صفحات العالم

حتى الضباع لا ترتكب مثل هذا!


نهلة الشهال

لولا مجزرة أطفال درعا في البداية لما قامت اليوم مجزرة كرم الزيتون. أن لا ننسى، وألاَّ نعتاد ونألف هو المهم. بعد ذلك يمكن الاسترسال في الثرثرة والتحليلات عن مقدار العنف المختزن في هذا المجتمع وعن دلالته كاختلال مرَضي خطير ـ وقد شاهدنا مشابهاً له في أكثر من مكان ـ وعن أصله وفصله وكيف يمكن العلاج منه والشفاء.

لا سياسة ولا حسابات ومخططات سياسية يمكن أن تقف أمام مجزرة حي كرم الزيتون في حمص. لا قيمة ولا أهمية لأي قول أو تبرير. كله غير مسموع وغير قابل للسماع، النظام السوري المجرم الذي يسارع الى اتهام «العصابات المسلحة» بالفعلة، وتلك المعارضة العاهرة التي تبني عليها لتطلب تدخلاً عسكرياً دولياً وتسليح (ها) هي. كِلاهما غريب عن البلد وأهله. كلاهما لا يرى إلا السلطة. بينما الصور التي نراها نحن، مواطنو العالم أجمع، وجيران سوريا الأقرب، تدفع الى الجنون. من يسكت عنها ويمر بها كحدث من جملة سواه، مصاص دماء يجهل مرضه، لا يعرف أنه قاتل بالقوة وقد يصبح قاتلا بالفعل متى تسنح له الفرصة. لا بد من صرخة عالية، موحدة، تقول «أرفض ذلك». ومن لا يفعل، كائناً من كان، مدان. ولن يمكنه بعد ذلك تبرير مواقفه بأي تحليلات سياسية. لن يمكنه الدفاع عن أي شيء يدعو اليه، مهما كان جديراً: يفقد الشرعية العامة.

ثمة شيء اسمه الأخلاق أو القيم. موجود مادياً. ليس العالم كله سياسة أو صراع على المصالح والاهداف، لأنه «لو خلت قُلبت». وهي الآن تخلو، إذ يراد لمجزرة حي كرم الزيتون ومثيلاتها تقوية الحلقة المفرغة التي تشتغل وفق مبدأ الانتقام المتبادل، الذي لولاه لما قام العنف، وتقوية الانفعالية الغريزية، التي بدونها لا يمكن ارتكاب ما ارتكب. وتلك هي القوانين العامة للعنف السياسي المشابه، وهي مدروسة جيداً ومنظَّر لها. وهي لا تجابَه إلا بموقف يتعداها: يعتبر أن تلك الافعال تمثل تحدياً للبشرية جمعاء ـ لإنسانيتها ـ ويدينها بلا أي توقف أمام التفاصيل ومن دون أي استدراكات. يدين أولاً لجوء السلطة في سوريا الى إنشاء وإطلاق ميليشياتها بمواجهة «العصابات الارهابية»، ويدين ثانياً نوازع إرعاب الناس بدلاً من السعي الى كسبهم. فتلك ردة فعل الخاسرين، الذين يؤسسون لاستمرار سطوتهم بفضل القوة العارية. وهذه معادلة مجنونة، لا تستقيم. وكذلك الكذب. صحيح أنه يوجد قدر من الكذب في أي ايديولوجيا، ولكنه هناك لا يستند الى فراغ سحيق، أي لا يقوم بذاته. بينما راح الصراع في سوريا الى هذا، وغابت عنه تماماً أسانيده. فقامت المعارضة المهيمنة، بجذريتها المفتعلة، التي ترفض في نهاية المطاف السياسة، بما هي تفاوض وتسويات، (ترفضها ليس فحسب حيال السلطة القائمة، بل أيضاً على مستوى تأسيس علاقة مع المعارضين الآخرين، لكونها تريد أن تكون «الشرعي والوحيد»)… قامت بحرف نضال الشعب السوري من أجل الحرية والكرامة والحقوق العامة الى صراع على السلطة ذي منحى طائفي، لا يشفع له أن يوضع مسيحي كناطق إعلامي باسم المجلس الوطني، ولا أن يوجد بضعة يساريين في صفوفه. فالمقياس هو رصد الدينامية المشتغلة. وهذه تقوم على تسعير طائفي بدائي يسيطر شعبياً (أنظر المواقع والمدونات، وكلامها تقشعر له الأبدان)، وعلى خدمة تكتيكات باريس وأنقرة والدوحة وواشنطن والرياض، في صراعها مع موسكو وبكين وطهران الخ… مما لا مكان فيه للشعب السوري ومطامحه ومصالحه.

بمقابل ذلك أو في أساسه لا فرق! ليس استخفافاً أو تعمية ولا تفضيلاً، بل لأن ذلك العنف هو حلقة مفرغة، وككل دائرة فهي بلا نقطة رأس ـ غرفت السلطة السورية مما تعرف، من بنيتها الأولية والأسهل، فأطلقت منذ اليوم الاول «الشبيحة»، وتوسلت منذ اليوم الاول الإنكار والإرعاب: إنكار أن هناك حراكاً اجتماعياً سياسياً وطنياً ومشروعاً، وأنه مؤسس على عقود من المطالبات، وأنه ينبغي الاستماع إليه والتوصل معه الى نتيجة مرضية (وكان ذلك ممكناً بالتأكيد)، والإصرار على اعتباره مفتعلاً ومتلاعباً به منذ البداية، والإجابة عليه بقمع وحشي يستهدف الإرعاب ليس إلا.

كم تشبه تلك المعارضة النظام الذي تقاتله!

وعلى صعيد آخر، يساهم الصراع الدولي على سوريا في تعزيز هذه الحلقة المفرغة، هي نفسها. فها هو وزير خارجية فرنسا، السيد ألان جوبيه، «ينذر» السلطة السورية، ويمنحها 48 ساعة لتجيب على مقترحات أنان، وهو هنا يتصرف بوكالته عن حلفه الدولي/الاقليمي وكذلك بوصفه الرأس المفكر للمعارضة السورية المهيمنة على المشهد. وها هو لافروف يتفاوض نيابة عن السلطة السورية في مجلس الجامعة العربية مؤخراً، وعلى صعيد كل التحرك الدبلوماسي/السياسي/العملي الذي شهده العالم في الاسابيع الماضية. وهو ما يطلق العنان لتقديرات عن صفقة ما يمكن أن تنتج عن هذا التدويل الحاد، وعن بيع متبادل لملفات متوزعة على العالم. وهذا أمر محتمل في مثل هذه الحالات، كما هو محتمل توسل العناد والانتهاء الى استعصاءات. فليست سوريا بلد جوبيه ولا لافروف، ولا الشعب السوري يخصهما، بل قد يشعلان، وحلفاءهما، المنطقة برمتها، ويديران بعد ذلك حربها الدموية والمدمرة بـ«الريموت كونترول».

ولكن ماذا بعد الإدانة هنا، وهي تبقى كلامية؟ ماذا بعد رفض قبول التخدير القاتل؟ وكيف يمكن الإفلات من تلك القدرة الفائقة للقوى المتصارعة في سوريا على استيعاب كل موقف ضمن آلياتها الخاصة وتوظيفه في حربها على الجهة المقابلة، مما يبطل اهمية الموقف ذاك، بل ويحرِّفه؟. ما الذي يمكن فعله مما له أثر، فيمنع عن نساء سوريا وأطفالها مجزرة تالية، يليها تهجير طائفي وانتقام مقابل وهكذا… منع الذبح بالسكاكين والطعن بالخناجر بعد الاغتصاب، إن لم يكن ثمة قدرة على إعادة الامور الى نصابها؟ سؤال ملح، أفظع ما فيه أن كل الإجابات عنه تبدو قاصرة حتى الآن، ما يترك الساحة خالية لتلك الوحوش الفتاكة، تؤبد لعبتها اللئيمة. وهذه نتيجة لا يمكن القبول بها من دون إعلان موتنا كبشر. هل من مقترحات؟

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى