صفحات الرأي

حتى لا تكون المدن متوحّشة/ إبراهيم غرايبة

 

“الأمم وضعت في الفنون أسمى أفكارها، ووضعت في العمارة أسمى فنونها”.

يقتضي وجود المجتمع نشوء ثقافةٍ تنظمه، فلا مجتمع بلا ثقافة، وهذه الثقافة تنشئ، في محصلتها، الجمال، باعتباره فلسفة عمل وحياة يميز بها الإنسان القبيح من الحسن في الأفكار والأعمال والتقييم والمحاسبة، والنظر إلى الذات والآخرين، والعمل الاجتماعي والسياسي، وهذا الجمال هو الذي ينظم إدارة الأمكنة والمدن وتخطيطها، والتفاعل بينها وبين المجتمعات، وما يتبع ذلك من قيم وأفكار في التمدّن والإبداع والعلاقات الاجتماعية والثقافية.

فالتقدم يقوم، أساساً، على قيم جمالية، تعلّم الناس كيف ينظمون مواردهم ويطوّرونها، كيف يجعلون بيوتهم وطرقهم وأحياءهم ومدنهم وبلداتهم ملائمةً لحياتهم، وكيف تبنى وتصمم لتوفر لهم الدفء والتهوية والإضاءة والخصوصية بذاتها، وليس بتكاليف وتدخلات مرهقة ومكلفة، وكيف يجعلون من حياتهم اليومية وأمكنة إقامتهم وعملهم بذاتها وبطبيعة علاقتهم بها مصدرا للرضا والتكافل وتنظيم الاحتياجات الأساسية.

وعلى هذا الأساس، تكون البيوت والمدن والأحياء أكثر استجابةً لحاجات الاستقرار، فمدننا وبيوتنا وأحياؤنا تكون وعاءً للحياة الأفضل، بمقدار ما نمتلك من طاقات الجمال. والموارد والنفقات تدار أيضا بالجمال، كيف تخطط الأحياء والبيوت والطرق على النحو الذي يجعل الحياة مصدرا للسعادة بلا تكاليف وجهود إضافية؟ وبكلمةٍ، يجب أن تعكس المدن والأحياء والبيوت احتياجات الساكنين وتطلعاتهم، الإضاءة والتدفئة والتهوية والتبريد والخصوصية والراحة والسكن، المعابد والحدائق والأندية الرياضية والثقافية والاجتماعية والمدارس والمكتبات العامة والأسواق والخدمات والحرف والمهن الأساسية والضرورية…

نشأت الرواية والمسرحيات والأعمال الموسيقية والفنون التشكيلية والسينما والدراما باعتبارها تشكيلاً اجتماعياً وثقافياً اقتضته عمليات التمدّن ونشوء المدن وتطورها. وكانت على مدى التاريخ، وفي جميع الحضارات، أداة المدن والمجتمعات لأجل تحقيق الانسجام والسلام في الحياة والعلاقات، ذلك أن المدن تقوم على طبقاتٍ من المهنيين والمثقفين وأصحاب الأعمال وقادة الحكم والإدارة، والمؤسسات العامة والتجارية، وتتشكل علاقاتهم الاجتماعية بناءً على

“الخواء ليس مجرّد أزمة نفسية ولكنه حالة اجتماعية جديدة كاسحة ينمو فيها التطرّف والكراهية” الأعمال والقيم والأفكار والمصالح المشتركة، ففي الأندية والمقاهي والبيوت تكون الثقافة والآداب والفنون والموسيقى والرياضة هي المجال المشترك للأصدقاء والجيران والزملاء الذين لا تربطهم ببعض روابط القرابة، وتنتمي معرفتهم ببعض إلى الحياة المدينية والعملية المشتركة. وفي الفضاء المشترك والمزدحم، تتشكل الحاجة إلى السكون والخصوصية والثراء، فيحمي أهل المدن أنفسهم من “الخواء” الروحي والاجتماعي بالفردانية. وفي هذا الفضاء الروحي والاجتماعي، يتشاركون في الأسواق والأندية والمرافق والخدمات العامة والمرافق والمتنزهات والأندية. وفي الوقت نفسه، ينشئون أنماطاً من السلوك والقيم تجعل كل واحدٍ منهم يشعر أن الفضاء له وحده، بسبب منظومة السلوك والإشارات والرموز التي تحمي الإنسان، وتكون المدن وحياتها اليومية قائمةً على هذا التشكيل الاجتماعي والثقافي ومستمدة منه.

وبالطبع، لا ينشأ التمدن تلقائيا، ويظل معرّضا للانتكاس والتراجع كلما أصيب العقد الاجتماعي للمدن بالخلل، بعكس الروابط القرابية والدينية والإثنية والطائفية؛ الصلبة والمتماسكة بذاتها. وهكذا، فإن التطرّف والخواء ينشآن بسهولةٍ وتلقائية، وأما منظومة التمدن فتظل أسسها معنويةً ورمزيةً (عملية وثقافية وقانونية). وهنا، تكون وظيفة الفنّ الحفاظ على هذه المنظومة وحمايتها وصيانتها باستمرار.

خطورة عدم التحول الثقافي والاجتماعي في المدينة بما يتفق مع هذا المسار المفترض أنه

“لا ينشأ التمدن تلقائيا، ويظل معرّضا للانتكاس والتراجع كلما أصيب العقد الاجتماعي للمدن بالخلل” يحوّل حياة المدن وعلاقاتها إلى حالةٍ من القلق والفراغ والخواء الشديد، فالمدينة لا تمنح ساكنها الحماية التي تمنحها القرى، وعندما تتريّف، أي تهيمن عليها الروابط الريفية، من غير عشائر حقيقية، تكون الجماعات والأفكار الدينية البديل. هكذا بدلا من التمدّن، يلجأ قادمون إلى المدينة إلى التطرّف أو الاكتئاب والإدمان والجريمة. وهكذا، فإن الحياة الثقافية والفنية المزدهرة في المدن في البيوت والمقاهي والمسارح والأسواق تؤشر على قدرة على تطوير الأعمال وتحسين حياة الناس ومرافقهم، وقدرتهم على جعل أسلوب حياتهم وأعمالهم يؤدي إلى مزيدٍ من التقدم.

وتمضي حالة الانفصال والخواء إلى مراحل جديدة، فبغير ثقافة الجمال ورؤيته وملكاته ومواهبه التي تلاحظ القبيح والحسن، وتتمسّك بحاكمية المنطق على الأعمال والحياة، لا تنشأ العمارة على النحو الذي يحقق راحة الناس واحتياجاتهم، واللباس على النحو الذي يحب أن يرى الناس أنفسهم عليه أو يراهم الآخرون،.. وكذا الطعام والطرق والنقل، ثم تصميم السلع والمنتجات والخدمات جميعها، إلى الحديث والسلوك والعلاقات والأفكار،.. إنها جميعها تتقدّم نحو الصواب والتقدم والأفضل، بناءً على ما يملك الناس من جمال ومنطق، وهما (الجمال والمنطق) محصلة الثقافة المنظمة لحياة الناس والمحيطة بها. وبغيرهما لا يقدرون على اختيار الأفضل والمقارنة بين الأفكار والسلع والأعمال، ولا معرفة ما يريدون وما يحتاجون إليه، وما يريدون أن يكونوا، وكيف يراهم الآخرون وكيف يرون أنفسهم، فالمجتمعات والأفراد والأعمال والمنجزات والسلع والأفكار والأذواق والخدمات والأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيوت والملابس والطرق والأحياء والمدن والأمكنة تتحدّد بالقدرة على تصميمها وإدراك الحالة التي يجب أن تكون عليها، وهي نهايةٌ تقرّرها القدرة على الرؤية والخيال، أي الجمال، فحياتنا إذن تكون على النحو الذي نتخيله ونراه. وهي في ذلك في تقدّمها وتخلفها بمقدار قدرتنا الجمالية والرؤيوية. وبذلك، يكون الخواء ليس مجرّد أزمة نفسية، ولكنه حالة اجتماعية جديدة كاسحة، ينمو فيها التطرّف والكراهية.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى