجية لا يعني عدم وجود قاعدة فكرية له، فهو ينتصر للفكر على حساب الوعي الأيديولوجي المغلق، وينطلق من وحدة الفكر والتاريخ البشري، ومن اعتبار الثقافة الإنسانية في منزلة حلقات متصلة تنبني فوق بعضها بعضاً.

حزب الجمهورية ليس حزباً معارضاً، بمعنى أن ولادته ونشاطه يجريان اليوم في بيئة سياسية انتقالية لم يعد فيها أي معنى للإبقاء على مصطلح المعارضة المعتاد، لأن هذا المصطلح يصلح في إحدى حالتين، إما في بيئة سياسية ديمقراطية كما في الدول الحديثة، أو في ظل بيئة استبدادية مستقرة نسبياً كما هي الحال التي كانت عليها سوريا قبل الثورة. بينما الحالة اليوم مغايرة تماماً، فهناك فئة حاكمة اقترفت سائر الموبقات وفقدت جميع مرتكزات الشرعية السياسية والقانونية والأخلاقية، وما عاد من الممكن القبول بوضع أنفسنا كمعارضة في وجهها، فهذا معناه أننا ما نزال نعتقد أنها جزء من سوريا المستقبل.

حزب الجمهورية ما يزال في طور التأسيس، وهناك عمل شبابي جاد داخل الحزب لتلافي أي أخطاء متوقعة في العمل المؤسسي، وهناك أيضاً أخطاء واقعية تحتاج إلى معالجة وتجاوز، وأهم وسيلة في ذلك هي النقد، نقد الأفكار والآليات والقيادات والأعضاء، فالنقد هو روح أي ثورة حقيقية، بل هو جوهر التفكير السليم، ولا تغيير نحو الأمام من دون أن يكون النقد، بلا أي صفة لاحقة (بناء، مفيد…إلخ)، متاحاً بإطلاق. ربما أكتب قريباً نقداً معمقاً لحزب الجمهورية، على الرغم من كوني عضواً فيه.

يأخذ البعض على حازم نهار شدة ديبلوماسيته، وأن إجاباته عامة ولا يغرق نفسه بالتفاصيل، ما يجعله على مسافة واحدة من الجميع، خدمةً لمشروعه السياسي الخاص. هل ترى هذا صحيحاً؟

الديبلوماسية جزء من العمل السياسي، وليست شيئاً مستنكراً بل عمل مهم وضروري عندما يكون في موضعه. في مقابل هذه الديبلوماسية، أعتقد أن مواقفي واضحة وصريحة إزاء مفردات الواقع وتفاصيله، لا أعتقد أن موقفي غامض أو مبهم إزاء السلطة السورية أو الثورة مثلاً، كما لا أرى أن موقفي إزاء جميع القوى السياسية غير واضح، بل على العكس، فالنقد الذي يأخذه علي كثيرون هو نقدي الواضح والمؤلم للجميع من دون استثناء. كذلك، آرائي واضحة ومنشورة إزاء القوى الإسلامية المختلفة في وقت مبكر.

هناك ديبلوماسية مطلوبة وضرورية لها علاقة أحياناً بعدم وضوح الواقع بالنسبة لي، وقناعتي بضرورة التحلي بالصبر حتى الحصول على المعلومات في ظل لعبة الإعلام المزرية والمشوشة. كذلك، ربما يحدث ذلك أيضاً في قضايا فكرية محددة، فهذه تتطلب نقاشاً معمقاً يخرج بها من دائرة الثنائيات المغلقة والمتشنجة. وربما تعود دبلوماسيتي إلى نقدي للأفكار والسياسات من دون التعرض الصريح للأسماء والشخصيات، وأنا مصر على ذلك، خصوصاً في ظل حالة التوتر الشديد التي يعيشها الجميع، ولذلك مثلاً أجد نفسي غير معني بالرد على الكتابات التي تندرج تحت مسمى التجريح الشخصي، ولا تتضمن أي قيمة فكرية أو سياسية.

قناعتي هي أن الكتابة مسؤولية كبيرة، لذلك أسأل نفسي مثلاً، بشكل دائم، قبل نشر ما أكتبه، هل سأندم على ذلك بعد 10 سنوات؟، فما أكتبه أعنيه تماماً لأنه نتيجة تفكير وإحساس بالمسؤولية، ولم يحدث أن وقعت فريسة التسرع أو ردات الفعل، وهذه مسألة مهمة للغاية في تربية الذات.

أخيراً، أي مشروع سياسي شخصي، بمعزل عن الحركة العامة، هو مشروع فاشل سلفاً، ولذلك من غير الممكن أن أتعب نفسي بالعمل عليه. أسعى للعمل في سياق جماعي تشاركي، وهنا ليس من حق أحد الاعتراض على طاقتي أو طموحي طالما أنني ألتزم بالقانون الذي توافقت عليه الجماعة.

كنت أحد المعارضين الذين هاجموا، وبشراسة، مباحثات القاهرة في إطار لقاء موسكو الأخير وكتبت: “علينا أن نقر بوجود عملية تصنيع لمعارضة سورية جديدة على مقاس السيسي، القريب بالضرورة من مقاس “النظام السوري”. هل ترى الدور المصري “السيساوي” معتماً إلى حد تشبيهه بالنظام السوري؟

ثمة مؤشرات على الدور المصري غير المتوافق مع أهداف الثورة السورية في عهد السيسي: فقد حدّدت السياسة المصرية وفود المعارضة السورية المسموح لها بالمشاركة ودخول مصر، ومنعت بعض الجهات والشخصيات من المشاركة، وجرى ترتيب اللقاء من دون إشراف جامعة الدول العربية، وسبق اللقاء قيام “هيئة التنسيق الوطنية”، ذات الحظوة، على ما يبدو، لدى السياسة المصرية الحالية، بإعلان موافقتها على المشاركة في منتدى موسكو، وكان الأولى أن يجري التوافق أو عدم التوافق على هذا الأمر في لقاء القاهرة، خصوصاً أن اللقاء يعقد تحت شعار “وحدة المعارضة السورية”. وثمة مؤشرات عدة على نشاط محور سعودي مصري لترتيب معارضة تقبل بسقف مطالب منخفض، وهناك سعي تدريجي لعودة العلاقات بين النظامين السوري والمصري. يضاف إلى ذلك الطريقة التي تعاملت بها السلطات المصرية، منذ الانقلاب على مرسي، مع السوريين الموجودين في مصر، والتضييق عليهم، والحملات الإعلامية الهيستيرية ضدهم، ومنع حدوث لقاءات للقوى المعارضة السورية في القاهرة التي كانت محطتهم الرئيسية قبل مجيء السيسي. ويظهر أيضاً، من جانب آخر، أن السلطات المصرية الحالية متوافقة مع نهج السلطة السورية في ملاحقة معارضيها من التيارات كافة واعتقالهم، والتضييق على التظاهر السلمي، وتسخير القضاء المصري لمصلحتها، وممارسة القتل في بعض الأحيان، والضخ الإعلامي الخاص بتبجيل الجيش المصري في جميع ممارساته، بما يعني عسكرة الحياة السياسية وتغييب الصوت المدني.

حديثي هنا من زاوية مصلحة السوريين، وليس من باب المفاضلة بين نظامي مرسي والسيسي، إذ يجب الخروج على مستوى المنطقة العربية من هذه الثنائية المقيتة، ثنائية الإسلام السياسي والعسكر.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى