«حب وقمامة» لايفان كليما.. جوع الروح
عباس بيضون
لا نصدق عنوان رواية ايفان كليما «حب وقمامة» الصادرة عن دار التنوير من ترجمة الحارث النبهان بل لا نزال نستهجنه حتى نقرأ الرواية. عندئذ نعرف أنها حقاً رواية حب وقمامة. من قمامة حقيقية، من كناسة حقيقية للشوارع صنع كليما معنى مشعاً، جوهرة فعلية. من الصعب تلخيص رواية كليما مع أنها ذات سياقات واضحة. بيد أننا منذ البداية نشعر أن فيها ما يشبه مسخ كافكا، أن فيها، رغم انها تتكلم عن كناسين حقيقيين، ما يتجاوز الواقع أو يعيد تمثيله في رموز. القمامة هنا حقيقية. لن نستغرب أن أديباً معروفاً في بلده وفي الغرب يختار أن يعمل كناساً، لعل في ذلك شيئاً من العقوبة. فالأديب، كما هو واضح، منشق وملاحق. مع ذلك فإنه لا يختار عمل الكناسة اضطراراً. يختاره بملء إرادته لا كما يفعل مثلاً بطل كونديرا في «خفة الكائن التي لا تطاق»، بطل كونديرا المنشق يختار عمل غاسل الزجاج اضطراراً، ليتعيّش منه. أما بطل كليما، التشيكي مثل كونديرا فيختار عمل الكناسة لأن فيه اختباراً آخر وهو يعرف أنه لن يبقى فيه.
بطل كليما يجمع القمامة مع فريق نتعرف عليه: المخترع الذي يصنع جهازاً لإزالة البياض من العالم، الموسيقي المصاب والذي يعزف لأساتذة الجاز ويحلم بدواء غال يوجد في سويسرا. المرأة التي تأتي بكدمات في وجهها. هؤلاء ليسوا مجرد كناسين، ان لكل منهم وضعه الإشكالي. إن كلاً منهم، شأنه شأن الكاتب، موزع بين الفانتازيا والواقع. بل لكل منهم سحنة فانتازية، لا نعجب إذاً حين نعلم أن الكاتب الكناس يعمل على دراسة عن كافكا، في رواية كليما لا تتعارض الكتابة مع التأليف والكناسة بدون أن تكون شيئاً سوى رفع القمامة والتنظيف مكانها، تبقى الكناسة هي الكناسة لكن هذا لا يمنع أن يكون أصحابها شعراء، فهذا المخترع الحالم بإزالة البياض من العالم ليس سوى شاعر بطريقة ما. الكناسة تبقى هي الكناسة، مكانس ومجارف وقمامة لكنها مع ذلك، ومع هذه الدقة وبالرغم منها، مع هذه الواقعية الباردة تأخذ القمامة وكناستها بعداً رمزياً. أليس هنا ما تنتجه الأنظمة والحكومات والمجتمعات، أليس هذا ما تفرزه.
يتكلم الكاتب (الرواية بصيغة الأنا) كثيراً عن «لغة الحمقى» لغة الحمقى هذه في الصحف والإذاعات والمسارح والقصائد والأخبار. لغة الحمقى هذه هي القمامة اليومية التي يصنعها البشر وتصنعها الأنظمة والمجتمعات، لذلك نفهم أن «كناسي لغة الحمقى يصلون في مركباتهم المزينة بالأعلام متظاهرين بأنهم يكملون ذلك التنظيف الكبير، يكنسون ذكريات الماضي كلها، كل من كان عظيماً في الماضي، والقبطان أحد أفراد فريق الكناسة يدرك في نظر الكاتب «أن أصحاب لغة الحمقى من صانعي الكلام والصور قد غمروا العالم بقمامتهم». العصر الثوروي، بحسب تعبير كليما يعتبر العالم مليئاً بالقمامة على استعداد لتنظيف الأرض من أي إنسان. كما هي لغة الحمقى، أما الحمقى أنفسهم فلهم «سلطان على القمامة» ذاتها كما يقول كليما.
الكاتب الكناس في غمرة عمله في التنظيف لا تنحصر حياته في هذا العمل إنه متنازع بين امرأتين، احداهما زوجته والثانية عشيقته. متنازع بين زوجته الطبيبة النفسانية وعشيقته الفنانة النحاتة التي تنحت وجهه في رمل الشاطئ وتترك الموجة تزيله. بردت علاقته بزوجته بينما هو في عز علاقته بعشيقته. مع ذلك فهو لا يريد أن يهجر زوجته ويحمل إليه تعلق عشيقته به وتعلقه بها، بعض الضيق إذ يلقيه في هوة التردد، زوجة الطبيب تحب أن تفعل الخير لمرضاها وللآخرين أما العشيقة فتريد أن تستأثر بحبه وتلومه على تردده «الشيطاني». هذا التردد يخترق الرواية من أولها إلى آخرها، مثلما تخترقها القمامة. هذه الموازاة بين القمامة والحب المجموعين في عنوان الرواية لا تملي خياراً أخلاقياً. يتكلم الكاتب عن الذنوب التي نتحملها في طريقنا إلى الحرية، إنها الذنوب التي تكلم عنها كافكا. يحمل الكاتب ذنوباً تجاه عشيقته كما يحمل ذنوباً تجاه زوجته. وإذا اختار أن يعود إلى زوجته وكتب إلى عشيقته يبلغها بذلك فإن هذا الاختيار بلا مضمون سوى أن شعوره بالذنب تجاه زوجته تفوق على الشعور بالذنب تجاه عشيقته. ليس هذا انتصاراً بالطبع للحياة العائلية ولا للحب الشرعي ولا للزواج، انه فقط القرار الذي لم يستطع الكاتب أن يتوصل إليه إلاَّ بقوة الظروف. ما فعله الشيطان هو التردد كما تقول عشيقة الكاتب ولم يكن قرار الكاتب انتصاراً ولا خياراً ذا دلالة. ما فعله هو انه تعب من تردده وفرض عليه أن يقرر ففعل. اختار زوجته لأن تردده كان من جهة العشيقة. كان خياره لذلك ميلودرامياً، مجرد حل «وددت ألا أقتحم حياة أحد آخر، ألا أنتمي لأحد»، أكان يهرب من استئثار عشيقته ويرفض أن ينتمي إليها. أكان لا يحتمل إلحاحها على أن يكون لها بكليته؟
يتكلم الكاتب كثيراً عن الروح، عن جوع الروح وفراغها، يقول «لم يملأ الخمير الحمر فراغ أرواحهم بالأشياء أو بالمال الذي يحتقرونه. لقد أدركوا ان فراغ الروح غير قابل للملء ولو بكل أشياء العالم. وهذا ما جعلهم يحاولون ملأه بالأضاحي البشرية، لكن فراغ الروح لا يقبل امتلاء بأي شيء، حتى ولو سيق بنو البشر جميعاً إلى المذبح، سيستمر الفراغ مخيفاً لا يعرف الشبع». هنا نجد القتل والاستبداد عبارة عن أزمة روحية، سبق لكولن ولسن أن رأى في القتل المتسلسل مطلباً صوفياً، أي روحياً، انه محاولة عبثية لملء الروح، سيخيفنا هذا الجوع الذي لا يملؤه آلاف القتلى. لكن كليما في لفتة أخرى عن الأدب يتحدث أيضاً عن الأمل «مازلت أؤمن أن ثمة شيئاً مشتركاً بين الأدب والأمل.. لا تشدني كثيراً الكتب التي يقف أصحابها عند مجرد تصوير انعدام الأمل في وجودنا، تصوير يأس الإنسان وقنوطه، تصوير ظروفنا، و الكلام اليائس في الفقر والغنى، وفي محدودية الحياة وفي سرعة زوال المشاعر. حري بالكاتب الذي لا يعرف شيئاً آخر أن يلزم الصمت». يعرف كليما بالتأكيد شيئاً آخر، لكنه يعرف جيداً محدودية الحياة وسرعة زوال المشاعر. يعيدنا كليما إلى كلمة مهجورة في النقد الأدبي هي الصدق. إنه يقول عن كافكا إنه أراد جاهداً أن يكون صادقاً في كتابته وفي مهنته وفي حبه. يتكلم أيضاً عن رفض الكتابة بلغة الحمقى. لم تكن الكناسة شيئاً آخر سوى التخلص من هذه اللغة.
بعد كافكا عرفنا جيداً كونديرا، لكننا لم نعرف جيداً اهرابال وأمامنا الآن كليما. إنه خيط الأدب التشيكي.
السفير