حتى نخرج الدين من صراع المصالح/ محمد رزق
“الدين أفيون الشعب”، مقولة كارل ماركس التي رفضها البعض وأيدها البعض الآخر، اختلفوا في تفسيرها واعتمدوا في ذلك على مرجعياتهم ومرجعية قائلها، ولكن بغض النظر عن كل ذلك فلننظر لهذه المقولة من زاوية أخرى، زاوية تطل على أصاحب النفوذ والسلطان الذين كانت الدعوات الدينية تصب في مصالحهم، ليحققوا أمنياتهم وينالوا مطالبهم بدعم وتأييد الإله، الدعم الذي جعل العامة تنساق لتحقيق أحلام صاحب السلطان بعدما ألبس مصالحه عباءة الدين وخدمة الرب، أثبت لنا التاريخ ذلك في مختلف عصوره وحتى نقف على هذا لنتناول بعضاً من هذه الأحداث.
نوفمبر عام 1095 ألقى البابا أوربان الثاني خطبته الشهيرة في مجمع كلير مونت بفرنسا والتي استعمل فيها كافة أساليب الإغراء والإثارة الدينية لحث المسيحيين في أوروبا للعمل على نصرة إخوانهم المسيحيين في الشرق لما تعرضوا له من ظلم على يد الأتراك السلاجقة، وإيقاف اضطهادهم واستعادة الأراضي المقدسة من أيدي المسلمين حسب قوله. وقد ألهبت خطبته حماس الجماهير الذين سارعوا لتلبية النداء ليبدأ ما عرف في التاريخ بالحروب الصليبية، ولكن هل كان أساس هذه الدعوة دينياً من أجل تخليص الأراضي المقدسة وإنقاذ مسيحيي الشرق؟
بغض النظر عن ثبوت أن أغلب ادعاءات البابا لم تكن جميعها كذباً وافتراءً، ولكن كان هناك أسباب حقيقية وراء دعوته، هذه أسباب تدعم سلطانه ونفوذه، فقد أوردت الدكتورة زبيدة محمد عطا في كتابها “العلاقات بين الشرق والغرب” بأنه كان للبابا حلم قديم لتوحيد الكنيستين الشرقية والغربية ووضع كل كنائس الشرق تحت إشرافه بالإضافة إلى أنه أدرك أنه إذا حشد جموع النبلاء والأمراء وأرسلهم للشرق فسيتخلص من منازعتهم له على السلطة، وأن الإشراف عليهم في حرب دينية يرفع من سلطانه ليجعله فوق الملوك. ورأت طبقة النبلاء والأمراء في هذه الحروب تحقيقاً لأطماعهم بالاستيلاء على أراضٍ جديدة وتكوين إمارات وإقطاعيات لهم، ويأتي بعد ذلك طبقة العامة والتي رأت في تلك الحرب فرصة للتخلص من فقرها لما تضمنته خطبة البابا أوربان من حديث عن خيرات الشرق، على أن هذه الطبقة كان معظمها من المؤمنين بأنها حرب من أجل نصرة الدين إلا أن بقية المشاركين وجدوا مصلحتهم في حرب وأرض جديدتين.
قام فلاديمير الأول أمير كييف (عاصمة أوكرانيا الحالية) الذي عرف لاحقًا بالقديس فلاديمير باعتناق المسيحية عام 988 ودعا جميع رعاياه إلى الدخول إليها، ومع قدوم القرن الرابع عشر، استقر مقر رئيس أساقفة كييف وعموم روسيا في موسكو، وقد اعتبر الروس الأرثوذكس موسكو بأنها روما الثالثة بعد القسطنطينية وروما، وتطلعوا للقيام بدور حماة الكنيسة الشرقية، وعلى هذا فقد تزوج إيفان الثالث من صوفيا باليولوغ (ابنة أخ آخر أباطرة البيت البيزنطي) واتخذ لنفسه شارة العُقابين رمز الإمبراطورية البيزنطية. لذا حدثت تدخلات من روسيا وبعض الدول الأوروبية لاحقا في الدولة العثمانية، مدعين أن تدخلهم لحماية الرعايا المسيحيين، ولكن كانت هناك أسباب حقيقية وراء هذه التدخلات، اختلفت من دولة لأخرى.
وقد حدث بعد ذلك ما أكد أن الحروب والتدخلات التي قامت بها روسيا ضد الدولة العثمانية لحماية الرعايا المسيحيين لا تمت للدين بصلة، فكما أورد الدكتور محمد صبري الدالي في كتابه “في تاريخ الدولة العثمانية”: أنه خلال عام 1829 وقبيل توقف الحرب الروسية العثمانية وتوقيع معاهدة أدرنة “كان القيصر الروسي نيقولا الأول في موقف متذبذب إزاء الإجابة عن سؤال مهم يمكن صياغته على الوجه التالي، هل تتابع روسيا تقدمها في الأراضي العثمانية حتى تطرد العثمانيين من أوروبا أم الأفضل عقد سلام والإبقاء على الجانب الأوروبي من الدولة العثمانية؟ وللإجابة على هذا السؤال شكل القيصر لجنة استشارية وهي “لجنة كوتشوبي” وبعد دراسة ومناقشات مستفيضة قدمت تقريرها، والذي أجمعت فيه أن المكاسب التي يمكن لروسيا الحصول عليها من بقاء الدولة العثمانية في أوروبا أفضل بكثير من تلك التي يمكن الحصول عليها في حالة زوالها، ومن المهم هنا أن نورد ما قاله وزير خارجية روسيا نسلرود في هذا الخصوص “طرد العثمانيين من إسطنبول وإعادة كنيسة أيا صوفيا شيء جميل وسيخلد التاريخ اسم روسيا، ولكن ما الذي ستستفيده روسيا من القضاء على جار ضعيف وإحلال جيران أقوياء وخطرين محله؟”.
في السابع والعشرين من يوليو/تموز عام 1798 أذاع نابليون بونابرت عند دخوله الإسكندرية منشورًا ادعى فيه أنه ما قدم إلى مصر إلا لتخليص أهلها من طغيان البكوات المماليك، وحرص على إظهار إسلامه وإسلام جنوده، فبدأ المنشور بالشهادتين وأظهر احترامه للرسول والقرآن، كما أبدى اهتمامه بالاحتفالات الدينية للمسلمين، وحتى يردّ إبراهيم بك قائد المماليك الذي فر إلى الشام عقب هزيمته أمام الفرنسيين، على محاولة فرنسا للسيطرة على مصر، أشاع الرسل الذين أرسلهم من الشام أن السلطان سليم الثالث يدعو المسلمين لإشعال حرب ضد الفرنسيين الكفرة، وعلى هذا انطلقت جموع الشعب في الثورة التي انتهت بقصف الأزهر بالمدافع واقتحامه بالخيول. ويظهر هنا استخدام كلٍ من نابليون وإبراهيم بك للدين أداةً لخدمة مصالحهما عن طريق استخدامه السيطرة على العامة.
السلطان عبد الحميد الثاني أحد أكثر السلاطين الذين حظوا بالاهتمام في تاريخ الدولة العثمانية وكذلك أكثرهم إثارة للجدل، حيث لقب بـ “السلطان الأحمر” و”السلطان المظلوم” وكل لقب كان وراءه وجهة نظر تكونت على أساس مصالح داعميها ومرجعياتهم، تولى السلطان الحكم في وقت كانت الدولة ضعيفة بسبب سوء الأوضاع في النواحي العسكرية والسياسية والمالية، وبسبب كثرة ما فقدته من ولايات وكثرة التدخلات الأجنبية فيها، وانتشار النزعات الانفصالية والثورات، وقد تميزت حياته بالبساطة في ظل وقت ساد فيه الترف، إلا أنه كان من أنصار الحكم المطلق، حيث عمل على تعديل الدستور بما يعزز من سلطته، فكان يرى أن الدستور والبرلمان من العوامل التي أضعفت السلاطين والدولة، كما حاول عبد الحميد الثاني إحياء فكرة الخلافة الإسلامية باعتبارها قوة روحية تتيح له السيطرة الروحية على الأقل على مسلمي العالم وليس مسلمي الدولة العثمانية فقط، وكانت هذه أداته للتصدي للغرب الذى عمل على إثارة القوميات المختلفة في الدولة العثمانية على حقها في حكم نفسها والاستقلال، الأمر الذى كان سيؤدى لزيادة ضعف دولته، ويجدر بنا أن نذكر هنا أن سلاطين آل عثمان لم يحجّ أحد منهم منذ قيام دولتهم وحتى أفولها.
إن التاريخ مملوء بمثل هذه الأحداث التي تم استغلال الأديان فيها كأداة لتحقيق المصالح، ولطالما سمعنا مقولات مثل حرب على الإسلام، أو على المسيحية، أو الجهاد المقدس، أو حرب من أجل نصرة دين الله، أو حرب على الكفرة، ولذلك ألا يجدر بنا أن نتريث ونتفكر عندما يأتينا داعٍ يطرق على وتر عصبيتنا لديننا؟
جيل