“حجي مارع”: في صفات “الأمير الجديد”/ محمد سامي الكيال *
يندر أن نجد مؤخراً حدثاً استأثر باهتمام السوريين والمتابعين للمسألة السورية، مثل مقتل عبد القادر الصالح، قائد لواء التوحيد. ففضلاً عن الأهمية السياسية والعسكرية المباشرة للحدث، بدا حجي مارع نموذجاً للشخصية الإشكالية التي تحتل مكانة استثنائية في وعي السوريين. فهو لدى بعضهم، نموذجٌ لوطنية سورية جديدة، تمزج في الآن ذاته بين «الوعي الشعبي» ومحاربة الاستبداد، واحترام إرادة الناس بعدم فرض النموذج الإسلامي قسراً عليهم. ولدى آخرين هو رمز للتهديد الإسلامي القادم مع المقاتلين الملتحين ذوي الميول الإسلامية!
عموماً لم تخرج المناقشات حول حجي مارع من الثنائية الشهيرة للثقافة السائدة (علمانية/إسلام)، ورغم هذا كان من الواضح أن الصالح كظاهرة أكثر تعقيداً من تنميطه بصورة أحادية من النوع الذي يجيد العقل السائد ابتكاره، فهو لم يبد شبيهاً بأمراء الحرب الاعتياديين الذين قيل إن الأرض السورية تعج بهم، رغم كل ما أثير من شبهات حول ممارسات لواء التوحيد. كما أن صيغة «أمير الجماعة الجهادية» بدت مختلقة ومتحاملة إذا أُسقطت عليه. أما عن كونه بطلاً شعبياً ووطنياً وفق الرؤية الرومانسية التي يقترحها محبوه، فمن البيّن أن مجريات الثورة السورية أحدثت تغيراً مهماً في المزاج والوعي العام، لم يعد معه من السهل صناعة أبطال ورموز في المخيال الجمعي من دون تشكيك وطعن وجدل لا ينتهي.
هكذا بدت أسطورة «الأمير الشعبي» و»الرمز السوري» حاملة لبعض المبالغة والتهويل، ورغبةً ذاتيةً لصنّاع الأسطورة أكثر من كونها طرحاً ينال قبول الغالبية.
عن أي «أمير» نتكلم إذاً؟!
يمكننا أن نلحظ في سيرة حجي مارع تكثيفاً لسيرة الآلاف من أبناء إحدى أكثر المناطق تهميشاً في سورية: الريف الحلبي، الذي بات وأهله زائدين عن اللزوم، وفق منظور أي «انفتاح» ليبرالي، والذي اكتشفت حداثتنا مؤخراً، بعد عقود من تمجيد «الفلاحين الكادحين»، مدى «تخلفه» و»تطرفه»، والانفجار السكاني الذي يشهده منبئاً بكل «الكوارث الاجتماعية» الممكنة. ترافق هذا مع الانحدار التدريجي لحال الريف اقتصادياً وزراعياً، نتيجة لممارسات الدولة «النيو بعثية» في عهد بشار.
بموازاة هذا التهميش المركّب، الاقتصادي والسياسي والثقافي، للمجتمعات «المتخلفة»، نمت الفئة الجديدة المستفيدة من خيرات «الانفتاح» في قلب مدينة حلب؛ برجوازية جديدة تحالفت مع البرجوازية التقليدية، وفئة وسطى ضيقة تزداد ازدهاراً، شكلتا معاً «المجتمع المدني» لدولة الأسد الابن.
عندما ثارت حلب وتظاهرت، سواء عبر جامعتها أو أحيائها العشوائية، كان لهؤلاء الريفيين، طلاباً أم أبناء عشائر وقرى يسكنون عشوائيات المدينة، الدور الأكبر في تثوير المدينة. بالأصح اجتاح الريف المدينة بثورته، ولم يتأخر باجتياحها عسكرياً، ليضرب بالعمق «مدنية» النظام، ويكسر، أو على الأقل يواجه، منظومة المالتوسية الجديدة التي فرضها «التطوير والتحديث».
أصبح للمدينة نمط غير مسبوق من القادة والمتحكمين، ليسوا من رجال النظام أو من تجار المدينة وبرجوازييها، بل هم من «رعاع» الريف، أبرزهم تاجر حبوب بسيط تكنّى بريفيته: «حجي مارع»؛ كنية أدخلت اسم البلدة المهمشة «مارع» ونعت «الحجي»، كما هو متداول في شفويات البشر في تلك المنطقة، إلى اللغة السياسية والإعلامية والثقافية، كمفردتين تعترف بهما اللغة السائدة، وتكون مجبرة على التعامل معهما باحترام.
بالتأكيد لم تكن كل ممارسات الغزاة الجدد ملائكية، وكما يحدث دائماً في تاريخ بلاد الشام عندما يجتاح البدو أو الريفيون المدن، لم تسلم المدينة من النهب والتدمير. ومع تجمّد مسيرة الحرب مع النظام، وتدفق الدعم الخارجي لبعض الفصائل، بدأت تظهر تغيرات أساسية على «النخب القيادية» التي ظهرت بين المقاتلين الريفيين: بعض هؤلاء «القادة» أصبحوا أمراء حرب بامتياز، وبعضهم الآخر تأطّر بشكل أكثر تنظيماً، وبات له، بصورة أو أخرى، طرح سياسي ما. في الحالتين فقدت الموجة الثورية الأولى عفويتها، ولم تعد تنتمي تماماً لحيوية اجتماعية غير مؤطرة، وباتت لـ «النخب» الجديدة ارتباطاتها ومصالحها التي لا تعبر بالضرورة عن الكل الاجتماعي الذي خرجت منه، وبالتأكيد مارست عليه أشكالاً من التحكم والهيمنة والسيطرة، ما أدى إلى ظهور فرز اجتماعي جديد في مجتمعات الثورة، بين «نخب» استفادت من الحرب القائمة والفئة الأكثر تضرراً من الحرب والدمار، وربما من ممارسات الفئة الأولى أيضاً، من دون أن يعني هذا الفرز بالضرورة تناقضاً جذرياً بين الفئتين.
فهم الفكرة الأخيرة ضروري لتحديد العلاقة الشديدة التركيب في بنية هذه المجتمعات الداخلية وفي علاقاتها مع الآخرين. فالتناقض المذكور لن يصبح في تقديرنا جذرياً ما دامت «النخبة» الجديدة لم تدمج بعد في سياق منظومة شاملة لعلاقات سلطوية مستحدثة، ترمم بها النخب السائدة القديمة سيطرتها، وتوسع قاعدة الحكم لتدخل فيها فئات أخرى، ومنها القيادات التي فرزتها الثورة، في إعادة إنتاج جديدة للنظام. وهو ما يبدو أن مشاريع «الحل السياسي» تسعى إليه.
ما زالت «نخب الثورة» الجديدة إذاً في حالة تناقض مع النظام، محتفظة بارتباطها، ولو بشكل مشوش وإشكالي، بتطلعات مجتمعاتها المنكوبة، وبالتالي ما زال الناس في تلك المجتمعات يعتبرون لواء التوحيد وغيره حماية لهم، بل قوة يفخرون بها تقيهم الانتهاك، ويرون في حجي مارع وأشباهه قادة محبوبين عملوا على كسر حالة التهميش الشامل الذي عانوه طويلاً.
«الأمير» الذي فرزته الثورة إذاً، ليس بالضرورة القائد البراغماتي الذي يستجمع قوى فئة اجتماعية معينة ويصلّب إرادتها لبناء دولتها ومجتمعها المدني والسياسي المكرس، كما هو في الكلاسيكيات السياسية الميكيافيلية. كما من الصعب عدّه حاملاً لنزعة نابوليونية عسكرية، وبالتأكيد ليس هو «الأمير الجديد» الذي حلم به غرامشي، أي الطليعة الثورية العضوية في طبقتها و»كتلتها التاريخية»، والتي تقودها نحو تحقيق طموحاتها الاجتماعية. إنه أبسط وأكثر تعقيداً في الآن ذاته من كل ما سبق: هو إنتاج مركب وموقت لحرب وجود معقدة وقاسية تخوضها مجتمعات مضطهدة، ضد سياسات واستراتيجيات فئات وقوى لا تسعى إلا إلى إبادتها، رمزياً ومادياً.
هي مجتمعات قبعت دوماً خارج المنظومة (القائمة أو الممكنة مستقبلاً) أو على هوامشها، ولذلك لا يمكنها فرض منظومة سلطوية بديلة. ورغم الدمار الكبير الذي أصابها، فإنها ستواصل، في تقديرنا، مواجهة كل «أمير» جديد يحاول إعادة إنتاج منظومة الهيمنة السلطوية عليها. وستنجح في ترميم ذاتها بقوة توقها إلى الحياة.
* كاتب سوري
الحياة