حتميّات سوريّة متخاصمة/ عمر قدور
مع توالي التصريحات التي تتضمن الإبقاء على بشار في السلطة بدا الوقت مناسباً لجردة حساب يجريها معسكر المعارضة، ومع أن هياكل الأخيرة التنظيمية لا تبدو في وارد المراجعة حتى الآن إلا أن نقاشاً عاماً على وسائل التواصل الاجتماعي، أو على صفحات الجرائد أحياناً، يقوم بهذه المهمة مع الحفاظ على الفولكلور السوري لجهة خضوعه للانفعالات أو عدم التعويل عليه أيضاً. وبالطبع ليس هناك وهم حول جدوى أية مراجعة الآن، فالفكرة السائدة هي وقوع القضية السورية برمتها خارج أيدي السوريين، ما يعني عملياً انتظار التغيير من الخارج، عندما يتغير الخارج أو يغيّر رؤيته للقضية.
اليأس قد يكون مبرَّراً حقاً، فالسوريون يائسون من توفر الحد الأدنى للعدالة الدولية، ويائسون ممن يُسمون أصدقاءهم بما يفوق أحياناً اليأس من الأعداء، وهم يائسون من أنفسهم ربما قبل كل شيء. واليأس كما نعلم لن يكون دافعاً لاختبار السياسة، السياسة التي كانت غائبة إلى حد كبير عندما كانت عوامل اليأس أقل، بل قد يكون غياب الأفق مدعاة للتشبث بحتميات تعفي أصحابها من أي جهد نظري أو عملي، وهذا ليس بجديد أيضاً على السوريين.
الكتلة الصلبة لموالي النظام مثلاً بررت اصطفافها معه بالخوف من تغيير يأتي بمتطرفين إلى الحكم، الديموقراطية لا تعني لهم سوى حكم تلك الأغلبية المتطرفة، ولا فرق تالياً بين مجيئها بالقوة أو عبر صناديق الاقتراع. هذه الحتمية التي توصم من خلالها الأغلبية كانت فعالة أكثر من أية لفتة قدمتها الثورة في بداياتها، لأن الحتمية أسبق وأشد تأثيراً من أية محاولة لجر أصحابها إلى حقل التجريب السياسي، بما في ذلك اختبار تلك المصادرة المسبقة التي قد لا يثبت صوابها.
لدى نسبة كبيرة من أكراد سوريا، شاعت حتمية مفادها أن المعارضة ستحكمهم بأسوأ من حكم الأسد الذي خبروه؛ لم يعدم هذا التصور أحياناً وقائع حربية تسانده، لكنها في المجمل انتهاكات حدث مثلها على مختلف الجبهات، وارتكب بعضها أكراد أيضاً، أي أن تلك القناعة التي تخلص إلى أن حكم الأسد أفضل من أي بديل له تتغذى من ذاتها أكثر مما تتغذى بالتجربة السياسية. ولأنها كذلك فهذه القناعة لا بد أن تتعفف على التجريب، ولا بد لها أن تقطع عليه كل السبل كي تحافظ على ذاتها صافية وقوية بالنسبة لأصحابها. لا يندر في المقابل وجود عرب لا يرون في الأكراد عموماً إلا مجموعة من الانفصاليين الطامعين، حتى لدى أولئك الأكراد الذين يعلنون تمسكهم بوحدة التراب السوري، فالكردي من وجهة النظر هذه انفصالي بالضرورة، وإن ظن نفسه غير ذلك.
ضمن ما يُفترض أنه معسكر الثورة ذاته حدثت تلك الانشقاقات المبنية على حتميات مسبقة لدى أصحابها، وكان أشهرها في إحدى المراحل تلك التي تنص على إنكار العسكرة ورفضها بالمطلق من قبل البعض، وتبنيها من قبل آخرين. الخلاف كما نذكر كان بين من قالوا بحتمية العسكرة أمام وحشية النظام ومن قالوا بمآلات مدمّرة للعسكرة، سواء على الصعيد المادي أو المجتمعي. لكن إلى جوار هذين المنطقين لم يكن هناك اشتباك بقضية العسكرة من قبل مؤيديها، وبالطبع من قبل مستنكريها، ولم تكن هناك محاولات جادة للتأثير فيها، فآلت العسكرة لتصبح خارجية تماماً من دون أي مشروع وطني يجمع شتاتها.
من ذلك الخلاف تتناسل حتميتان أخريان، فمناهضو العسكرة يرون أن مجمل سلوك المعارضة قد أودى بالثورة، وأودى بفرصة تغيير النظام. هذا من دون تجشم أي عناء لإثبات هذه الفرضية، سوى الضعف الذي ظهر عليه النظام في مطلع الثورة قبل أن تتدخل القوى الحليفة له بكامل ثقلها، وقبل أيضاً أن يفيق من صدمة الثورة عليه. أخطاء المعارضة تُستخدم هنا لإثبات ما لم يحدث، ما دام ذلك ضمن قناعة مطلقة، وما لم يحدث يستمد صوابه من ذاته، أو من الاكتفاء بالإصرار عليه ليبلغ مرتبة الحقيقة التي لا تقبل النقض.
في المقابل يبدو اليوم وصف العالم بالمتواطئ طوال الخط على إبقاء بشار في مثابة الحتمية التي تجعل كل جهد سدى، فوفق هذه النظرة لم يكن من جدوى لأفضل جهد تبذله المعارضة لتفادي هذا المصير. وأن يكون عالم السياسات الدولية لاأخلاقياً إلى هذه الدرجة فهذا مما قد يتكفل بمحو أخطاء أقل أهمية من قبل المعارضة، لأن قدر الأخيرة أن تكون مستضعفة وأن تعصف بها الرياح الخارجية خدمة لذلك التواطؤ. مشكلة هذه الحتمية أنها تعيد اكتشاف ما هو معروف أو مجرَّب عن عالم السياسات الدولية، وهي بهذه العمومية لا تنتج معرفة جديدة بعالم لا يمكن للسوريين الاستغناء عنه مهما بلغت لاأخلاقيته.
إننا أيضاً في هذا السياق نبدو كأننا نتحمل مسؤولية تغيير العالم، حتى يصبح ملائماً من أجل التغيير في سوريا، بعد أن كان النظر إلى التغيير في سوريا يتضمن الانضواء في العالم والانفتاح عليه. بالطبع لن يكف العالم عن منحنا، ومنح آخرين في مختلف أصقاعه، أسبابَ النقمة والغضب. هذا أمر مختلف تماماً عن فهم موقعنا منه، ومحاولة تحسين شروط وجودنا فيه، بخاصة مع الأخذ في الحسبان تلك العوامل التي تقف ضد مصالحنا. إن شيطنة العالم على هذا النحو، حتى إذا كانت مستحقة، لا تنتج سوى معرفة مخاتلة عنا، لأنها تضمر تبرئة الذات، وإذا لم تفعل ذلك مباشرة فهي تقلل من شأن أخطائها أمام قدر عاتٍ تمثله قوى خارجية لا إمكانية لمواجهتها إطلاقاً.
تفيدنا رؤية هذه الحتميات السورية لمعاينة مقدار التحاجز بين مختلف المجموعات، عرقية كانت أو طائفية أو سياسية، وأيضاً في إقامة حاجز بين السوريين والعالم. وفوق وظيفتها في إقامة التحاجز فهي ذات وظيفة أساسية في امتناع نقد كل مجموعة لذاتها، وفي امتناعها سياسياً أو بقائها عصية على السياسة. وألا تنتج التجربة السورية منذ بدء الثورة تطورات في الخطاب توازي الواقع، أو حتى تتخلف عنه قليلاً، فهذا لا يُعدّ فقط مكملاً للتحارب الواقعي والرمزي. هو على الأرجح نوع من القصور الذي لم يُستدرَك في التعاطي مع السياسة، غير أن أصحاب هذا القصور يزينونه لأنفسهم بحيث يبدو امتيازاً.
المدن