حبّة موسكو وقبّة الأسد
صبحي حديدي
لعلّ ‘رجل الجهاز’ هو التوصيف الأفضل لمفردة الـ’أباراتشيك’ الروسية؛ التي اشتهرت على امتداد حقبة طويلة، خاصة خلال عقود الحرب الباردة، وبدا أنها اليوم طُويت مع انطواء صفحة ‘الحزب الشيوعي لعموم الإتحاد السوفييتي’، حسب التسمية المندثرة. هو، في أكثر صفاته وفاء لشخصيته، منفِّذ أوّلاً؛ ومطواع مطيع ملتزم بالأوامر العليا، ثانياً؛ ومحترف، عالي الموهبة، في النفاق والرياء، ثالثاً.
وإذا كان ‘الحزب الشيوعي للاتحاد الروسي’، وريث الحزب الأمّ، قد تخلّص من نموذج الـ’أباراتشيك’، وبنسبة ملحوظة ولافتة حقاً؛ فإنّ بعض جيوب الحزب، ورموزه المخضرمة، ومنظماته الدائرة في فلكه، ما تزال تحتفظ بعقلية النموذج، ولعلها تُعليه إلى مرتبة القدوة أيضاً. هذه حال ‘اتحاد كتّاب روسيا’، حيث تعثر على خليط عجيب متنافر من غلاة القوميين الروس، والعنصريين، والستالينيين، وعَبَدة الأفراد… حتى ليبدو أنّ ما يوحّدهم، بالقياس إلى ما يفــــرّقهم، ليــــس سوى حسّ النوستالجيا، بالمعنى المَرَضـــي غالباً، وسلوكيات شخصية الـ’أباراتشيك’، دون سواها. وكما يليق بالتقليد العريق، عن ربّ الدار الذي يضرب بالدفّ أفضل من جميع أفراد الأسرة، فإنّ رئيس الاتحاد هو الـ’أباراتشيك’ الأمثل، ونمط القياس الأعلى!
فاليري غانيتشيف، الرئيس العتيد، هو الأب الروحي لتيار القومية الروسية المتطرّف، وذلك منذ مطالع سبعينيات القرن الماضي، سواء من خلال موقعه كمدير لدار النشر ‘الحرس الفتي’، أو عمله في مكتب الدعاية في اتحاد الشباب، الكومسومول، ورئاسة تحرير جريدته المركزية؛ وصولاً إلى مكتب الدعاية في الحزب الشيوعي، رئاسة تحرير المجلة الأدبية ‘رومان ـ غازيتا’، التي يتفق الكثيرون على أنها تضمّ العناصر الأشدّ محافظة في المشهد الأدبي الروسي الراهن بأسره. لله في خلقه شؤون، وما كان للرجل أن يُذكر هنا لولا أنه أدلى بدلوه في أمر لا يخصّ القومية الروسية، من قريب على الأقلّ؛ ولا الأدب الروسي، القديم أو الحديث أو المعاصر؛ ولا محاسن أو مساوىء الـ’أباراتشيك’…
لقد أفتى الرئيس العتيد بما يلي، على ما نقلت عنه ‘سانا’، وكالة أنباء النظام: ‘سورية هي بلد مسلم ولكن جنباً الى جنب مع المسيحيين والديانات الأخرى والمعتقدات المختلفة. وهذا التنوع يشكل نموذجاً للتعايش والصداقة بين أطياف الشعب الواحد، وإن محاولة تغيير هذا النسيج بتهديدات واعتداءات على سورية والقيام بالأعمال التخريبية نرفضه جملة وتفصيلاً، ونقف إلى جانب الحلّ السلمي لكلّ المشاكل والمواضيع، وندعم جهود الشعب السوري في اتجاه تحقيق الاستقرار والسلام على أرضه، وندعو له بالصمود لمواجهة هذه الهجمة الشرسة’. حسناً، الكلام إلى هنا يحتمل أكثر من تأويل، ولا يختلف كثيراً عن أقوال أي ‘ممانِع’ عربي، يتمنى الخير لبلدنا، ويطالب بإنهاء ‘الأزمة’ سلمياً، مبدياً براءة الحمام ورقّة اليمام!
بيد أنّ غانيتشيف، وباسم اتحاد كتّاب روسيا وليس باسمه شخصياً فحسب، ذهب أبعد حين منح بشار الأسد جائزة ‘أحد أهم رجال الحقل السياسي والاجتماعي والحكومي’، وذلك بسبب ‘صموده في مقاومة الهيمنة الغربية في محاولة إملاء إرادة مستعمري عالمنا الحالي على الشعب السوري’. وقال الرئيس العتيد، في خطبة تسليم الجائزة إلى سفير النظام في موسكو: ‘توجد مجموعات متضررة من مقاومة الهيمنة تحاول استثارة الشارع، ونرى ازدواجية المعايير في التعاطي مع الأحداث في المنطقة’؛ مشدداً على أن ‘سورية كاحدى أروع التشكيلات الاجتماعية، تتعرض لهجمات همجية لتفتيتها تحت اسم ثورة’.
الهمجية مصدرها الهجمات المعادية، إذاً، وليس أجهزة النظام الأمنية ومفارزه العسكرية وميليشياته الموالية؛ وغانيتشيف لم يسمع البتة بمقتل الآلاف، وبينهم أطفال ورضّع، والتمثيل بالجثث، وسرقة الأعضاء البشرية، واغتصاب الصبايا والنساء، وممارسة أبشع صنوف التعذيب، واعتقال عشرات الآلاف، وتحويل المدارس والملاعب والساحات العامة وعربات القطارات وحاويات السفن إلى سجون؛ ولم تبلغه أخبار حصار القرى والبلدات والمدن، واستهدافها بأسلحة ثقيلة شتى، من المدفعية وراجمة الصواريخ، إلى الحوّامة والقاذفة المقاتلة… وهذه الانتفاضة ليست من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة والمستقبل الأفضل، بل هي ‘هجمة شرسة’، فقط، وليس على الشعب السوري إلا أن ينتظر الأصلاح من الاسد، ‘الذي يلاقي تطلعات شعبه، وشعبه يدعمه’، في ‘حلّ مشاكل الأزمة الحالية’.
يبقى أنّ هذه الجائزة ليست أرفع ما يمنح اتحاد كتّاب روسيا، من جهة؛ وليست أرفع ما حصل عليه آخرون في سورية، من جهة ثانية: رئيس اتحاد الكتّاب السابق، علي عقلة عرسان، حصل على جائزة أعلى قيمة في الواقع (وسام الفنون من روسيا الاتحادية)؛ كما كُرّم محمد ابراهيم العلي، الروائي/ اللواء المتقاعد، بمنحه جائزة شولوخوف؛ رغم أن الحيثيات كانت متشابهة في الحالات الثلاث، من حيث اعتماد اللغة الخشبية ذاتها. كذلك فإنّ غانيتشيف ليس ذلك الفارس الهمام الذي يُعتدّ بجوائزه، فما بالك بأقواله، إذْ سبق له أن امتدح حفل تكريم عدد من ‘متقاعدي’ اتحاد كتّاب النظام، فأطرى بعضهم بالاسم، دون أن ينتبه إلى أنّ هاني الراهب رحل عن عالمنا وهو مطرود من الاتحاد، وأنطون مقدسي فُصل من عمله في وزارة الثقافة، وعلي كنعان يقيم في المنفى!
ومع ذلك فقد ابتهج إعلام النظام، وطبّل للجائزة وزمّر؛ إذْ كيف للمرء أن يتوقع منهم عدم مسخ الحبّة إلى قبّة!