حاكم ومحكوم
تضُلّ الكلمات طريقها أحياناً لكنّها تبقى على بُعد فكرة، واليوم، تعجز الكلمات عن وصف ما وصل إليه حال الأنظمة العربية من العنجهية والتملّك والاستهزاء بشعوبها وهو الأمر الذي اعتدنا عليه كشعوب، الحاكم يأمر وينهي كأنّه المالك للإنسان والوطن وما عليه ونحن نرضى ونطيع كالعبيد، لكن، ماذا لو استيقظنا يوماً على غضب يعتمر في قلوبنا ويضُجُّ حتى ينفجر في وجوههم ثورة؟
لَم يَعُد هذا تهيُّؤ أو خيال بل أصبح حقيقة نعيشها بكل ما يحمله هذا الواقع من تفاصيل بعضُها يُحيي الأمل في القلوب وبعضها يُسيل الدموع من العيون.
وبغضّ النظر عن الآراء المتضاربة حول الأحداث الجارية في أوطاننا وأسبابها ونتائجها، يهمّني أمرين، أولهما، أنّ المواطن على هذه الأرض العزيزة قد أدرك أخيراً أنّه ليس ضحية تُساقُ إلى المراعي لترعى أو إلى المسلخ ليُذبح، بل إنسان له حق في حياة كريمة وحرّة، وثانيهما، أنّ الحاكم – أيّ حاكم منهم – والذي سقطت عن عورته ورقة التوت، فقد ألوهيته المُستمدّة من عرق وسذاجة الشعب ورضوخه للأمر الواقع باستبداده وطغيانه وبكل ما يحمله له من أعباء وأثقال تقسم ظهره كي لا ينظر في عينيّ حاكمه ويقف منتصباً في وجهه.
انقلب الحال أخيراً رغم أنّ الطريق طويل ومليء بالعثرات على أمل أن يعود إلى صراطه المستقيم، فما اعوج من علاقة الحاكم بالمحكوم قد شارف على الانقطاع، كي لا يبقى حاكم في بلادنا يتمنّن علينا بما نستحقه، ويُخضعنا لأهوائه وقراراته، ويُعاملنا كحيوانات في مزرعته، بالطبع كحيوانات، فما يُميّز الإنسان عن الحيوان هو العقل الذي احتله حكّامنا لتطويعه في اتجاه واحد لا بديل عنه فولّوا أنفسهم علينا وإن اعترض أحدنا يُعتقل ويُعذّب ويُخوّن ويُهان.. واليوم، يُقتل.
لقد سيطر عهد الفساد الاجتماعي، الاقتصادي والسياسي عشرات من الأعوام حتى استعصى على البعض الخروج من عباءته، لكنّ ثمّة شجعان تحدّوا الحاكم وحرّاسه وإعلامه وأتباعه والأهمّ خوفهم من المجهول سعياً نحو إنسانية هجرت منطقتنا منذ زمن، قد يتخبّط البعض لكنّ عُذرَهم حاكمٌ ربّى الخوف والقمع في العقول والقلوب حتى لَم يعد البعض يفهم معنى الحرية والعيش الكريم. أصبح مصطلح المواطنة أسطورة في بلادنا بعد أن اغتُصِبَت إرادة الشعب فطأطأ “المواطن” رأسه بعار يحمله أينما ذهب، لكنّ أولئك الشجعان يحاربون بالسلم والقوة لرد اعتبار شعوب شارفت على الموت ذُلاً وفقراً رغم ما تملكه من تقافة وثروات.
لقد غيّر حكّامنا مجرى الطبيعة والتاريخ، فما كان يوماً تنوعاً أصبح تعصّباً، ما كان فكراً أصبح شعارات، ما كان ثقافة أصبح فراغاً وما كان وطناً أصبح شركة، يُديرها الحاكم ويملأ جيوب عرشه وحاشيته بالثروات ويعمل فيها المحكوم بأجر زهيد يقتطعون نصفه ضرائب وفواتير لشركات غير وطنية مُقابل الحد الأدنى من العيش.
أصبح الموت عادياً في بلادنا، ليس لأنّنا نرغب في ذلك المصير بل لأنّ حاكمنا استباح حياتنا ومماتنا من أجل مشروعه السلطوي الذي كسب منه الكثير طوال عقود ولَم يكف ولن يكف. فمن اعتاد العيش على أكتاف الآخرين ومن ألّه نفسه فجُنّ بعظمته لن يتمكن من اعتبار نفسه إنساناً عادياً مثله مثل كل الشعب وأيّ إنسان، يرأس دولته أو مؤسسته إلى حين كي يخدم العامّة، يبذُل وقته وجهده كي يقدّم الأفضل للمجتمع والمواطن، يرعى شؤون الدولة ويحقق مصالحها الوطنية، بل يظنّ نفسه إلهاً معصوماً معبوداً إلى أبد الآبدين حتى يؤمن هو نفسه بذلك، فإن اهتزّ عرشه تجدُه مفزوعاً معكوراً متخبّطاً يضرب بكل ما ملكت يده شعبه حتى لو أدى ذلك إلى إحراق الوطن بأكمله.
فمن يخوض في السياسة خائن، من يكشف الفساد فاسد، من يجرؤ على التفكير علناً ساقط، الصحفي أخرس، العامل فقير، المثقّف ملعون، المواطن مقموع وتراب الوطن سلعة للبيع وتبادل المصالح.
ما يحدث منذ بداية العام من ثورات هو رد اعتبار للشعب الذي يجب أن يَحكُم، للوطن الذي بيع فيه واشتُريَ حتى نضب، للإنسان الذي وُلِد حراً ليعيش حراً ويموت حرّاً.
اليوم وعلى الحدّ الفاصل بين الحياة والموت من جهة والذلّ والإهانة من جهة أخرى يحضرني بيت من الشعر تذكّرته للتّو..
سأحمل روحي على راحتي وأمضي بها في مهاوي الردى
فإمّـا حيـــاة تســـرّ الصــديق وإمّـا ممـــات يغيـــظ العـــدى
http://the-point-o-view.blogspot.com/2011/06/blog-post.html